الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذَا كَالُوهُمۡ أَو وَّزَنُوهُمۡ يُخۡسِرُونَ} (3)

قوله : { كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ } : رُسِمتا في المصحفِ بغير ألفٍ بعد الواوِ في الفعلَيْن ، فمِنْ ثَمَّ اختلفَ الناسُ في " هم " على وجهين ، أحدهما : هو ضميرُ نصبٍ ، فيكونُ مفعولاً به ، ويعودُ على الناس ، أي : وإذا كالُوا الناسَ ، أو وَزَنوا الناسَ . وعلى هذا فالأصلُ في هذَيْن الفعلَيْن التعدِّي لاثنين ، لأحدِهما بنفسِه بلا خِلافٍ ، وللآخرِ بحرفِ الجرِّ ، ويجوزُ حَذْفُه . وهل كلٌّ منهما أصلٌ بنفسِه ، أو أحدُهما أصلٌ للآخر ؟ خلافٌ مشهورٌ . والتقدير : وإذا كالوا لهم طعاماً أو وَزَنُوه لهم ، فحُذِف الحرفُ والمفعولُ المُسَرَّح . وأنشد الزمخشريُّ :

ولقد جَنَيْتُكَ أَكْمُؤاً وعَساقِلاً *** ولقد نَهْيْتُك عَن بناتِ الأَوْبَرِ

أي : جَنَيْتُ لك . والثاني : أنه ضميرُ رفعٍ مؤكِّدٍ للواو . والضميرُ عائدٌ على المطففينِ ، ويكونُ على هذا قد حَذَفَ المَكيلَ والمَكيلَ له والموزونَ والموزونَ لهُ . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ رَدَّ هذا ، فقال : " ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ ضميراً مرفوعاً للمطفِّفين ؛ لأنَّ الكلامَ يَخْرُجُ به إلى نَظْم فاسدٍ ، وذلك أنَّ المعنى : إذا أخذوا من الناسِ اسْتَوْفُوا ، وإذا أعطَوْهم أَخْسَروا . فإنْ جَعَلْتَ الضميرَ للمطفِّفين انقلبَ إلى قولِك : إذا أخذوا من الناسِ اسْتَوْفَوْا ، وإذا تَوَلَّوا الكيلَ أو الوزنَ هم على الخصوص أَخْسَروا ، وهو كلامٌ مُتَنَافِرٌ ؛ لأنَّ الحديثَ واقعٌ في الفعل لا في المباشر " .

قال الشيخ : " ولا تنافُرَ فيه بوجهٍ ، ولا فرقَ بين أَنْ يؤكَّد الضميرُ أو لا يُؤَكَّد ، والحديثُ واقعٌ في الفعل . غايةُ ما في هذا أنَّ متعلقَ الاستيفاء وهو على الناس مذكورٌ ، وهو في { كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ } محذوفٌ للعلم به ؛ لأنه من المعلوم أنهم لا يُخْسِرون ذلك لأنفسهم " . قلت : الزمخشريُّ يريدُ أَنْ يُحافظَ على أنَّ المعنى مرتبطٌ بشيئَيْن : إذا أخذوا مِنْ غيرِهم ، وإذا أَعْطَوْا غيرَهم ، وهذا إنما يَتِمُّ على تقديرِ أَنْ يكونَ الضميرُ منصوباً عائداً على الناس ، لا على كونِه ضميرَ رفعٍ عائداً على المطفِّفين ، ولا شكَّ أن هذا المعنى الذي ذكَره الزمخشريُّ وأرادَه أَتَمُّ وأَحسنُ مِنْ المعنى الثاني . ورجَّح الأوّلَ سقوطُ الألفِ بعد الواوِ ، ولأنه دالٌّ على اتصالِ الضميرِ ، إلاَّ أنَّ الزمخشري استدركه فقال : " والتعلُّقُ في إبطالِه بخطِّ المصحفِ وأنَّ الألفَ التي تُكتب بعد واوِ الجمع غيرُ ثابتةٍ فيه ، ركيكٌ لأنَّ خَطَّ المصحفِ لم يُراعِ في كثيرٍ منه حَدَّ المصطلحِ عليه في علمِ الخطِّ ، على أني رأيْتُ في الكتب المخطوطةِ بأيدي الأئمة المُتْقِنين هذه الألفَ مرفوضةً لكونِها غيرَ ثابتةٍ في اللفظِ والمعنى جميعاً ؛ لأنَّ الواوَ وحدَها مُعْطِيَةٌ معنى الجَمْع ، وإنما كُتِبت هذه الألفُ تَفْرِقَةً بين واوِ الجمعِ وغيرِها في نحو قولِك : " هم [ لم ] يَدْعُوا " ، و " هو يَدْعُو " ، فمَنْ لم يُثْبِتْها قال : المعنى كافٍ في التفرقةِ بينهما ، وعن عيسى بنِ عمرَ وحمزةَ أنَّها يرتكبان ذلك ، أي : يجعلان الضميرَيْن للمطففين ، ويقفان عند الواوَيْن وُقَيْفَةً يُبَيِّنان بها ما أرادا " .

ولم يَذْكُر فعلَ الوزنِ أولاً ؛ بل اقتصر على الكيلِ ، فقال : " إذا اكْتالوا " ولم يَقُلْ : أو اتَّزَنوا ، كما قال ثانياً : أو وَزَنُوهم . قال الزمخشري : " كأنَّ المطفِّفين كانوا لا يأخذون ما يُكال ويُوْزَنُ إلاَّ بالمكاييلِ دون الموازينِ لتمكُّنهم بالاكتيالِ من الاستيفاءِ والسَّرِقَةِ ؛ لأنَّهم يُدَعْدِعُون ويَحْتالون في المَلْء ، وإذا أَعْطَوْا/ كالُوا ووزَنوا لتمكُّنِهم من البَخْسِ في النوعَيْن جميعاً " .

قولُه : " يُخْسِرون " جوابُ " إذا " وهو مُعَدَّىً بالهمزة . يقال : خَسِرَ الرجلُ ، وأَخْسَرْتُه أنا ، فمفعولُه محذوفٌ ، أي : يُخْسِرون الناسَ مَتاعَهم .