16-{ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } .
أي : تلك السدرة التي يحيط بها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله ما يحيط ، مما لا يحصره وصف ولا عدّ ، وهذا في رأي الأكثرين يشعر بالتعظيم والتكثير .
وقيل : غشيتها الملائكة لتنظر على النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج ، وقيل : تغشاها أنوار الله ، فما تستطيع العين أن تنظر إليها ، أو تنعتها من حسنها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"إذْ يغْشَى السّدْرَةَ ما يَغْشَى "يقول تعالى ذكره: ولقد رآه نزلة أخرى، إذ يغشى السدرة ما يغشى، فإذ من صلة رآه. واختلف أهل التأويل في الذي يغشى السدرة؛
فقال بعضهم: غَشِيَها فَرَاش الذهب...
وقال آخرون:... عن الربيع "إذْ يَغْشَى السّدْرَةَ ما يَغْشَى" قال: غشيها نور الربّ، وغشيتها الملائكة من حُبّ الله...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقال بعضهم في قوله تعالى: {إذ يغشى السّدرة ما يغشى} من أمر الله.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(إذ يغشى السدرة ما يغشى) معناه يغشى السدرة من النور والبهاء والحسن والصفاء الذي يروق الأبصار ما ليس لوصفه منتهى...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مَا يغشى} تعظيم وتكثير لما يغشاها، فقد علم بهذه العبارة أن ما يغشاها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله: أشياء لا يكتنهها النعت ولا يحيط بها الوصف...
وقد قيل: يغشاها الجم الغفير من الملائكة يعبدون الله عندها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيتها ثم حال دونها فراش الذهب». وقال الربيع وأبو هريرة: كان تغشاها الملائكة كما تغشى الطير الشجر، وقيل غير هذا مما هو تكلف في الآية، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فغشيها ألوان لا أدري ما هي؟»
ما الذي غشى السدرة؟ نقول فيه وجوه:
(الأول) فراش أو جراد من ذهب وهو ضعيف، لأن ذلك لا يثبت إلا بدليل سمعي، فإن صح فيه خبر فلا يبعد من جواز التأويل، وإن لم يصح فلا وجه له.
(الثاني) الذي يغشى السدرة ملائكة يغشونها كأنهم طيور، وهو قريب، لأن المكان مكان لا يتعداه الملك، فهم يرتقون إليه متشرفين به متبركين زائرين، كما يزور الناس الكعبة فيجتمعون عليها.
(الثالث) أنوار الله تعالى، وهو ظاهر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إليها تجلى ربه لها، كما تجلى للجبل، وظهرت الأنوار، لكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت، فجعل الجبل دكا، ولم تتحرك الشجرة، وخر موسى صعقا، ولم يتزلزل محمد.
(الرابع) هو مبهم للتعظيم، يقول القائل: رأيت ما رأيت عند الملك، يشير إلى الإظهار من وجه، وإلى الإخفاء من وجه.
{يغشى} يستر، ومنه الغواشي أو من معنى الإتيان، يقال فلا يغشاني كل وقت، أي يأتيني، والوجهان محتملان...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وصيغةُ المضارعِ لحكايةِ الحالِ الماضيةِ استحضاراً لصورتِها البديعةِ وللإيذانِ باستمرار الغشيانِ بطريقِ التجددِ.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وقد أبهم ذلك الكتاب الكريم، فعلينا أن نكتفي بهذا الإبهام ولا نزيده إيضاحا بلا دليل قاطع، ولا حجة بينة، ولو علم الله الخير لنا في البيان لفعل.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقوله: {إذ يغشى السدرة ما يغشى} ظرف مستقر في موضع الحال من {سدرة المنتهى} أريد به التنويه بما حفّ بهذا المكان المسمى سدرة المنتهى من الجلال والجمال. وفي حديث الإِسراء "حتى انتهَى بي إلى سدرة المنتهى وغشيها ألوان لا أدري ما هي» وفي رواية « غشيها نور من اللَّه ما يستطيع أحد أن ينظر إليها "
وما حصل فيه للنبي صلى الله عليه وسلم من التشريف بتلقّي الوحي مباشرة من الله دون واسطة الملَك ففي حديث الإِسراء « حتى ظَهرت بمستوىً أسمع فيه صريف الأقلام ففرض الله على أمتي خمسين صلاة» الحديث.
قوله تعالى : " إذ يغشى السدرة ما يغشى " قال ابن عباس والضحاك وابن مسعود وأصحابه : فراش من ذهب . ورواه مرفوعا ابن مسعود وابن عباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وقد تقدم في صحيح مسلم عن ابن مسعود قوله . وقال الحسن : غشيها نور رب العالمين فاستنارت . قال القشيري : وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غشيها ؟ قال : ( فراش من ذهب ) . وفي خبر آخر ( غشيها نور من الله حتى ما يستطيع أحد أن ينظر إليها ) . وقال الربيع بن أنس : غشيها نور الرب والملائكة تقع عليها كما يقع الغربان على الشجرة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( رأيت السدرة يغشاها فراش من ذهب ورأيت على كل ورقة ملكا قائما يسبح الله تعالى{[14368]} وذلك قوله : " إذ يغشى السدرة ما يغشى " ) ذكره المهدوي والثعلبي{[14369]} . وقال أنس بن مالك : " إذ يغشى السدرة ما يغشى " قال جراد من ذهب وقد رواه مرفوعا . وقال مجاهد : إنه رفرف أخضر . وعنه عليه السلام : ( يغشاها رفرف من طير خضر ) . وعن ابن عباس : يغشاها رب العزة ، أي أمره كما في صحيح مسلم مرفوعا : ( فلما غشيها من أمر الله ما غشي ) . وقيل : هو تعظيم الأمر ، كأنه قال : إذ يغشى السدرة ما أعلم الله به من دلائل ملكوته . وهكذا قوله تعالى : " فأوحى إلى عبده ما أوحى " " والمؤتفكة أهوى . فغشاها ما غشى " [ النجم : 53 ] ومثله : " الحاقة ما الحاقة{[14370]} " [ الحاقة : 1 ] . وقال الماوردي في معاني القرآن له : فإن قيل لم اختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر ؟ قيل : لأن السدرة تختص بثلاثة أوصاف : ظل مديد ، وطعم لذيذ ، ورائحة ذكية ، فشابهت الإيمان الذي يجمع قولا وعملا ونية ، فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه ، وطعمها بمنزلة النية لكمونه ، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره . وروى أبو داود في سننه قال : حدثنا نصر بن علي قال حدثنا أبو أسامة عن ابن جريج عن عثمان بن أبي سليمان عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم عن عبدالله بن حبشي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار ) وسئل أبو داود عن معنى هذا الحديث فقال : هذا الحديث مختصر يعني من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثا وظلما بغير حق يكون له فيها صوب الله رأسه في النار .
وزاد في تعظيمها بقوله : { إذ يغشى السدرة ما يغشى * } أي يغطيها ويركبها وسمره ؟ من فراش الذهب والرفرف الأخضر والملائكة والنبق وغير ذلك فإن الغشو النبق { ما يغشى } لا تحتملون وصفه وهو بحيث يكاد أن لا يحصى ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث : " وغشيها ، ألا وإني لا أدري ما هي فليس أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها " أو كما قال صلى الله عليه وسلم ،