الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِذۡ يَغۡشَى ٱلسِّدۡرَةَ مَا يَغۡشَىٰ} (16)

قوله تعالى : " إذ يغشى السدرة ما يغشى " قال ابن عباس والضحاك وابن مسعود وأصحابه : فراش من ذهب . ورواه مرفوعا ابن مسعود وابن عباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وقد تقدم في صحيح مسلم عن ابن مسعود قوله . وقال الحسن : غشيها نور رب العالمين فاستنارت . قال القشيري : وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غشيها ؟ قال : ( فراش من ذهب ) . وفي خبر آخر ( غشيها نور من الله حتى ما يستطيع أحد أن ينظر إليها ) . وقال الربيع بن أنس : غشيها نور الرب والملائكة تقع عليها كما يقع الغربان على الشجرة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( رأيت السدرة يغشاها فراش من ذهب ورأيت على كل ورقة ملكا قائما يسبح الله تعالى{[14368]} وذلك قوله : " إذ يغشى السدرة ما يغشى " ) ذكره المهدوي والثعلبي{[14369]} . وقال أنس بن مالك : " إذ يغشى السدرة ما يغشى " قال جراد من ذهب وقد رواه مرفوعا . وقال مجاهد : إنه رفرف أخضر . وعنه عليه السلام : ( يغشاها رفرف من طير خضر ) . وعن ابن عباس : يغشاها رب العزة ، أي أمره كما في صحيح مسلم مرفوعا : ( فلما غشيها من أمر الله ما غشي ) . وقيل : هو تعظيم الأمر ، كأنه قال : إذ يغشى السدرة ما أعلم الله به من دلائل ملكوته . وهكذا قوله تعالى : " فأوحى إلى عبده ما أوحى " " والمؤتفكة أهوى . فغشاها ما غشى " [ النجم : 53 ] ومثله : " الحاقة ما الحاقة{[14370]} " [ الحاقة : 1 ] . وقال الماوردي في معاني القرآن له : فإن قيل لم اختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر ؟ قيل : لأن السدرة تختص بثلاثة أوصاف : ظل مديد ، وطعم لذيذ ، ورائحة ذكية ، فشابهت الإيمان الذي يجمع قولا وعملا ونية ، فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه ، وطعمها بمنزلة النية لكمونه ، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره . وروى أبو داود في سننه قال : حدثنا نصر بن علي قال حدثنا أبو أسامة عن ابن جريج عن عثمان بن أبي سليمان عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم عن عبدالله بن حبشي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار ) وسئل أبو داود عن معنى هذا الحديث فقال : هذا الحديث مختصر يعني من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثا وظلما بغير حق يكون له فيها صوب الله رأسه في النار .


[14368]:ساقطة من ز، ل، هـ.
[14369]:بعد هذا نقل الجمل عن القرطبي في تفسيره ما يأتي: وقيل ملائكة تغشاها كأنهم طيور يرتقون إليها متشوقين متبركين زائرين كما يزور الناس الكعبة، وروى في حديث المعراج عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ذهب بي جبريل إلى سدرة المنتهى وأوراقها كأذان الفيلة وإذا ثمرها كقلال هجر" قال: "فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت فما أحد من خلق الله تعالى قدر أن ينعتها من حسنها فأوحى إلي ما أوحى ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة" وقيل" يغشاها أنوار الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إليها تجلى ربه لها كما تجلى للجبل فظهرت الأنوار لكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت فجعل دكا ولم تتحرك الشجرة، وخر موسى صعقا ولم يتزلزل محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: أبهمه تعظيما له. والغشيان يكون بمعنى التغطية.
[14370]:راجع جـ 18 ص 256.