في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلَّيۡلِ إِذَا يَغۡشَىٰ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الليل مكية وآياتها إحدى وعشرون

في إطار من مشاهد الكون وطبيعة الإنسان تقرر السورة حقيقة العمل والجزاء . ولما كانت هذه الحقيقة منوعة المظاهر : ( إن سعيكم لشتى . فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى . وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ) . . وكانت العاقبة كذلك في الآخرة مختلفة وفق العمل والوجهة : ( فأنذرتكم نارا تلظى . لا يصلاها إلا الأشقى . الذي كذب وتولى . وسيجنبها الأتقى ، الذي يؤتي ماله يتزكى . . ) .

لما كانت مظاهر هذه الحقيقة ذات لونين ، وذات اتجاهين . . كذلك كان الإطار المختار لها في مطلع السورة ذا لونين في الكون وفي النفس سواء : ( والليل إذا يغشى . والنهار إذا تجلى ) . . ( وما خلق الذكر والأنثى ) . . وهذا من بدائع التناسق في التعبير القرآني .

( والليل إذا يغشى . والنهار إذا تجلى . . وما خلق الذكر والأنثى ) . . .

يقسم الله - سبحانه - بهاتين الآيتين : الليل والنهار . مع صفة كل منهما الصفة المصورة للمشهد . ( والليل إذا يغشى ) . ( والنهار إذا تجلى ) . . الليل حين يغشى البسيطة ، ويغمرها ويخفيها .

والنهار حين يتجلى ويظهر ، فيظهر في تجليه كل شيء ويسفر . وهما آنان متقابلان في دورة الفلك ، ومتقابلان في الصورة ، ومتقابلان في الخصائص ، ومتقابلان في الآثار . . كذلك يقسم بخلقه الأنواع جنسين متقابلين : ( وما خلق الذكر والأنثى ) . . تكملة لظواهر التقابل في جو السورة وحقائقها جميعا .

والليل والنهار ظاهرتان شاملتان لهما دلالة توحيان بها إيحاء للقلب البشري ؛ ولهما دلالة كذلك أخرى عند التدبر والتفكر فيهما وفيما وراءهما . والنفس تتأثر تأثرا تلقائيا بتقلب الليل والنهار . الليل إذا يغشى ويعم ، والنهار إذا تجلى وأسفر . ولهذا التقلب حديث وإيحاء . حديث عن هذا الكون المجهول الأسرار ، وعن هذه الظواهر التي لا يملك البشر من أمرها شيئا . وإيحاء بما وراء هذا التقلب من قدرة تدير الآونة في الكون كما تدار العجلة اليسيرة ! وبما هنالك من تغير وتحول لا يثبت أبدا على حال .

ودلالتهما عند التدبر والتفكر قاطعة في أن هنالك يدا أخرى تدير هذا الفلك ، وتبدل الليل والنهار . بهذا الانتظام وهذا الاطراد وهذه الدقة . وأن الذي يدير الفلك هكذا يدير حياة البشر أيضا . ولا يتركهم سدى ، كما أنه لا يخلقهم عبثا .

ومهما حاول المنكرون والمضلون أن يلغوا في هذه الحقيقة ، وأن يحولوا الأنظار عنها ، فإن القلب البشري سيظل موصولا بهذا الكون ، يتلقى إيقاعاته ، وينظر تقلباته ، ويدرك تلقائيا كما يدرك بعد التدبر والتفكر ، أن هنالك مدبرا لا محيد من الشعور به ، والاعتراف بوجوده من وراء اللغو والهذر ، ومن وراء الجحود والنكران !

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{وَٱلَّيۡلِ إِذَا يَغۡشَىٰ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الليل

أهداف سورة الليل

( سورة الليل مكية ، وآياتها 21 آية ، نزلت بعد سورة الأعلى )

وتصف السورة مشاهد الكون ، ومظاهر القدرة ، وتقرر حقيقة العمل والجزاء ، وتبين أن الجزاء الحق من جنس العمل .

ونلاحظ في السورة التقابل بين الليل والنهار ، والذكر والأنثى ، ومن أعطى واتقى ومن بخل واستغنى ، وبين الأشقى الذي كذّب وتولى والأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى ، وهذا من بدائع التناسق في التعبير القرآني .

مع آيات السورة

1-4- والليل إذا يغشى* والنهار إذا تجلّى* وما خلق الذّكر والأنثى* إن سعيكم لشتى .

يقسم الله سبحانه وتعالى بالليل حين يغشى البسيطة ، ويغمرها ويخفيها ، وبالنهار حين يتجلى ويظهر ، فيظهر في تجليه كل شيء ويسفر .

ويقسم بالقادر العظيم الذي خلق الذكر والأنثى ، وميز بين الجنسين مع أن المادة التي تكوّنا منها واحدة ، والمحل الذي تكونا فيه واحد .

يقسم الله بهذه الظواهر والحقائق المتقابلة في الكون وفي الناس ، على أن سعي الناس مختلف ، وعملهم متباعد ومتفرق ، فمنه السيئ ومنه الحسن ، ومنه التقوى ومنه الفجور ، ومنه ما يجازى عليه بالنعيم المقيم ، ومنه ما يعاقب عليه بالعذاب الأليم .

5-11- فأما من أعطى واتّقى* وصدّق بالحسنى* فسنيسّره لليسرى* وأما من بخل واستغنى* وكذّب بالحسنى* فسنيسّره للعسرى* وما يغني عنه ماله إذا تردّى .

فأما من أعطى الفقراء ، وأنفق المال في وجوه الخير ، وراقب الله وابتعد عن المحرمات ، وأيقن أن الله سيخلف عليه ما أنفق ، مصدقا بالفضيلة ، ومميزا بينها وبين الرذيلة ، وابتعد عن طريق الغواية ، فسنيسّره لليسرى . فسنجعل اليسر يفيض من نفسه على كل من حوله ، اليسر في خطوه ، واليسر في طريقه ، واليسر في تناوله للأمور كلها ، والتوفيق الهادئ المطمئن في كلياتها وجزئياتها .

وأما من بخل بماله ، واستغنى عن ربه وهداه ، وكذّب بالدين الحق ، ولم يصدق بأن الله سيخلف على المنفقين ، وسيجزي المحسنين ، فسنيسّره للعسرى . فيسلب الله منه الهدى واليسر ، ويحرمه كل تيسير ، ويجعل في كل خطوة من خطاه مشقة وحرجا ، ينحرف به عن طريق الرشاد ، فإذا تردّى وسقط في نهاية العثرات والانحرافات لم يغن عنه ماله الذي بخل به ، والذي استغنى به كذلك عن الهدى والسداد .

16- إن علينا للهدى . أي : إن خلقنا الإنسان وألهمناه التمييز بين الحق والباطل وبين الخير والشر ، ثم أرسلنا له الرسل ، وأنزلنا له الكتب لترشده إلى الهداية والإيمان .

13- وإنّ لنا للآخرة والأولى . وإنا المالكون لكل ما في الآخرة ولكل ما في الأولى ، فأين يذهب من يريد أن يذهب بعيدا عن الله ؟

14-15- فأنذرناكم نارا تلظّى* لا يصلاها إلا الأشقى . وإن من هداية الله للبشر ، أن خوفنا رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم نارا تلظى : تتسعر ألسنة لهبها ، هذه النار لا يقاسي حرها إلا أشد الناس شقاوة ، وهو الكافر .

16- الذي كذّب وتولّى . الذي كذب بالدعوة ، وكذّب الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به عن ربه من الآيات ، وأعرض أيضا عن اتباع شرائعه ، وانصرف عن الحق دون دليل يستند إليه ، حتى صار التكذيب والإعراض أبرز أوصافه .

17-21- وسيجنّبها الأتقى* الذي يؤتي ماله ، يتزكّى . . . وسيبعد عن النار من اتقى الله ، وابتعد عن الموبقات ، والذي ينفق أمواله في وجوه البر ، طالبا بذلك طهارة نفسه وقربها من ربه ، ولا يريد بذلك رياء على معروف ، وإنما يقدم الخير ابتغاء مرضاة الله ، وحبّا في ذاته سبحانه ، ولسوف يرضى من فعل ذلك بأحسن ثواب ، في أفضل مكان وفي أحسن جوار .

روي أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وقد كان من أمره أن بلال بن رباح –وكان مولى لعبد الله بن جدعان- دخل في الإسلام ، فكان سيده يعذبه ، ويخرجه إلى الرمضاء في حر الظهيرة ، ويضع الحجر على بطنه ، ويقول له : لا تزال كذلك حتى تموت أو تكفر بمحمد ، فلا يزيد بلال على أن يقول : أحد أحد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر به وهو يعذب فيقول له : ( ينجيك أحد أحد ) ، ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه بما يلقى بلال في الله ، فاشتراه أبو بكر وأعتقه ، فقال المشركون : ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده ، فنزل قوله تعالى : وسيجنّبها الأتقى . . . إلى آخر السورة .

مقاصد السورة

1- بين أن الناس في الدنيا فريقان :

( أ‌ ) فريق يهيئه الله للخصلة اليسرى ، وهم الذين أعطوا الأموال لمن يستحقها وصدقوا بما وعد الله من الإخلاف على من أنفق .

( ب‌ ) وفريق يهيئه الله لخصلة المؤدية إلى العسر والشدة ، وهم الذين بخلوا بالأموال ، واستغنوا بالشهوات ، وأنكرو ما وعد الله به من ثواب الجنة .

2- الجزاء في الآخرة من جنس العمل ، فالأشقى له النار ، والأتقى له الجنة والرضوان .

اختلاف مسعى الناس

بسم الله الرحمان الرحيم

{ والليل إذا يغشى 1 والنهار إذا تجلّى 2 وما خلق الذّكر والأنثى 3 إنّ سعيكم لشتّى 4 فأما من أعطى واتّقى 5 وصدّق بالحسنى 6 فسنيسّره لليسرى 7 وأما من بخل واستغنى 8 وكذّب بالحسنى 9 فسنيسّره للعسرى 10 وما يغني عنه ماله إذا تردّى 11 }

المفردات :

يغشى : يغطي كل شيء فيواريه بظلامه .

التفسير :

1 ، 2 ، 3- والليل إذا يغشى* والنهار إذا تجلّى* وما خلق الذّكر والأنثى .

أقسم بالليل حين يغطي بظلامه كل ما كان مضيئا ، حيث يأوي كل حيوان إلى مأواه ، ويسكن الخلق عن الاضطراب والضرب في الأرض ، ويغشاهم النوم الذي جعله الله راحة لأبدانهم وغذاء لأرواحهم .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَٱلَّيۡلِ إِذَا يَغۡشَىٰ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة الليل مكية .

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

قال القفال رحمه الله : نزلت هذه السورة في أبي بكر وإنفاقه على المسلمين ، وفي أمية بن خلف وبخله وكفره بالله ، إلا أنها وإن كانت كذلك لكن معانيها عامة للناس ، ألا ترى أن الله تعالى قال : { إن سعيكم لشتى } وقال : { فأنذرتكم نارا تلظى } ويروى عن علي عليه السلام أنه قال : «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعدنا حوله فقال : ما منكم نفس منفوسة إلا وقد علم الله مكانها من الجنة والنار ، فقلنا يا رسول الله أفلا نتكل ؟ فقال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له » { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى } فبان بهذا الحديث عموم هذه السورة . ...

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

...اختلف في سبب نزولها؛ فالجمهور على أنها نزلت في شأن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وروي ذلك بأسانيد صحيحة عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما ...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

في إطار من مشاهد الكون وطبيعة الإنسان تقرر السورة حقيقة العمل والجزاء . ولما كانت هذه الحقيقة منوعة المظاهر : ( إن سعيكم لشتى . فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى . وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ) . . وكانت العاقبة كذلك في الآخرة مختلفة وفق العمل والوجهة : ( فأنذرتكم نارا تلظى . لا يصلاها إلا الأشقى . الذي كذب وتولى . وسيجنبها الأتقى ، الذي يؤتي ماله يتزكى . . ) .

لما كانت مظاهر هذه الحقيقة ذات لونين ، وذات اتجاهين . . كذلك كان الإطار المختار لها في مطلع السورة ذا لونين في الكون وفي النفس سواء : ( والليل إذا يغشى . والنهار إذا تجلى ) . . ( وما خلق الذكر والأنثى ) . . وهذا من بدائع التناسق في التعبير القرآني .

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

احتوت على بيان شرف المؤمنين وفضائل أعمالهم ومذمة المشركين ومساويهم وجزاء كل . وأن الله يهدي الناس إلى الخير فهو يجزي المهتدين بخير الحياتين والضالين بعكس ذلك . وأنه أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم للتذكير بالله وما عنده فينتفع من يخشى فيفلح ويصدف عن الذكرى من كان شقيا فيكون جزاؤه النار الكبرى وأولئك هم الذين صدهم عن التذكر إيثار حب ما هم فيه في هذه الحياة . وأدمج في ذلك الإشارة إلى دلائل قدرة الله تعالى وبديع صنعه .

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

في السورة تصنيف الناس حسب أعمالهم ، وتنويه بصالح العمل وأصحابه ، وتنديد بسيئ العمل وأصحابه وإنذارهم . وفيها تنويه بمن يتزكى بماله ، وتنديد بالبخل والمنع . وأسلوبها كسابقتها من حيث دلالته على احتوائها عرضاً عاماً للدعوة ، وعلى تبكير نزولها قبل غيرها الذي احتوى مشاهد ومواقف حجاجية وتكذيبية . وبين السورتين من التوافق في المبنى والأسلوب والجرس ما يلهم أنهما نزلتا متتابعتين . ...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

هذه السورة المكية أرادت للإنسان أن يطوف بفكره في مشاهد الكون المتنوعة ، وفي واقع الخلق ، فهناك الليل والنهار ، وهناك الذكر والأنثى ....فهناك الذي يعطي من ماله وجهده وعلمه ....وهناك الذي يبخل بماله الذي يملك الكثير منه ، فلا يعطي منه شيئاً للمحرومين ، ويكذب بالحسنى ، وهذا هو الذي ييسّره الله للعسرى ، فيضيّق عليه في الدنيا والآخرة ، ولا يستطيع أن يتفادى ذلك بواسطة ماله . ويؤكد الله بأنه هو الذي يوجه الناس نحو الهدى ، وأن أمر الآخرة والأولى بيده ...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

هذه السّورة مكّية تحمل كلّ خصائص السور المكّية من قصَر في الآيات ، وحرارة في طرح المحتوى ، وتركز أساساً على القيامة وعلى ما في ذلك اليوم من جزاء وعقاب . بعد القسم بثلاث ظواهر في بداية السّورة يأتي تقسيم النّاس إلى منفقين متّقين ، وبخلاء منكرين ، وتذكر عاقبة كلّ مجموعة ؛ اليُسر والسعادة والهناء للمجموعة الاُولى ، والعُسر والضنك والشقاء للمجموعة الثّانية . وفي مقطع آخر من السّورة إشارة إلى أنّ الهداية من اللّه سبحانه لعباده هي إنذارهم من النّار يوم القيامة . ثمّ تذكر السّورة في نهايتها من يدخل هذه النّار ومن ينجو منها ، مع ذكر أوصاف الفريقين . ...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره مُقسِما بالليل إذا غَشّى النهار بظلمته ، فأذهب ضوءه ، وجاءت ظُلمته : "واللّيْلِ إذَا يَغْشَى" النهار...

"والنّهارِ إذا تَجَلّى" وهذا أيضا قسم ، أقسم بالنهار إذا هو أضاء فأنار ، وظهر للأبصار ما كانت ظلمة الليل قد حالت بينها وبين رؤيته وإتيانه إياها عيانا . وكان قتادة يذهب فيما أقسم الله به من الأشياء أنه إنما أقسم به لعِظَم شأنه عنده .

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

جعل الله تعالى الليل والنهار آيتين عظيمتين ظاهرتين مكررتين على الخلائق ما يعرف كل كافر ومؤمن وجميع أهل التنازع الذين تنازعوا : أهل الإيمان والتوحيد والجبابرة والفراعنة. والقسم بقوله : { والضحى } [ وقوله ] { والليل إذا سجى } [ الضحى : 1 و2 ] واحد . وقد ذكرنا أن القسم إنما يذكر في تأكيد ما يقع به القسم ما لولا القسم لكان ذلك يوجب دون القسم ؛ وذلك لعظم ما فيهما حتى قهرا جميع الفراعنة والجبابرة ، وغلبا عليهم في إتيانهما وذهابهما حتى إن من أراد منهم دفع هذا ومجيء هذا ما قدروا عليه . وفيهما دلالة وحدانيته وألوهيته ، فاتساقهما أو جريانهما على حد واحد وسنن واحد مذ كانا ، وأنشئا من الظلمة والنور والزيادة والنقصان ، فدل جريانهما على ما ذكرنا أن منشئهما واحد ، إذ لو كان فعل عدد لكان إذا جاء هذا ، وغلب الآخر دامت غلبته عليه ، وكذلك الآخر يكون مغلوبا أبدا والآخر غالبا . فإذا لم يكن ذلك دل أنه فعل واحد.....

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

هذا قسم من الله تعالى بالليل إذا غشيه الظلام ، فأظلم وادلهم وغشي الأنام لما في ذلك من الهول المحرك للنفس بالاستعظام . ثم أقسم بالنهار إذا تجلى ، ومعناه إذا أنار وظهر للأبصار لما في ذلك من الاعتبار . وقيل التقدير والليل إذا يغشى النهار ، فيذهب بضوئه . ...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

المغشي : إما الشمس من قوله : { واليل إِذَا يغشاها } [ الشمس : 4 ] وإما النهار من قوله : { يغشي الليل النهار } [ الرعد : 3 ] وإما كلّ شيء يواريه بظلامه من قوله : { إِذَا وَقَبَ } [ الفلق : 3 ] . ...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى أقسم بالليل الذي يأوي فيه كل حيوان إلى مأواه ويسكن الخلق عن الاضطراب ويغشاهم النوم الذي جعله الله راحة لأبدانهم وغذاء لأرواحهم ، ثم أقسم بالنهار إذا تجلى ، لأن النهار إذا جاء انكشف بضوئه ما كان في الدنيا من الظلمة ، وجاء الوقت الذي يتحرك فيه الناس لمعاشهم....

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ والّيل } أي الذي هو آية الظلام الذي هو سبب الخبط والخلط لما يحدث عنه من الإشكال واللبس في الأحوال والإهلال الموصل إلى ظلمة العدم ، وهو محل الأسرار بما يصل الأخيار ويقطع الأشرار : { إذا يغشى } أي يغطي ما كان من الوجود مبصراً بضياء النهار على التدريج قليلاً قليلاً ، وما يدل عليه من جليل مبدعه ، وعظيم ماحقه ومطلعه.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

( والليل إذا يغشى . والنهار إذا تجلى . . وما خلق الذكر والأنثى ) . . .

يقسم الله - سبحانه - بهاتين الآيتين : الليل والنهار . مع صفة كل منهما الصفة المصورة للمشهد . ( والليل إذا يغشى ) . ( والنهار إذا تجلى ) . . الليل حين يغشى البسيطة ، ويغمرها ويخفيها .

والنهار حين يتجلى ويظهر ، فيظهر في تجليه كل شيء ويسفر . وهما آنان متقابلان في دورة الفلك ، ومتقابلان في الصورة ، ومتقابلان في الخصائص ، ومتقابلان في الآثار . . كذلك يقسم بخلقه الأنواع جنسين متقابلين : ( وما خلق الذكر والأنثى ) . . تكملة لظواهر التقابل في جو السورة وحقائقها جميعا .

والليل والنهار ظاهرتان شاملتان لهما دلالة توحيان بها إيحاء للقلب البشري ؛ ولهما دلالة كذلك أخرى عند التدبر والتفكر فيهما وفيما وراءهما . والنفس تتأثر تأثرا تلقائيا بتقلب الليل والنهار . الليل إذا يغشى ويعم ، والنهار إذا تجلى وأسفر . ولهذا التقلب حديث وإيحاء . حديث عن هذا الكون المجهول الأسرار ، وعن هذه الظواهر التي لا يملك البشر من أمرها شيئا . وإيحاء بما وراء هذا التقلب من قدرة تدير الآونة في الكون كما تدار العجلة اليسيرة ! وبما هنالك من تغير وتحول لا يثبت أبدا على حال .

ودلالتهما عند التدبر والتفكر قاطعة في أن هنالك يدا أخرى تدير هذا الفلك ، وتبدل الليل والنهار . بهذا الانتظام وهذا الاطراد وهذه الدقة . وأن الذي يدير الفلك هكذا يدير حياة البشر أيضا . ولا يتركهم سدى ، كما أنه لا يخلقهم عبثا .

ومهما حاول المنكرون والمضلون أن يلغوا في هذه الحقيقة ، وأن يحولوا الأنظار عنها ، فإن القلب البشري سيظل موصولا بهذا الكون ، يتلقى إيقاعاته ، وينظر تقلباته ، ويدرك تلقائيا كما يدرك بعد التدبر والتفكر ، أن هنالك مدبرا لا محيد من الشعور به ، والاعتراف بوجوده من وراء اللغو والهذر ، ومن وراء الجحود والنكران !

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

افتتاح الكلام بالقسم جار على أسلوب السورتين قبل هذه ، وغرض ذلك ما تقدم آنفاً .

ومناسبة المُقْسَمِ به للمُقْسَمِ عليه أن سعي الناس منه خير ومنه شر وهما يماثلان النور والظلمة وأن سعي الناس ينبثق عن نتائج منها النافع ومنها الضار كما ينتج الذكر والأنثى ذرية صالحة وغير صالحة .

وفي القسم بالليل وبالنهار التنبيه على الاعتبار بهما في الاستدلال على حكمة نظام الله في هذا الكون وبديع قدرته ، وخص بالذكر ما في الليل من الدلالة من حالة غشيانه الجانِب الذي يغشاه من الأرض . ويغشى فيه من الموجودات فتعمها ظلمته فلا تبدو للناظرين ، لأن ذلك أقوى أحواله ، وخص بالذكر من أحوال النهار حالة تجليته عن الموجودات وظهوره على الأرض كذلك .

وقد تقدم بيان الغشيان والتجلي في تفسير قوله : { والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها } في سورة الشمس ( 3 ، 4 ) .

واختير القسم بالليل والنهار لمناسبتِه للمقام لأن غرض السورة بيان البون بين حال المؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة .

وابتدئ في هذه السورة بذكر الليل ثم ذكر النهار عكسَ ما في سورة الشمس لأن هذه السورة نزلت قبل سورة الشمس بمدة وهي سادسة السور وأيَّامئذٍ كان الكفر مخيماً على الناس إلا نفراً قليلاً ، وكان الإِسلام قد أخذ في التجلي فناسب تلك الحالة بالإِشارة إلى تمثيلها بحالة الليل حين يعقبه ظهور النهار ، ويتضح هذا في جواب القسم بقوله : { إن سعيكم لشتى } إلى قوله : { إذا تردى } [ الليل : 4 11 ] .

وفي قوله : { إن سعيكم لشتى } إجمال يفيد التشويق إلى تفصيله بقوله : { فأما من أعطى } [ الليل : 5 ] الآية ليتمكن تفصيله في الذهن .

وحذف مفعول { يغشى } لتنزيل الفعل منزلة اللازم لأن العبرة بغشيانه كلَّ ما تغشاه ظلمته .

وأسند إلى النهار التَجلي مدحاً له بالاستنارة التي يراها كل أحد ويحس بها حتى البصراء .

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

وفي بداية هذه السورة قسم من الله بالليل والنهار ، وبخلق الذكر والأنثى ، والمقسم عليه فيها أمر يتعلق بالإنسان الذي هو محور الرسالة ومحور التكليف : ذلك أن الإنسان بحكم طبيعته مختلف الميول ، متعدد الاتجاهات ، متباين الاستعدادات ، وليس لجميع أفراده استعداد واحد ...وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى : { بسم الله الرحمن الرحيم والليل إذا يغشى1 والنهار إذا تجلى2 وما خلق الذكر والأنثى3 إن سعيكم لشتى4 فأما من أعطى واتقى5 وصدق بالحسنى6 فسنيسره لليسرى7 وأما من بخل واستغنى8 وكذب بالحسنى9 فسنيسره للعسرى10 وما يغني عنه ماله إذا تردى11 } . ومعنى { من أعطى واتقى } من بذل من نفسه وماله ابتغاء وجه الله ، ومعنى { وصدق بالحسنى } من وثق بما عند الله من العاقبة الحسنة والجزاء الحسن ، ومعنى { اليسرى } ، أن الله تعالى ييسر أموره ويسهل عليه بلوغ مقاصده دون شدة ولا عنت ، ومعنى { من بخل واستغنى } من بخل بما أعطاه الله ، وخيل إليه أنه مستغن عن الله ، فلم يؤد حقوق الله ولا حقوق العباد ، ومعنى { وكذب بالحسنى } من أساء الظن بالله ، ولم يثق بما وعده به من العاقبة الحسنة والجزاء الحسن ، ومعنى { فسنيسره للعسرى } سنخذله ولا نوفقه ، وسيصطدم في طريقه بكل المعوقات والعراقيل ، والتعبير عن هذا المعنى بلفظ " التيسير " مثل التعبير بلفظ " التبشير " في قوله تعالى : { فبشرهم بعذاب أليم } ( آل عمران : 21 ) ، من باب التبكيت والتنكيت ، ومعنى { إذا تردى } إذا هلك وهوى في الدرك الأسفل من النار .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَٱلَّيۡلِ إِذَا يَغۡشَىٰ} (1)

لما بين في الشمس حال من زكى نفسه وحال من دساها ، وأوضح في آخرها من مخالفة ثمود لرسولهم ما أهلكهم ، فعلم أن الناس مختلفون في السعي في تحصيل نجد الخير ونجد الشر ، فمنهم من تغلب عليه ظلمة اللبس ، ومنهم من يغلب عليه نهار الهدى ، فتباينوا في مقاصدهم ، وفي مصادرهم ومواردهم ، بعد أن أثبت أنه هو الذي تصرف في النفوس بالفجور والتقوى ، أقسم أول هذه بما يدل على عجائب صنعه في ضره ونفعه على ذلك ، تنبيهاً على تمام قدرته في أنه الفاعل بالاختيار ، يحول بين المرء وقلبه حتى يحمله على التوصل إلى مراده ، بضد ما يوصل إليه بل بما يوصل إلى مضاده ، وعلى أنه لا يكاد يصدق الاتحاد في القصد والاختلاف في السعي والتوصل ، وشرح جزاء كل تحذيراً من نجد الشر وترغيباً في نجد الخير ، وبين ما به التزكية وما به التدسية فقال : { والّيل } أي الذي هو آية الظلام الذي هو سبب الخبط والخلط لما يحدث عنه من الإشكال واللبس في الأحوال والإهلال الموصل إلى ظلمة العدم ، وهو محل الأسرار بما يصل الأخيار ويقطع الأشرار : { إذا يغشى * } أي يغطي ما كان من الوجود مبصراً بضياء النهار على التدريج قليلاً قليلاً ، وما يدل عليه من جليل مبدعه ، وعظيم ماحقه ومطلعه