ثم يتابع الفرية وما يصوغونه حولها من جدل واعتذار :
( وقالوا : لو شاء الرحمن ما عبدناهم . ما لهم بذلك من علم . إن هم إلا يخرصون ) . .
إنهم يحاولون التهرب حين تحاصرهم الحجج ، وتتهافت بين أيديهم الأسطورة . فيحيلون على مشيئة الله ، يزعمون أن الله راض عن عبادتهم للملائكة ؛ ولو لم يكن راضيا ما مكنهم من عبادتهم ، ولمنعهم من ذلك منعاً !
وهذا القول احتيال على الحقيقة . فإن كل شيء يقع في هذا الوجود إنما يقع وفق مشيئة الله . هذا حق . ولكن من مشيئة الله أن جعل للإنسان قدرة على اختيار الهدى أو اختيار الضلال . وكلفه اختيار الهدى ورضيه له ، ولم يرض له الكفر والضلال . وإن كانت مشيئته أن يخلقه قابلاً للهدى أو الضلال .
وهم حين يحيلون على مشيئة الله إنما يخبطون خبطاً ؛ فهم لا يوقنون أن الله أراد لهم أن يعبدوا الملائكة - ومن أين يأتيهم اليقين ? - ( ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون ) . . ويتبعون الأوهام والظنون .
20- { وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون } .
ذكرنا أن هؤلاء الكفار أخطأوا خطأ مركبا :
( ب ) واختاروا له الصنف الأضعف .
( ج ) وجعلوا الملائكة -وهم عباد مكرمون ، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون- جعلوهم إناثا .
( د ) وادعوا كذبا أن الله أراد منهم ذلك ، ولو شاء لمنعهم من عبادتهم .
وقد كان العرب يصورون الأصنام ، التي هي على صور الملائكة ، ويدعون أنها بنات الله ، ويدعون أن الله عالم بذلك ، وهو يقرهم على هذا العمل ولو شاء لمنعهم .
فجمعوا بين أنواع كثيرة من الخطأ ، ذلك أن الله أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، وأرشد البشرية إلى عبادته وحده سبحانه لا شريك له .
قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } . ( الأنبياء : 25 ) .
وقد أعطى الله كل إنسان العقل والإرادة والاختيار ، وجعل سلوكه سببا في تحمله المسئولية يوم القيامة ، فلا يجوز إلقاء المسؤولية على مشيئة الله تعالى .
وقريب من ذلك قوله سبحانه تعالى : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ( 28 ) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ( 29 ) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ( 30 ) } . ( الأعراف : 28-30 ) .
ليس لهم في قولهم دليل ولا برهان ولا معرفة ، بما ينبغي لجلال الله وقدره ، من عبادته وحده لا شريك له .
ما هم إلا كاذبون فيما قالوا ، متمحلون تمحلا باطلا ، متقولون على الله ما لم يقله .
{ وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم . . . }
وهذا منهم كلمة حق أريد بها باطل ، فكل شيء بإرادة الله ، والمشيئة غير الرضا ، ولا يصح الاحتجاج بالمشيئة ، فإنهم لو عبدوا الله بدل الأصنام ، لعلمنا أن الله أراد منهم ذلك . اه .
وقال الشوكاني في تفسير الآية :
{ وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم . . . }
معناه أن الكفار قالوا : لو شاء الرحمان في زعمكم أيها المؤمنون ، ما عبدنا هذه الملائكة ، وهذا كلام حق يراد به باطل ، لأنهم يريدون بذلك أن الله راض عن عبادتهم للأصنام .
أي : ما هم إلا يكذبون فيما قالوا ، ويتمحلون تمحلا باطلا ، فإن الله خلق المؤمن والكافر ، وهو يحب المؤمن ، ويبغض الكافر ، والله يأمر بالحق والإيمان والخير ، ولا يرضى لعباده الكفر .
وقوله تعالى : { وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } فاحتجوا على عبادتهم الملائكة بالمشيئة ، وهي حجة لم يزل المشركون يطرقونها ، وهي حجة باطلة في نفسها ، عقلا وشرعا . فكل عاقل لا يقبل الاحتجاج بالقدر ، ولو سلكه في حالة من أحواله لم يثبت عليها قدمه .
وأما شرعا ، فإن اللّه تعالى أبطل الاحتجاج به ، ولم يذكره عن غير المشركين به المكذبين لرسله ، فإن اللّه تعالى قد أقام الحجة على العباد ، فلم يبق لأحد عليه حجة أصلا ، ولهذا قال هنا : { مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } أي : يتخرصون تخرصا لا دليل عليه ، ويتخبطون خبط عشواء .
قوله تعالى : { وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم } يعني الملائكة ، قاله قتادة ومقاتل والكلبي ، قال مجاهد : يعني الأوثان ، وإنما لم يعجل عقوبتنا على عبادتنا إياها لرضاه منا بعبادتها . قال الله تعالى :{ ما لهم بذلك من علم } فيما يقولون ما هم إلا كاذبون في قولهم : إن الله تعالى رضي منا بعبادتها ، وقيل : إن هم إلا يخرصون ، فيما يقولون { إن هم إلا يخرصون } في قولهم : إن الملائكة إناث وأنهم بنات الله .
ولما ذكر أنهم يسألون بطريق الأولى عن العبادة ، نبه على أنهم عبدوهم مع ادعاء الأنوثة فيهم ، فقال معجباً منهم في ذلك وفي جعل قولهم حجة دالة على صحة مذهبهم وهو من أوهى الشبه : { وقالوا } أي بعد عبادتهم لهم ونهيهم عن عبادة غير الله : { لو شاء الرحمن } أي الذي له عموم الرحمة { ما عبدناهم } لأن عموم الرحمة يمنع الإقرار على ما لا ينبغي ولكنه لم يشأ عدم عبادتنا لهم فعبدناهم طوع مشيئته ، فعبادتنا لهم حق ، ولولا أنها حق يرضاه لنا لعجل لنا العقوبة .
ولما كان كأنه قيل : بماذا يجابون عن هذا ، قال منبهاً على جوابهم بقوله دالاً على أن أصول الدين لا يتكلم فيها إلا بقاطع : { ما لهم بذلك } أي بهذا المعنى البعيد عن الصواب الذي قصدوا جعله دليلاً على حقية عبادتهم لهم وهو أنه سبحانه لا يشاء إلا ما هو حق ويرضاه ويأمر به ، ومن أن الملائكة إناث ، وأكد الاستغراق بقوله : { من علم } أي لأنه لو لزم هذا لكان وضعه بعموم الرحمة حينئذ اضطرارياً لا اختيارياً فيؤدي إلى نقص لا إلى كمال ، ولكان أيضاً ذلك يؤدي إلى إيجاب أن يكون الناس كلهم مرضياً عنهم لكونهم على حق ، وذلك مؤد بلا ريب إلى كون النقيضين معاً حقاً ، وهو بديهي الاستحالة .
ولما كان العلم قد ينتفي والمعلوم ثابت في نفسه قال نافياً لذلك : { إن هم } أي ما هم { إلا يخرصون } أي يكذبون في هذه النتيجة التي زعموا أنها دلتهم على رضى الله سبحانه لكفرهم فإنها مبنية على أنه سبحانه لا يشاء إلا ما هو حق ، والذي جرأهم على ذلك أنهم يجددون على الدوام القول بغير تثبت ولا تحر ، فكان أكثر قولهم كذباً ، فصاروا لذلك يجترئون على تعمد القول للظن الذي لا يأمن صاحبه من الوقوع في صريح ، وسيأتي تمام إبطال هذه الشبهة بقوله تعالى { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } وأن ذلك هو المراد لا ما طال الخبط فيه لإهمال في السوابق واللواحق الموجبة لسوق المقال ، مطابقاً لمقتضى الحال ، وقد جهلوا في هذا الكلام عدة جهالات : ادعاء الولدية للغني المطلق ، وكون الولد أدنى الصنفين ، وعبادتهم لهم مع أنفسهم منهم بغير دليل ، واحتياجهم على صحة فعلهم بتقدير علم على ذلك وهو قد نهاهم عنه بلسان كل رسول ، وظنهم أنه لا يشاء إلا ما هو الحق المؤدي إلى الجمع بين النقيضين إذ لا ريب فيه ولا خفاء به .