اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذَا كَالُوهُمۡ أَو وَّزَنُوهُمۡ يُخۡسِرُونَ} (3)

قوله تعالى : { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ } . رُسمتَا في المصحف بغير ألف بعد الواو في الفعلين ، فمن ثم اختلف الناس في«هم » على وجهين .

أحدهما : هو ضمير نصب فيكون مفعولاً به ، ويعود على الناس ، أي : وإذا كالوا الناس أو وزنوا الناس ، وعلى هذا فالأصل في هذين الفعلين التعدي لاثنين : لأحدهما بنفسه بلا خلاف وللآخر بحرف الجر ، ويجوز حذفه .

وهل كل منهما أصل بنفسه ، أو أحدهما أصل للآخر ؟ فيه خلاف ، والتقدير : وإذا كالوا لهم طعاماً ، أو وزنوه لهم ، فحذف الحرف والمفعول ؛ وأنشد : [ الطويل ]

5127- ولقَدْ جَنيتُكَ أكَمُؤاً وعَساقِلاً *** ولقَدْ نَهيتُكَ عَن بَناتِ الأوبَرِ{[59557]}

أي : جنيت لك .

والثاني : أنَّه ضمير رفع مؤكد للواو ، والضمير عائد على «المطففين » ، ويكون على هذا قد حذف المكيل والمكيل له ، والموزون والموزون له .

إلا أن الزمخشري رد هذا فقال{[59558]} : «ولا يصح أن يكون ضميراً مرفوعاً «للمطففين » ، لأن الكلام يخرج به إلى نظم فاسد ، وذلك أن المعنى : إذا أخذوا من الناس ، ، استوفوا ، وإذا أعطوهم أخسروا ، وإن جعلت الضمير «للمطففين » انقلب إلى قولك : إذا أخذوا من الناس استوفوا ، وإن تولوا الكيل ، أو الوزن هم على الخصوص أخسروا ، وهو كلام متنافر ؛ لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر » .

قال أبو حيان{[59559]} : ولا تنافر فيه بوجه ، ولا رق بين أن يؤكد الضمير ، وألاَّ يؤكد ، والحديث واقع في الفعل ، غاية ما في هذا أن متعلِّق الاستيفاء ، وهو «على الناس » مذكور ، وهو في «كالوهم أو وزنوهم » محذوف للعلم به ؛ لأنَّه من المعلوم أنهم لا يخسرُون ذلك لأنفسهم .

قال شهابُ الدين{[59560]} : الزمخشري يريد أن يحافظ على أنَّ المعنى مرتبط بشيئين : إذا أخذوا من غيرهم ، وإذا أعطوا غيرهم ، وهذا إنَّما فهم على تقدير أن يكون الضمير منصوباً عائداً على الناس ، لا على كونه ضمير رفع عائداً على الناس ، لا على كونه رفع عائداً على «المطففين » ، ولا شك أن هذا المعنى الذي ذكره الزمخشري وأراده أتم وأحسن من المعنى الثاني ، ورجَّح الأول سقوط الألف بعد الواو ؛ لأنه دال على اتصال الضمير .

إلاَّ أن الزمخشري استدرك فقال{[59561]} : «والتعلق في إبطاله بخط المصحف ، وأن الألف التي تكتب بعد واو الجمع غير ثابتة فيه ركيك ؛ لأن خط المصحف لم يراع في كثير منه حد المصطلح عليه في علم الخط على أني رأيت في الكتب المخطوطة بأيدي الأئمة المتقنين هذه الألف مرفوضة ، لكونها غير ثابتة في اللفظ والمعنى جميعاً ؛ لأن الواو وحدها معطية معنى الجمع ، وإنما كتبت هذه الألف تفرقة بين واو الجمع وغيرها في نحو قولك : «هم لم يدعوا ، وهو يدعو » ، فمن لم يثبتها قال : المعنى كافٍ في التفرقة بينهما ، وعن عيسى بن عمر وحمزة أنهما كانا يرتكبان ذلك ، أي : يجعلان الضميرين «للمطففين » ، ويقفان عند الواوين وقيفة ، يبينان بها ما أرادوا » . ولم يذكر فعل الوزن أوَّلاً ، بل اقتصر على الكيل ، فقال : «إذا اكتالوا » ، ولم يقل : إذا اتزنوا ، كما قال ثانياً : «أوْ وزَنُوهُمْ » .

قال ابن الخطيب{[59562]} : لأن الكيل والوزن بهما البيع والشراء ، فأحدهما يدل على الآخر .

وقال الزمخشري{[59563]} : «كأنَّ المطففين كانوا لا يؤخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين ، لتمكنهم من البخس في النوعين جميعاً » .

قوله : «يُخْسِرُونَ » جوابُ «إذا » ، وهو يتعدَّى بالهمزة ، يقال : خسر الرجل وأخسرته أنا ، فمفعوله محذوف ، أي : يخسرون الناس متاعهم . قال المؤرج : يخسرون أي ينقصون بلغة «قريش » .

فصل في تفسير الآية

قال الزجاج : المعنى : إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل والوزن .

أي : إذا استوفوا لأنفسهم استوفوا في الكيل والوزن ، «وإذَا كَالُوهُمْ أو وزَنُوهُمْ » أي : كالوا لهم ، أو وزنوا لهم ، أي : للناس ، ولمَّا كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً فيه إضرارٌ بهم ، وتحاملٌ عليهم أقيمَ «على » مقام «من » للدلالة على ذلك .

وقال الكسائيُّ والفراءُ : حذف الجار وأوصل الفعل ، وهذا من كلام أهل الحجاز ، ومن جاورهم ، يقال : وزنتك حقك ، وكلتك طعامك أي : وزنت لك ، وكلتُ لك ، كما يقال : نصحتك ، ونصحت لك ، وكسيتك ، وكسيت لك .

وقال الفراء : المراد اكتالوا من الناس ، و «على » و «من » يتعاقبان ؛ لأنه حق عليه فإذا فلت : اكتلت عليك ، فكأنه قال : أخذت ما عليك ، وإذا قلت : اكتلت منك فهو كقولك : استوفيت منك .

وقيل : على حذف مضاف ، أي : إذا كالوا مكيلهم ، أو وزنوا لهم موزونهم .


[59557]:ينظر الاشتقاق ص 402، والإنصاف 1/319، وأوضح المسالك 1/180، وتخليص الشواهد ص 167، وجمهرة اللغة ص 331، والخصائص 3/58، ورصف المباني ص 78، وسر صناعة الإعراب ص 366، وشرح ابن عقيل ص 96، ولسان العرب (حجر)، و(سور)، (عير)، و(وبر)، و(جحش)، و(أيل)، و(حفل)، و(عقل)، و(اسم)، و(جنى)، و(نجا)، والمحتسب 2/224، ومغني اللبيب 1/52، 220، والمقاصد النحوية 1/498، والمقتضب 4/48، والمنصف 3/134.
[59558]:الكشاف 4/719.
[59559]:البحر المحيط 8/431.
[59560]:الدر المصون 6/491.
[59561]:الكشاف 4/720.
[59562]:الفخر الرازي 31/81.
[59563]:الكشاف 4/720.