مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِذَا كَالُوهُمۡ أَو وَّزَنُوهُمۡ يُخۡسِرُونَ} (3)

السؤال الثاني : هو أن اللغة المعتادة أن يقال كالوا لهم ، أو وزنوا لهم ، ولا يقال كلته ووزنته فما وجه قوله تعالى : { وإذا كالوهم أو وزنوهم } ( والجواب ) من وجوه : ( الأول ) أن المراد من قوله { كالوهم أو وزنوهم } كالوا لهم أو وزنوا لهم ، فحذف الجار وأوصل الفعل . قال الكسائي والفراء : وهذا من كلام أهل الحجاز ، ومن جاورهم يقولون : زنى كذا ، كلى كذا ، ويقولون صدتك وصدت لك ، وكسبتك وكسبت لك ، فعلى هذا الكناية في كالوهم ووزنوهم في موضع نصب ( الثاني ) : أن يكون على حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، والتقدير : وإذا كالوا مكيلهم ، أو وزنوا موزونهم ( الثالث ) : يروى عن عيسى بن عمر ، وحمزة أنهما كانا يجعلان الضميرين توكيدا لما في كالوا ويقفان عند الواوين وقيفة يبينان بها ما أرادا ، وزعم الفراء والزجاج أنه غير جائز ، لأنه لو كان بمعنى كالوهم لكان في المصحف ألف مثبتة قبل هم ، واعترض صاحب «الكشاف » على هذه الحجة ، فقال إن خط المصحف لم يراع في كثير منه حد المصطلح عليه في علم الحظ ( والجواب ) أن إثبات هذه الألف لو لم يكن معتادا في زمان الصحابة فكان يجب إثباتها في سائر الأعصار ، لما أنا نعلم مبالغتهم في ذلك ، فثبت أن إثبات هذه الألف كان معتادا في زمان الصحابة فكان يجب إثباته ههنا .

السؤال الثالث : ما السبب في أنه قال : { ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا } ولم يقل إذا انزنوا ، ثم قال : { وإذا كالوهم أو وزنوهم } فجمع بينهما ؟ ( الجواب ) أن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فأحدهما يدل على الآخر .

السؤال الرابع : اللغة المعتادة أن يقال خسرته ، فما الوجه في أخسرته ؟ ( الجواب ) قال الزجاج : أخسرت الميزان وخسرته سواء أي نقصته ، وعن المؤرج يخسرون ينقصون بلغة قريش .

المسألة الثالثة : عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما قدم نبي الله المدينة كانوا من أبخس الناس كيلا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فأحسنوا الكيل بعد ذلك ، وقيل كان أهل المدينة تجارا يطففون وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة ، فنزلت هذه الآية ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم ، وقال " خمس بخمس " قيل يا رسول الله ، وما خمس بخمس ؟ قال " ما نقص قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم ، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم المطر " .

المسألة الرابعة : الذم إنما لحقهم بمجموع أنهم يأخذون زائدا ، ويدفعون ناقصا ، ثم اختلف العلماء ، فقال بعضهم : هذه الآية دالة على الوعيد ، فلا تتناول إلا إذا بلغ التطفيف حد الكثير ، وهو نصاب السرقة ، وقال آخرون بل ما يصغر ويكبر دخل تحت الوعيد ، لكن بشرط أن لا يكون معه توبة ولا طاعة أعظم منها ، وهذا هو الأصح .

المسألة الخامسة : احتج أصحاب الوعيد بعموم هذه الآية ، قالوا : وهذه الآية واردة في أهل الصلاة لا في الكفار ، والذي يدل عليه وجهان ( الأول ) : أنه لو كان كافرا لكان ذلك الكفر أولى باقتضاء هذا الويل من التطفيف ، فلم يكن حينئذ للتطفيف أثر في هذا الويل ، لكن الآية دالة على أن الموجب لهذا الويل هو التطفيف ( الثاني ) : أنه تعالى قال : للمخاطبين بهذه الآية : { ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم } فكأنه تعالى هدد المطففين بعذاب يوم القيامة ، والتهديد بهذا لا يحصل إلا مع المؤمن ، فثبت بهذين الوجهين أن هذا الوعيد مختص بأهل الصلاة ( والجواب ) : عنه ما تقدم مرارا ، ومن لواحق هذه المسألة أن هذا الوعيد يتناول من يفعل ذلك ومن يعزم عليه إذ العزم عليه أيضا من الكبائر .

واعلم أن أمر المكيال والميزان عظيم ، وذلك لأن عامة الخلق يحتاجون إلى المعاملات وهي مبنية على أمر المكيال والميزان ، فلهذا السبب عظم الله أمره فقال : { والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان } وقال : { ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } وعن قتادة : «أوف يا ابن آدم الكيل كما تحب أن يوفى لك ، واعدل كما تحب أن يعدل لك » وعن الفضيل : بخس الميزان سواد الوجه يوم القيامة ، وقال أعرابي لعبد الملك بن مروان : قد سمعت ما قال الله تعالى في المطففين ! أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم في أخذ القليل ، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ الكثير ، وتأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن .