( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات - ثم لم يتوبوا - فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار . ذلك الفوز الكبير ) . .
إن الذي حدث في الأرض وفي الحياة الدنيا ليس خاتمة الحادث وليس نهاية المطاف . فالبقية آتية هناك . والجزاء الذي يضع الأمر في نصابه ، ويفصل فيما كان بين المؤمنين والطاغين آت . وهو مقرر مؤكد ، وواقع كما يقول عنه الله :
( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ) . . ومضوا في ضلالتهم سادرين ، لم يندموا على ما فعلوا ( ثم لم يتوبوا ) . . ( فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ) . . وينص على( الحريق ) . وهو مفهوم من عذاب جهنم . ولكنه ينطق به وينص عليه ليكون مقابلا للحريق في الأخدود . وبنفس اللفظ الذي يدل على الحدث . ولكن أين حريق من حريق ? في شدته أو في مدته ! وحريق الدنيا بنار يوقدها الخلق . وحريق الآخرة بنار يوقدها الخالق ! وحريق الدنيا لحظات وتنتهي ، وحريق الآخرة آباد لا يعلمها إلا الله ! ومع حريق الدنيا رضى الله عن المؤمنين وانتصار لذلك المعنى الإنساني الكريم . ومع حريق الآخرة غضب الله ، والارتكاس الهابط الذميم !
عذاب الحريق : هو عذاب جهنم ، ذكر تفسيرا وبيانا له .
10- إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق .
الفتنة والفتن : الاختبار والامتحان ، تقول : فتنت الذهب بالنار ، أي : اختبرته لأعلم جيده من رديئه .
والمراد هنا : عذبوا المؤمنين والمؤمنات بألوان العذاب ، والآية تشمل أصحاب الأخدود شمولا أوليّا ، وتشمل أهل مكة الذي فتنوا المؤمنين بمكة ، وتشمل كل من فتن مؤمنا وعذّبه ولم يتب إلى الله تعالى إلى يوم القيامة . وأنا أكتب هذه السطور تطالعنا الصحف بأن أحد جنرالات فرنسا كتب في مذكّراته عن حرب الجزائر أنه تلقى تعليمات بتعذيب فدائيين جزائريين في زنزانات منفردة حتى يعترفوا على زملائهم ، وأن أبطال الجزائر كانوا يموتون تحت العذاب دون أن يعترفوا على زملائهم ، ونشرت هذه الاعترافات في فرنسا وفيها أن آلافا من المحاربين ماتوا في الزنزانات تحت العذاب .
إن الذين عذّبوا المؤمنين والمؤمنات وفتنوهم في دينهم ، طالبين رجوعهم عن الحق إلى الكفر ، ثم لم يتوبوا إلى الله بالندم والإقلاع والرجوع إلى الله ، فلهم عذاب جهنم ، وما فيه من حميم وغسّاق ، ونار مستعرة أوقدها الجبار سبحانه ، ونار الدنيا جزء من سبعين جزءا من نار الآخرة .
ولما كان أصحاب الأخدود قد أحرقوا المؤمنين في نار الأخدود ، نصّ على أن هؤلاء القساة الغلاظ المعتدين ينتظرهم عذاب جهنم .
ولهم عذاب الحريق . أي : كما حرّقوا المؤمنين بنار الدنيا ، فسيحترقون هم بنار الآخرة ، لكن شتان بين النارين ، ونار الدنيا أوقدها العبيد ، ونار الآخرة أوقدها الخالق المجيد ، فالجزاء من جنس العمل .
انظروا إلى هذا الكرم والجود ، قتلوا أولياءه ، وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة .
وهذا يدل على أن الآية توجيه لأهل مكة ، ولكل كافر أن أقلعوا عن كفركم وظلمكم ، وتوبوا إلى ربكم قبل فوات الأوان .
{ إن الذين فتنوا } عذبوا وأحرقوا ، { المؤمنين والمؤمنات } يقال : فتنت الشيء إذا أحرقته ، نظيره { يوم هم على النار يفتنون }( الذاريات- 13 ) ، { ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم } بكفرهم ، { ولهم عذاب الحريق } بما أحرقوا المؤمنين . وقيل : ولهم عذاب الحريق في الدنيا ، وذلك أن الله أحرقهم بالنار التي أحرقوا بها المؤمنين ، ارتفعت إليهم من الأخدود ، قاله الربيع بن أنس والكلبي .
ولذلك قال مستأنفاً جواباً لمن يقول : فما{[72495]} فعل بهم ؟ مؤكداً لإنكار الكفار ذلك : { إن الذين فتنوا } أي خالطوا من الأذى بما لا تحتمله القوى فلا بد أن يميل{[72496]} أو يحيل في أي زمان كان ومن أي قوم كانوا { المؤمنين والمؤمنات } أي ذوي الرسوخ في وصف الإيمان .
ولما كانت التوبة مقبولة قبل الغرغرة {[72497]}ولو{[72498]} طال الزمان ، عبر بأداة التراخي فقال : { ثم لم يتوبوا } أي عن ذنوبهم وكفرهم . ولما كان سبحانه لا يعذب أحداً إلا بسبب ، سبب عن ذنبهم وعدم توبتهم قوله : { فلهم } أي خاصة لأجل كفرهم { عذاب جهنم } أي الطبقة التي تلقى داخلها بغاية الكراهة والتجهم ، هذا في الآخرة { ولهم } أي مع ذلك في الدارين لأجل فتنتهم لأولياء الله { عذاب الحريق * } أي العذاب الذي من شأنه المبالغة في الإحراق بما أحرقوا من قلوب الأولياء ، وقد صدق سبحانه قوله هذا فيمن كذب النبي صلى الله عليه وسلم بإهلاكهم شر إهلاك{[72499]} مغلوبين مقهورين مع أنهم كانوا قاطعين بأنهم غالبون{[72500]} كما فعل بمن كان قبلهم ، فدل ذلك على أنه على كل شيء قدير ، فدل{[72501]} على أنه يبدئ ويعيد .