الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَلَا تُطِعۡ كُلَّ حَلَّافٖ مَّهِينٍ} (10)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

ولا تطع يا محمد كلّ ذي إكثار للحلف بالباطل،" مَهِين": وهو الضعيف...

غير أن بعضهم وجه معنى المهين إلى الكذّاب، وأحسبه فعل ذلك لأنه رأى أنه إذا وصف بالمهانة، فإنما وصف بها لمهانة نفسه عليه، وكذلك صفة الكذوب، إنما يكذب لمهانة نفسه عليه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

قيل: إن هذه الآيات نزلت في واحد، يشار إليه، وهو الوليد بن المغيرة المخزومي. وفي ما يشار إلى واحد لا يطلق فيه لفظة {كل} فيقال: {ولا تطع كل حلاف مهين} والحلاف المهين ليس إلا الواحد. ولكن معناه: لا تطع هذا وكل من يوجد فيه هذه الصفة. ثم ذكر المرء بقوله: {حلاف مهين} {هماز مشاء بنميم} {مناع للخير معتد أثيم} [الآيات: 10 و11و12] يخرج مخرج الهجاء والشتم في الشاهد، لأن ذكر المرء بما هو عليه من ارتكاب الفواحش والمساوئ تهجين له وشتم. وجل الله ورسوله أن يقصدوا إلى شتم إنسان. فالآية ليست في تثبيت فواحشه، وإنما هي في موضع التوبيخ والزجر عن اتباع مثله؛ وذلك أنه كان من رؤساء الكفرة. وممن بسطت عليه الدنيا، فكان القوم يتبعونه، وينقادون له في ما يدعوهم إلى الصد عن سبيل الله، فذكر الله تعالى فيه هذه الأشياء، وأظهرها للخلق ليزهدهم عن اتباعه؛ إذ كل من كانت فيه هذه الأحوال لم تسنح نفس عاقل لاتباعه، ولا احتمل طبعه طاعة مثله، فلا يتمكن من صد الناس عن سبيل الله تعالى، فكان في ذكره العيوب التي ذكرها زجر الناس عن طاعته فذكرها لإثبات هذا الوجه لا أن تكون فائدتها على تحصيل الشتم والهجاء. وكذلك ذكر أبا لهب بالتّبّ والخسار وما هو عليه من الفواحش ليزجر الناس عن اتباعه.

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

(مهين) أي: حقير، ومعناه هاهنا: قلة الرأي والتمييز...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{حَلاَّفٍ} كثير الحلف في الحق والباطل، وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

وأقول: كونه حلافا يدل على أنه لا يعرف عظمة الله تعالى وجلاله، إذ لو عرف ذلك لما أقدم في كل حين وأوان بسبب كل باطل على الاستشهاد باسمه وصفته، ومن لم يكن عالما بعظمة الله وكان متعلق القلب بطلب الدنيا كان مهينا، فهذا يدل على أن عزة النفس لا تحصل إلا لمن عرف نفسه بالعبودية، وأن مهانتها لا تحصل إلا لمن غفل عن سر العبودية...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما نهاه عن طاعة المكذب وعلله، وكان من الناس من يخفي تكذيبه، قال ناصباً علامات المكذب: {ولا تطع} أي في وقت من الأوقات منهم ولا من غيرهم {كل حلاف} أي مبالغ في الاجتراء على الأيمان وإن لم يظهر لك تكذيبه، وليس المراد النهي عن العموم بل عموم النهي، أي انته عن كل حلاف، فالنهي أصل والكل وارد عليه، كما تقدم تخريج مثله في آخر البقرة في قوله تعالى: {والله لا يحب كل كفار أثيم} [البقرة: 276] وهذه الأوصاف متفرخة من الكذب وخبث السجية، فهي كالتفصيل، فكثرة الحلف دالة على فساد القوة العلمية، فنشأ عنها سقوط تعظيم الحق، فصار صاحبها لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، فلذلك يحلف صادقاً وكاذباً كيفما اتفق، {مهين} أي حقير ضعيف وضيع سافل الهمة والمروءة سافل الرأي، لأن الإنسان لا يكثر الحلف إلا وهو يتصور في نفسه أنه لا يصدق إلا بذلك، لأنه ليس له من المهابة عند من يحدثه والجلالة ما يصدقه بسببه، وهو مؤثر للبطالة لما فيها من موافقة طبعه، وذلك هو الحقارة الكبرى...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم يبرز قيمة العنصر الأخلاقي مرة أخرى في نهي الرسول [صلى الله عليه وسلم] عن إطاعة أحد هؤلاء المكذبين بالذات، ويصفه بصفاته المزرية المنفرة، ويتوعده بالإذلال والمهانة:

وهذه الحملة القرآنية العنيفة في هذه السورة...شاهد على شدة دوره سواء كان هو الوليد [بن المغيرة] أو الأخنس [بن شريق] والأول أرجح، في حرب الرسول والدعوة، كما هي شاهد على سوء طويته، وفساد نفسه، وخلوها من الخير.

والقرآن يصفه هنا بتسع صفات كلها ذميم...

فهو حلاف.. كثير الحلف. ولا يكثر الحلف إلا إنسان غير صادق، يدرك أن الناس يكذبونه ولا يثقون به، فيحلف ويكثر من الحلف ليداري كذبه، ويستجلب ثقة الناس.

وهو مهين.. لا يحترم نفسه، ولا يحترم الناس قوله. وآية مهانته حاجته إلى الحلف، وعدم ثقته بنفسه وعدم ثقة الناس به. ولو كان ذا مال وذا بنين وذا جاه. فالمهانة صفة نفسية تلصق بالمرء ولو كان سلطانا طاغية جبارا. والعزة صفة نفسية لا تفارق النفس الكريمة ولو تجردت من كل أعراض الحياة الدنيا!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

إعادة فعل النهي عن الطاعة لمن هذه صفاتهم للاهتمام بهذا الأدب فلم يُكتفَ بدخول أصحاب هذه الأوصاف في عموم المكذبين، ولا بتخصيصهم بالذكر بمجرد عطف الخاص على العام بأن يقال: ولا كلَّ خلاف، بل جيء في جانبهم بصيغة نهي أخرى مماثلة للأولى.

وليفيد تسليط الوعيد الخاص وهو في مضمون قوله: {سَنَسِمُهُ على الخرطوم} [القلم: 16] على أصحاب هذه الصفات الخاصة زيادة على وعيد المكذبين.

وكلمة {كلَّ} موضوعة لإفادة الشمول والإِحاطة لأفراد الاسم الذي تضاف هي إليه، فهي هنا تفيد النهي العام عن طاعة كل فرد من أفراد أصحاب هذه الصفات التي أضيف إليها {كلّ} بالمباشرة وبالنعوت.

وقد وقعت كلمة {كلَّ} معمولة للفعل الداخلة عليه أداة النهي ولا يفهم منه أن النهي منصب إلى طاعة من اجتمعت فيه هذه الصفات بحيث لو أطاع بعض أصحاب هذه الصفات لم يكن مخالفاً للنهي إذ لا يخطر ذلك بالبال ولا يجري على أساليب الاستعمال، بل المراد النهي عن طاعة كل موصوف بخصلة من هذه الخصال بَلْهَ من اجتمع له عِدَّةٌ منها.

الشعراوي- 1419هـ.

... حين نتمعن في القرآن نجد أن الحلف لا يطلق إلا على اليمين الكاذبة، أما القسم فإنه يطلق على اليمين الصادقة واليمين الكاذبة.

فمثلا عندما نقرأ في سورة المائدة: {ذَلكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ (89)} [المائدة]، وما دامت هناك كفارة يمين يكون الحلف كاذبا، لأن الذي يستوجب الكفارة هو الكذب.

وإذا استعرضنا بعد ذلك كل (حلف) في القرآن نجد أنه يقصد بها اليمين الكاذبة، ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10 (} [القلم]

فالحلف هنا مقصود به القسم الكاذب، ولكن إذا قال الحق سبحانه وتعالى (أقسموا) فقد يكون اليمين صادقا وقد يكون كاذبا.