غير بيت : غير أهل بيت ، والمراد بهم لوط وابنتاه ، وقيل : كانوا ثلاثة عشر .
35-36 : { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين*فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } .
ذهبت الملائكة إلى قوم لوط في صورة شبّان في ريعان الشباب ، ولما علم لوط بأن عنده ضيوفا من الشباب المعتدل قامة وصحة ، وكانوا يفعلون الفعلة الشنعاء وهي اشتهاء الرجال دون النساء ، وقضاء الوطر في جماع الرجال ، لقد انتكسوا بالفطرة وخرجوا على سنن الله ، فقد خلق الله الزوجين الذكر والأنثى ، وزوَّد صدر الرجل وصدر المرأة بما يكمل المتعة بين سالب وموجب ، وذكر وأنثى ، وتكامل وتعاطف ومودة ورحمة ، وذرية من الذكور والإناث ، واستمرار إعمار الأرض وتتابع الأجيال .
لكن هؤلاء انحرفوا بالفطرة كما قال لهم لوط : { إنّكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء . . . }( الأعراف : 81 ) .
ورغبوا في جماع ضيوف لوط ، فتمنى لوط لو أن لديه قوة من الرجال ، ليمنعهم بالقوة عن ضيوفه ، أو يجد مجموعة من الناس يستنجد بهم لينقذوه ، وقد بذل جهده في نصحهم وردعهم ، حيث قال لهم : { هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ . } ( هود : 78-83 ) .
وقد اكتفى القرآن بعرض هذا النقاش بين لوط وقومه ، وبين لوط والملائكة ، في مواضع أخرى من القرآن الكريم .
وقد أفادت الآيتان { 35-36 ) من سورة الذاريات أن عناية الله بالمؤمنين وإرادته في سلامتهم ، قضت بأن يخرجوا من بيوتهم في ظلام الليل ، ولا يلتفتوا خلفهم ، غير زوجة لوط التي كانت تنضم إلى قومها وتعاونهم في أعمالهم الشاذَّة ، وتفشي لهم أسرار لوط ، فقضى الله أن يصيبها ما يصيب قومها .
{ فأخرجنا من كان فيه من المؤمنين*فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } .
أي : فأخرجنا من كان في قرى قوم لوط ، ممن آمن بلوط عليه السلام ، فما وجدنا في هذه القرى غير أهل بيت المسلمين ، والمراد بهم لوط وابنتاه .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير أنه قال : كانوا ثلاثة عشر .
أي : لم نجد أحدا من المسلمين غير ما يوازي تعداد أهل بيت واحد .
ذهب المعتزلة وبعض أهل السنة إلى عدم التفريق بين الإسلام والإيمان ، لأن القرآن في الآيتين السابقتين أطلق عليهم المؤمنين والمسلمين .
أخرجنا من كان في قرى قوم لوط من المؤمنين لنحفظهم من الهلاك ، فلم نجد في هذه القرى إلا أهل بيت واحد من المسلمين ، فيكون الإيمان مرادفا للإسلام ، وبهذا قال الإمام البخاري من أهل السنة .
والمتأمّل في القرآن الكريم يجد أن مدلول اللفظ الواحد يتغير بحسب السياق ، وقد ألّف مقاتل بن سليمان البلخي كتابا سماه ( الأشباه والنظائر في القرآن الكريم ) ، وقد بدأ الكتاب بمادة الهدى في القرآن الكريم ، فقال : الهدى في القرآن الكريم يأتي على ستة عشر وجها ، واستمر في عرض الألفاظ التي جاءت في القرآن الكريم على أكثر من وجه ومعنى .
فكلمة العين تطلق على العين التي تبصر ، وتطلق على عين الماء ، وتطلق على الجاسوس ، . . . وهكذا .
وعلماء الكلام يذكرون أن الإسلام هو الانقياد الظاهري والامتثال لأوامر الله ، أما الإيمان فهو التصديق الباطي ، ويستشهدون بقوله تعالى :
{ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ . . . }
وبما رواه البخاري في صحيحه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الإسلام ، فقال : " أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلا " .
وسئل عن الإيمان فقال : " الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقضاء والقدر ، خيره وشرّه ، حلوه ومرّه " 8 .
ونلاحظ أن الإسلام والإيمان قد يجتمعان وقد يفترقان ، فأكثر الناس يظهرون الإسلام ويبطنون الإيمان ، فهؤلاء مسلمون لإسلامهم واستسلامهم لأمر الله ، وانقيادهم لحكمه ، ومعظمهم يبطن الإيمان والتصديق واليقين بالله تعالى وباليوم الآخر ، ومن هذا الصنف من آمن بلوط حيث كانوا مؤمنين ، وأيضا كانون مسلمين ، وقد يفترق الإيمان والإسلام ، مثل إسلام المنافقين ، فهو إسلام ظاهري لم يطاوعه ولم يتابعه إيمان الباطن .
قول تعالى : { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } . ( المنافقون : 1 ) .
وقريب من ذلك بعض العصاة من الأعراب ، الذين أعلنوا إسلامهم ولم تتجاوب قلوبهم بالالتزام الكامل ، والطاعة والتضحية والفداء .
فقال بعض العلماء : هم منافقون ، وقال آخرون : هم مسلمون عصاة لم يصلوا للدرجة المطلوبة الرَّاقية من المؤمن الحق ، ويأمل القرآن توبتهم وتصحيح إيمانهم .
قال تعالى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ . . . }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} يعني المخلصين، فهو لوط وابنتيه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فما وجدنا في تلك القرية التي أخرجنا منها من كان فيها من المؤمنين غير بيت من المسلمين، وهو بيت لوط.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين " يدل على أن الإسلام هو الإيمان والإيمان هو التصديق بجميع ما أوجب الله التصديق به. والإسلام هو الاستسلام لوجوب عمل الفرض الذي أوجبه الله وألزمه. والمسلم هو المخلص لعمل الفرض على ما أمر الله به...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم لما ذكر حال الموحدين ذكرهم بالصفة التي كانوا عليها، وهي الكاملة التصديق والأعمال. وهذه القصة بجملتها ذكرت على جهة المثال لقريش، أي أنهم إذا كفروا أصابهم مثل ما أصاب هؤلاء المذكورين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{من المسلمين} أي العريقين في الإسلام الظاهر والباطن لله من غير اعتراض أصلاً وهم إبراهيم وآله عليهم السلام فإنهم أول من وجد منه الإسلام الأتم، وتسموا به كما مضى في البقرة وسموا به أتباعهم، فكان هذا البيت الواحد صادقاً عليه الإيمان الذي هو التصديق والإسلام الذي هو الانقياد...ولما كان الإسلام قد تطلق على الظاهر فقط وإن كان المراد هنا الأخص أخره...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
وقد أوضح الفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الإسلام والإيمان في الحديث في الصحيحين، وغيرهما الثابت من طرق أنه سئل عن الإسلام، فقال: «أن تشهد أن لا إله إلاَّ الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان»، وسئل عن الإيمان، فقال: «أن تؤمن بالله، وملائكته وكتبه ورسله، والقدر خيره وشرّه»، فالمرجع في الفرق بينهما هو هذا الذي قاله الصادق المصدوق، ولا التفات إلى غيره مما قاله أهل العلم في رسم كل واحد منهما برسوم مضطربة مختلفة مختلة متناقضة، وأما ما في الكتاب العزيز من اختلاف مواضع استعمال الإسلام والإيمان، فذلك باعتبار المعاني اللغوية والاستعمالات العربية، والواجب تقديم الحقيقة الشرعية على اللغوية، والحقيقة الشرعية هي هذه التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجاب سؤال السائل له عن ذلك بها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} دون أن يقول: فأخرجنا لوطاً وأهل بيته قصداً للتنويه بشأن الإِيمان والإِسلام، أي أن الله نجّاهم من العذاب لأجل إيمانهم بما جاء به رسولهم لا لأجل أنهم أهل لوط، وأن كونهم أهل بيت لوط لأنهم انحصر فيهم وصف {المؤمنين} في تلك القرية، فكان كالكلي الذي انحصر في فرد معين. والمؤمن: هو المصدق بما يجب التصديق به. والمسلم المنقاد إلى مقتضى الإِيمان ولا نجاة إلا بمجموع الأمرين، فحصل في الكلام مع التفنن في الألفاظ الإِشارة إلى التنويه بكليهما وإلى أن النجاة باجتماعهما. والآية تشير إلى أن امرأة لوط كانت تظهر الانقياد لزوجها وتضمر الكفر وممالأة أهل القرية على فسادهم، قال تعالى: {ضرب اللَّه مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما} [التحريم: 10] الآية، فبيت لوط كان كله من المسلمين ولم يكن كله من المؤمنين فلذلك لم ينج منهم إلا الذين اتصفوا بالإِيمان والإِسلام معاً. والوجدان في قوله: {فما وجدنا} مراد به تعلّق علم الله تعالى بالمعلوم بعد وقوعه وهو تعلق تنجيزي، ووجدان الشيء: إدراكه وتحصيله.
" فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين " يعني لوطا وبنتيه وفيه إضمار ، أي فما وجدنا فيها غير أهل بيت . وقد يقال بيت شريف يراد به الأهل . وقوله : " فيها " كناية عن القرية ولم يتقدم لها ذكر ؛ لأن المعنى مفهوم . وأيضا فقوله تعالى : " إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين " يدل على القرية ؛ لأن القوم إنما يسكنون قرية . وقيل : الضمير فيها للجماعة . والمؤمنون والمسلمون ها هنا سواء فجنس اللفظ لئلا يتكرر ، كما قال : " إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله{[14240]} " [ يوسف : 86 ] . وقيل : الإيمان تصديق القلب ، والإسلام الانقياد بالظاهر ، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا . فسماهم في الآية الأولى مؤمنين ؛ لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم . وقد مضى الكلام في هذا المعنى في " البقرة{[14241]} " وغيرها . وقوله : " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا " [ الحجرات : 14 ] يدل على الفرق بين الإيمان والإسلام ، وهو مقتضى حديث جبريل عليه السلام في صحيح مسلم وغيره . وقد بيناه في غير موضع .
وسبب عن التعبس والستر والتعرض للظواهر والبواطن قوله : { فما وجدنا } أسند الأمر إليه تشريفاً لرسله إعلاماً بأن فعلهم فعله { فيها غير بيت } واحد وهو بيت لوط ابن أخي إبراهيم عليه السلام ، وقيل : كان عدة الناجين منهم ثلاثة عشر ، ولما كان الإسلام قد تطلق على الظاهر فقط وإن كان المراد هنا الأخص أخره فقال : { من المسلمين * } أي العريقين في الإسلام الظاهر والباطن لله من غير اعتراض أصلاً وهم إبراهيم وآله عليهم السلام فإنهم أول من وجد منه الإسلام الأتم ، وتسموا به كما مضى في البقرة وسموا به أتباعهم ، فكان هذا البيت الواحد صادقاً عليه الإيمان الذي هو التصديق والإسلام الذي هو الانقياد ، قال البغوي{[61394]} : وصفهم الله تعالى {[61395]}بالإيمان والإسلام{[61396]} جميعاً لأنه ما آمن مؤمن إلا وهو مسلم .
يعني لما بينها من التلازم وإن اختلف المفهومان ، وقال الأصبهاني : و-{[61397]}قيل : كان لوط وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة عشر .