اكتالوا : اشتروا بالكيل ، ومثله الوزن .
يستوفون : يأخذون الكيل وافيا كاملا ، والوزن وسائر الحقوق كذلك .
يخسرون : ينقصون الكيل والوزن ، ويظلمون غيرهم .
2 ، 3- الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون* وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون .
أي : إذا اخذوا الكيل من الناس أخذوه كاملا لأنفسهم ، وإذا كالوا لهم أو وزنوا لهم ، ينقصون الكيل والوزن .
نزلت في رجل يعرف ب ( أبي جهينة ) كان له صاعان ، يشتري بأحدهما ، ويبيع بالآخر .
وقد حارب القرآن هذا النموذج الأناني الذي يهتم بنفسه ولا يهتم بالآخرين ، كما شنع القرآن على قوم شعيب ، وقد أهلكهم الله لكفرهم ، ولتطفيف المكيال والميزان ، وقد نصحهم نبي الله شعيب وكرّر لهم النصح ، وعلى لسان شعيب قال القرآن الكريم : ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين . ( هود : 85 ) .
وتكرري قصة شعيب في سورة الشعراء وغيرها من السّور ، حيث يقول شعيب لقومه : أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين* وزنوا بالقسطاس* ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين* واتقوا الذي خلقكم والجبلّة الأوّلين . ( الشعراء : 181- 184 ) .
وقد تكررت وصايا القرآن بضبط الميزان ، وعدم تطفيف الكيل والميزان .
قال تعالى : وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا . ( الإسراء : 35 ) .
و قال سبحانه : وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلّف نفسا إلا وسعها . . . ( الأنعام : 152 ) .
وقال عز وجل : وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان . ( الرحمان : 9 ) .
{ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ } أي : إذا أعطوا الناس حقهم ، الذي للناس{[1375]} عليهم بكيل أو وزن ، { يُخْسِرُونَ } أي : ينقصونهم ذلك ، إما بمكيال وميزان ناقصين ، أو بعدم ملء المكيال والميزان ، أو نحو ذلك . فهذا سرقة [ لأموال ] الناس{[1376]} ، وعدم إنصاف [ لهم ] منهم .
وإذا كان هذا الوعيد على الذين يبخسون الناس بالمكيال والميزان ، فالذي يأخذ أموالهم قهرًا أو سرقة ، أولى بهذا الوعيد{[1377]} من المطففين .
ودلت الآية الكريمة ، على أن الإنسان كما يأخذ من الناس الذي له ، يجب عليه أن يعطيهم كل ما لهم من الأموال والمعاملات ، بل يدخل في [ عموم هذا ]{[1378]} الحجج والمقالات ، فإنه كما أن المتناظرين قد جرت العادة أن كل واحد [ منهما ] يحرص على ماله من الحجج ، فيجب عليه أيضًا أن يبين ما لخصمه من الحجج{[1379]} [ التي لا يعلمها ] ، وأن ينظر في أدلة خصمه كما ينظر في أدلته هو ، وفي هذا الموضع يعرف إنصاف الإنسان من تعصبه واعتسافه ، وتواضعه من كبره ، وعقله من سفهه ، نسأل الله التوفيق لكل خير .
ثم توعد تعالى المطففين ، وتعجب من حالهم وإقامتهم على ما هم عليه ، فقال :
{ وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } أي كالوا لهم أو وزنوا لهم أي للناس ، يقال : وزنتك حقك وكلتك طعامك ، أي وزنت لك وكلت لك كما يقال : نصحتك ونصحت لك وشكرتك وشكرت لك ، وكتبتك وكتبت لك . قال أبو عبيدة : وكان عيسى بن عمر يجعلهما حرفين يقف على كالوا أو وزنوا ويبتدئ هم يخسرون وقال أبو عبيدة : والاختيار الأول ، يعني : أن كل واحدة كلمة واحدة ، لأنهم كتبوهما بغير ألف ، ولو كانتا مقطوعتين لكانت : كالوا أو وزنوا بالألف كسائر الأفعال مثل جاؤوا وقالوا : واتفقت المصاحف على إسقاط الألف ، ولأنه يقال في اللغة : كلتك ووزنتك كما يقال : كلت لك ووزنت لك . وقوله :{ يخسرون } أي ينقصون ، قال نافع : كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول : اتق الله وأوف الكيل والوزن ، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة حتى إن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم .
ولما أفهم تقديم الجار الاختصاص فأفهم أنهم إذا فعلوا من أنفسهم لا يكون كذلك ، صرح به فقال : { وإذا كالوهم } أي كالوا الناس أي حقهم أي ما لهم من الحق { أو وزنوهم } أي وزنوا ما عليهم له من الحق-{[72127]} ، يقال : اكتال من الرجل وعليه و{[72128]}كال له{[72129]} الطعام وكاله الطعام-{[72130]} ، ووزنت الرجل الشيء ووزنت له الشيء ، ولعله سبحانه اختار " على " في الأول والمعدى إلى اثنين في الثاني لأنه أدل على حضور صاحب الحق ، فهو في غيبته أولى ، فهو أدل على المرون على الوقاحة ، فهما كلمتان لا أربع لأنه ليس بعد الواو ألف جمع ، قال البغوي{[72131]} : وكان عيسى بن عمر يجعلهما{[72132]} حرفين يقف على كالوا ووزنوا ويبتدىء هم ، قال أبو عبيدة : والاختيار الأولى{[72133]} ، قال البغوي : يعني أن كل واحدة كلمة لأنهم كتبوهما بغير ألف باتفاق المصاحف ، وقال الزمخشري{[72134]} : ولا يصح أن يكون ضميراً للمطففين لأن الكلام يخرج به إلى نظم فاسد ، وذلك أن المعنى : إذا أخذوا من الناس استوفوا وإذا أعطوهم{[72135]} أخسروا ، وإن جعلت الضمير للمطففين انقلب إلى قولك : إذا-{[72136]} أخذوا من الناس استوفوا ، وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا ، وهو كلام متنافر لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر ، والتعلق في إبطاله بخط المصحف وأن الألف التي تكتب بعد واو الجمع غير ثابته فيه ركيك لأن خط المصحف لم يراع في كثير منه حد المصطلح عليه في علم{[72137]} الخط - انتهى . ولا شك أن{[72138]} في خط المصحف تقوية لهذا الوجه المعنوي{[72139]} وتأكيداً { يخسرون * } أي يوجدون الخسارة بالنقص فيما يكيلون لغيرهم ، والحاصل أنهم يأخذون وافياً أو زائداً ويعطون ناقصاً .
وقال الإمام أبو جعفر-{[72140]} ابن الزبير : لما قال سبحانه وتعالى في سورة الانفطار
{ وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين }[ الانفطار : 10 ] الآية وكان مقتضى ذلك الإشعار بوقوع الجزاء على جزئيات الأعمال وأنه لا يفوت عمل كما قال تعالى :
{ وإن كان مثقال حبة من{[72141]} خردل أتينا بها وكفا بنا حاسبين }[ الأنبياء : 47 ] أتبع الآية المتقدمة بجزاء عمل يتوهم فيه قرب المرتكب وهو {[72142]}من أكبر{[72143]} الجرائم ، وذلك التطفيف في المكيال والميزان والانحراف عن إقامة القسط في ذلك ، فقال تعالى : { ويل للمطففين } [ المطففين : 1 ] ثم أردف تهديدهم وتشديد وعيدهم فقال : { ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم } [ المطففين : 4 – 5 ] ثم التحمت الآي مناسبة لما افتتحت به السورة إلى ختامها{[72144]} - انتهى .