ثم يبرز قيمة العنصر الأخلاقي مرة أخرى في نهي الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] عن إطاعة أحد هؤلاء المكذبين بالذات ، ويصفه بصفاته المزرية المنفرة ، ويتوعده بالإذلال والمهانة :
( ولا تطع كل حلاف مهين . هماز مشاء بنميم . مناع للخير معتد أثيم . عتل بعد ذلك زنيم . أن كان ذا مال )( وبنين . إذا تتلى عليه آياتنا قال : أساطير الأولين . سنسمه على الخرطوم ) . .
وقد قيل : إنه الوليد بن المغيرة ، وإنه هو الذي نزلت فيه كذلك آيات من سورة المدثر : ( ذرني ومن خلقت وحيدا ، وجعلت له مالا ممدودا ، وبنين شهودا ، ومهدت له تمهيدا . ثم يطمع أن أزيد . كلا ! ! إنه كان لآياتنا عنيدا . سأرهقه صعودا . إنه فكر وقدر . فقتل ! كيف قدر ? ثم قتل ! كيف قدر ? ثم نظر . ثم عبس وبسر . ثم أدبر واستكبر . فقال : إن هذا إلا سحر يؤثر . إن هذا إلا قول البشر . سأصليه سقر ) . .
ورويت عنه مواقف كثيرة في الكيد لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وإنذار أصحابه ، والوقوف في وجه الدعوة ، والصد عن سبيل الله . . كما قيل : إن آيات سورة القلم نزلت في الأخنس بن شريق . . وكلاهما كان ممن خاصموا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولجوا في حربه والتأليب عليه أمدا طويلا .
وهذه الحملة القرآنية العنيفة في هذه السورة ، والتهديدات القاصمة في السورة الأخرى ، وفي سواها ، شاهد على شدة دوره سواء كان هو الوليد أو الأخنس والأول أرجح ، في حرب الرسول والدعوة ، كما هي شاهد على سوء طويته ، وفساد نفسه ، وخلوها من الخير .
والقرآن يصفه هنا بتسع صفات كلها ذميم . . .
فهو حلاف . . كثير الحلف . ولا يكثر الحلف إلا إنسان غير صادق ، يدرك أن الناس يكذبونه ولا يثقون به ، فيحلف ويكثر من الحلف ليداري كذبه ، ويستجلب ثقة الناس .
وهو مهين . . لا يحترم نفسه ، ولا يحترم الناس قوله . وآية مهانته حاجته إلى الحلف ، وعدم ثقته بنفسه وعدم ثقة الناس به . ولو كان ذا مال وذا بنين وذا جاه . فالمهانة صفة نفسية تلصق بالمرء ولو كان سلطانا طاغية جبارا . والعزة صفة نفسية لا تفارق النفس الكريمة ولو تجردت من كل أعراض الحياة الدنيا !
{ ولا تطع كل حلاف مهين } : حلاف كثير الحلف ، مهين : محتقر ، حقير .
ثم بيّن بعضَ صفات أولئك المكذّبين الذي هانت عليهم نفوسُهم ،
وفي هذه الآية والآيات التي بعدها عدّد تسع صفات من صفات السوء .
ويقول المفسّرون : إن هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي ، وكان من زعماء قريش الأثرياء . وهناك أقوال كثيرةٌ لا حاجة إلى إيرادها ،
فالآية عامة في كلّ من يكذِب ويحلِف كذبا .
وهذه الأصنافُ من البشَر موجودةٌ في كل زمانٍ فَلْنحذَرْها ونتقي شرّها .
يعني الأخنس بن شريق ، في قول الشعبي والسدي وابن إسحاق . وقيل : الأسود بن عبد يغوث ، أو عبدالرحمن بن الأسود ، قاله مجاهد . وقيل : الوليد بن المغيرة ، عرض على النبي صلى الله عليه وسلم مالا وحلف أن يعطيه إن رجع عن دينه ، قاله مقاتل . وقال ابن عباس : هو أبو جهل بن هشام . والحلاف : الكثير الحلف . والمهين : الضعيف القلب ، عن مجاهد . ابن عباس : الكذاب . والكذاب مهين . وقيل : المكثار في الشر ، قاله الحسن وقتادة . وقال الكلبي : المهين الفاجر العاجز . وقيل : معناه الحقير عند الله . وقال ابن شجرة : إنه الذليل . الرماني : المهين الوضيع لإكثاره من القبيح . وهو فعيل من المهانة بمعنى القلة . وهي هنا القلة في الرأي والتمييز . أو هو فعيل بمعنى مفعل ، والمعنى مهان .
ولما نهاه{[67448]} عن طاعة المكذب وعلله ، وكان من الناس من يخفي تكذيبه ، قال ناصباً علامات المكذب : { ولا تطع } أي في وقت من الأوقات {[67449]}منهم ولا من غيرهم{[67450]} { كل حلاف } أي مبالغ{[67451]} في الاجتراء على الأيمان وإن لم يظهر لك تكذيبه ، وليس المراد النهي عن العموم بل عموم النهي ، أي انته عن كل حلاف ، فالنهي أصل والكل وارد عليه ، كما تقدم{[67452]} تخريج مثله في آخر البقرة في قوله تعالى :
{ والله لا يحب كل كفار أثيم }[ البقرة : 276 ] وهذه الأوصاف متفرخة من الكذب وخبث السجية ، فهي كالتفصيل ، فكثرة الحلف دالة على فساد القوة العلمية ، فنشأ عنها سقوط تعظيم الحق ، فصار صاحبها لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً ، فلذلك يحلف صادقاً وكاذباً كيفما اتفق ، { مهين * } أي حقير ضعيف وضيع سافل الهمة والمروءة سافل الرأي ، لأن الإنسان لا يكثر الحلف إلا وهو يتصور في نفسه أنه لا يصدق إلا بذلك ، لأنه ليس له من المهابة عند من يحدثه والجلالة ما يصدقه بسببه ، وهو مؤثر للبطالة لما فيها من موافقة طبعه ، وذلك هو الحقارة الكبرى{[67453]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.