قوله : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى } في نصب نزلة ثلاثة أوجه :
أحدها أنها منصوبة على الظرف ؛ قال الزمخشري : نصب الظرف الذي هو «مَرَّةً » ؛ لأن الفَعْلَةَ اسم للمرة من الفعل فكانت في حكمها{[53449]} . قال شهاب الدين : وهذا ليس مذهب البصريين وإنما هو مذهب الفَرَّاء{[53450]} نقله عنه مكي{[53451]} .
الثاني : أنها منصوبة نصب المصدر الواقع موقع الحال{[53452]} ، قال مكي : أي رَآهُ نازلاً نَزْلَةً أُخْرَى . وإليه ذهب الحَوْفيُّ وابنُ عَطِيَّةَ{[53453]} .
الثالث : أنه منصوب على المصدر المؤكد ، فقدره أبو البقاء مَرَّة أخرى أو رُؤْيةً أُخْرَى{[53454]} .
قال شهاب الدين : وفي تأويل نزلة «برؤية » نظر ، و«أخرى » تدل على سبق رؤية قبلها{[53455]} و«عِنْدَ سِدْرَةِ » ظرف ل «رَآهُ » و«عِنْدَهَا جَنَّةُ » جملة ابتدائية في موضع الحال{[53456]} ، والأحسن أن يكون الحال الظرف و«جنة المأوى » فاعل به . والعامة على ( جَنَّة ) اسم مرفوع . وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو الدَّرْدَاءِ وأبو هُرَيْرَة وابنُ الزبير وأنس وزِرّ بنُ حبيش ومحمد بن كعب ( جَنَّةُ ) فعلاً ماضياً{[53457]} . والهاء ضمير المفعول يعود للنبي صلى الله عليه وسلم .
والْمَأوَى فاعل بمعنى سَتَرَهُ إيواء الله تعالى . وقيل : المعنى ضمَّه المبيت والليل ، وقيل : جنَّهُ بِظِلاَلِهِ ودخل فيه . قال ابن الخطيب : والضمير في قوله ( عندها ) على هذه القراءة عائد إلى النزلة أي عند النزلة جَنَّ محمداً المأوى .
والصحيح أنه عائد إلى السِّدرة{[53458]} . وقد ردت عائشة - ( رضي الله عنها ) {[53459]} هذه القراءة وتبعها جماعةٌ وقالوا أجنَّ الله من قرأها{[53460]} . وإذا ثبتت قراءة عن مثل هؤلاء فلا سبيل{[53461]} إلى ردِّها ولكن المستعمل إنما هو أجنَّهُ رباعياً فإن استعمل ثلاثياً تعدى بعلى كقوله تعالى : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل } .
وقال أبو البقاء : وهو شاذ والمستعمل أَجَنَّهُ{[53462]} . وقد تقدم الكلام على هذه المادة في الأَنْعَامِ{[53463]} .
والواو في ( وَلَقَدْ ) يحتمل أن تكون عاطفة ، ويحتمل أن تكون للحال أي كيف تجادلونه فيما رآه وقد رآه على وجهٍ لا شك فيه{[53464]} ؟
واعلم أن قوله : ( نَزْلَةً ) هي فَعْلَةٌ من النزول كجَلْسَةٍ من الجُلُوس فلا بدّ من نُزُولٍ . واختلفوا في ذلك النزول وفيه وجوه :
الأول : أن الضمير في ( رآه ) عائد إلى الله تعالى ، أي رأى اللَّهَ نزلةً أخرى . وهذا قول من قال في قوله { مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى } هو الله تعالى . وقد قيل : بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بقلبه مرتين . وعلى هذا ففي النزول وجهان :
أحدهما : قول من يجوز على الله الحركة{[53465]} .
وثانيهما : أن النزول بمعنى القُرْبِ بالرَّحْمَةِ والفَضْلِ .
الثاني : أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رأى الله نزله أخرى ، والمراد من النزلة ضدها ، وهي العَرْجة كأنه قال : رآه عَرْجَةً أخرى{[53466]} قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما - ){[53467]} نزلة أخرى هو أنه كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - عَرَجَاتٌ في تلك الليلة لمسألة التخفيف من الصلوات فيكون لكل عرجة نزلة فرأى ربه في بعضها . وروي عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم{[53468]} - رأى ربه بفؤاده مرتين . وعنه أنه رأى ربَّه بعيْنَيْهِ{[53469]} .
القول الثاني : أن الضمير في ( رآه ) عائد إلى جبريل أي رأى جبريل نزلةً أخرى أي رأى جبريل في صورته التي خلق ( عليها ) {[53470]} نازلاً من السَّمَاء مرةً أخرى وذلك أنه رآه في صورته مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء { عِندَ سِدْرَةِ المنتهى } قال ابن الخطيب : ويحتمل أن تكون النَّزْلَةُ لمحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم{[53471]} - كما تقدم في العَرْجَانِ{[53472]} .
وقوله { عِندَ سِدْرَةِ المنتهى } المشهور أن السدرة شجرةٌ في السماء السابعة . وقيل : في السماء السادسة ، كما ورد عنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنه قال : «نَبْقُهَا كَقِلاَل هَجَرَ ، وَوَرَقَهُا كَآذَان الفِيَلَةِ » .
وقيل : سدرة المنتهى الحيرة القصوى من السدرة . والسدرة كالركبة من الراكب . يعني عندها يَحَار العقل حيرةً لا حيرة فوقها ، وما حار النبي - صلى الله عليه وسلم - وما غاب ورَأَى مَا رَأَى .
وهل قوله : { عِندَ سِدْرَةِ المنتهى } ظرف مكان أو ظرف زمان في هذا الموضع ؟
قال ابن الخطيب : المشهور أنه ظرف مكان أي رأى جبريل أو غيره بقرب سدرة المنتهى . وقيل : ظرف زمان كما يقال : صليت عِنْدَ طُلُوع الفَجْر ، والتقدير رآه عند الحِيرة القُصْوَى أي في الزمان الذي يَحَار فيه عقل العقلاء . فهو عليه الصلاة والسلام ما حار مما من شأنه أن يحار العاقل فيه .
فإن قيل : هذا التأويل يبطل بقوله : { يغشى السّدرة ما يغشى } فالجواب : أن المراد من الغشيان غشيان حالة على حالة أي ورد على حالة الحيرة حال الرؤية واليقين وأن محمداً عندما يحار العقل مما رآه وقت ما طرأ على تلك الحالة ما طرأ من فضل الله ورحمته .
والصحيح الأول{[53473]}
إذا قِيلَ بأنَّ{[53474]} محمداً - عليه الصلاة والسلام - رأى الله فمعناه أنه رآه عند سدرة المنتهى . والظرف قد يكون ظرفاً للرائي كما إذا قال القائل : رَأَيْتُ الهِلاَلَ فيقال ( له ){[53475]} أينَ{[53476]} رأيتَهُ ؟ فيقول عَلَى السطح وقد يقول عند الشجرة الفلانية . وأما قول من قال : بأن الله تعالى في مكان فذلك باطل . وإن قيل : بأن المرئي جبريل - عليه الصلاة والسلام - فظاهرٌ{[53477]} .
إضافة السدرة إلى المنتهى يحتمل وجوهاً :
أحدها : إضافة الشيء إلى مكانه كقولك : أشجار بلدةِ كَذَا ، فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه مَلَكٌ{[53478]} قال هلال بْنُ يَسَار : سأل ابن عباس كعباً عن سِدرة المنتهى وأنا حاضر فقال كعب : إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش ، وإليها ينتهي عِلم الخلائق وما خلقها غيب لا يعلمه إلاَّ الله{[53479]} . وقيل : ينتهي إليها ما يهبط من فوقها ويصعد من تحتها . وقال كعب : ينتهي إليها الملائكة والأنبياءُ . وقال الربيع : ينتهي إليها أرواح الشهداء . وقال قتادة{[53480]} : ينتهي إليها أرواح المؤمنين{[53481]} .
ثانيها : إضافة المحلِّ إلى الحالِّ فيه كقولك : كتابُ الْفِقهِ ، وعلى هذا فالتقدير سدرة عندها{[53482]} مُنْتَهَى العلوم .
ثالثها : إضافة المِلْكِ إلى مالكه كقولك : دَارُ زَيْدٍ ، وشَجَرَةُ زَيْدٍ ، وحينئذ فالمنتهى إليه محذوف تقديره سدرة المنتهى إليه ، قال تعالى : { وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى } فالمنتهى إليه هو الله تعالى وإضافة السِّدْرَة إليه حينئذ كإضافةِ البَيْتِ إليه للتشريف والتعظيم ، كما يقال في التسبيح : يا غايَةَ رغبَتَاهُ يا منتهى أملاَهُ{[53483]} .
وجنة المأوى قيل : هي الجنة التي وعد بها المتقون ، كقوله : { دَارَ المقامة } [ فاطر : 35 ] . وقيل : هي جنة أخرى عندها تكون أرواح الشهداء وقيل : هي جنة الملائكة{[53484]} .
قوله : ( إذْ يَغْشَى ) منصوب ب ( رَآهُ ) وقوله : «مَا يَغْشَى » كقوله : { مَا أوحى } [ النجم : 10 ] . وقال ابن الخطيب العامل في ( إذْ ) ما قبلها أو ما بعدها ؟ فيه وجهان :
فإنْ قلنا : ما قبلها ففيه احتمالان :
أظهرهما : «رآه » أي رآه وقت ما يغشى السِّدْرة الذي يغشى .
والثاني : العامل فيه الفعل الذي في النزلة أي رآه نزلةً أخرى تلك النزلة وقت ما يغشى السِّدرة ما يغشى أي نزوله لم يكن إلاَّ بعدما ظهرت العجائب عند السدرة ، وغَشِيهَا مَا غشي .
وإن قلنا : العامل فيها ما بعدها فالعامل فيه { مَا زَاغَ البصر } أي ما زاغ بصره وَقْتَ غَشَيَان السِّدْرَةِ ما غَشِيَهَا{[53485]} .
اختلفوا فيما يَغْشَى السدرة فقيل : فَرَاشٌ وَجَرَادٌ مِنْ ذَهب{[53486]} . وهو قول ابن عباس ، وابن مسعود ، والضحاك . قال القرطبي : وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «رأيتُ السِّدْرَة يَغْشَاها فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ ، وَرَأَيْتُ عَلَى كُلّ وَرْدَةٍ مَلَكاً قَائِماً يُسَبِّح » ؛ وذلك قوله تعالى : { إِذْ يغشى السّدرة مَا يغشى }{[53487]} . قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف لأن ذلك لا يثبت إلاَّ بدليل سَمْعِيٍّ فإن صح فيه خبر{[53488]} وإلاَّ فلا وجه له .
وقيل : ملائكة يَغْشَوْنَها كأنهم طيورٌ{[53489]} يرتَقُونَ إليها متشرِّفين متبرِّكين بها زائرين كما يزور الناس الكعبة .
وقيل : يغشاها أنوار الله ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وصل إليها تجلّى ربه لها كما تجلى للجبل فظهرت الأنوار لكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت فجعل الجبل دكًّا ولم تتحرك الشجرة ، وخَرَّ موسى صَعِقاً ولم يتزلزل محمد . وقيل : أبهمه تعظيماً له{[53490]} . والْغشَيَانُ{[53491]} يكون بمعنى التغطية والسَّتْر ومنه الغَوَاشِي{[53492]} ، ويكون بمعنى الإتيان ، يقال : فُلاَنٌ يَغْشَانِي كُلَّ وقت أي يأتِيني .
قال المارودي في معاني القرآن : قيل : لما اختيرت السدرةُ لهذا الأمر دون غيرها من الشجر ؟ قال : لأن السدرة تختص بثلاثة أوصاف : ظلٍّ مديدٍ ، وطعمٍ لذيذٍ ، ورائحة زكيةٍ فشابهت الإيمانَ الذي يجمع قولاً وعملاً ونيةً ، فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه وطعمها بمنزلة النية لكمونه ، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره . وروى أبو الدرداء عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال : «مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ » وسئل أبو الدرداء عن معنى هذا الحديث فقال : هو مختصر بمعنى من قطع سدرة في فَلاَةٍ يستظل بها ابن السَّبيل والبهائم عبثاً وظُلْماً بغير حق يكون له فيها صوَّب الله رأسه في النار{[53493]} .