في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡمَرۡحَمَةِ} (17)

( ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر ، وتواصوا بالمرحمة ) . . .

و( ثم )هنا ليست للتراخي الزمني ، إنما هي للتراخي المعنوي باعتبار هذه الخطوة هي الأشمل والأوسع نطاقا والأعلى أفقا . وإلا فما ينفع فك رقاب ولا إطعام طعام بلا إيمان . فالإيمان مفروض وقوعه قبل فك الرقاب وإطعام الطعام . وهو الذي يجعل للعمل الصالح وزنا في ميزان الله . لأنه يصله بمنهج ثابت مطرد . فلا يكون الخير فلتة عارضة ترضية لمزاج متقلب ، أو ابتغاء محمدة من البيئة أو مصلحة .

وكأنما قال : فك رقبة . أو إطعام في يوم ذي مسغبة ، يتيما ذا مقربة ، أو مسكينا ذا متربة . . وفوق ذلك كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة . فثم هنا لإفادة معنى الفضل والعلو .

والصبر هو العنصر الضروري للإيمان بصفة عامة ، ولاقتحام العقبة بصفة خاصة . والتواصي به يقرر درجة وراء درجة الصبر ذاته . درجة تماسك الجماعة المؤمنة ، وتواصيها على معنى الصبر ، وتعاونها على تكاليف الإيمان . فهي أعضاء متجاوبة الحس . تشعر جميعا شعورا واحدا بمشقة الجهاد لتحقيق الإيمان في الأرض وحمل تكاليفه ، فيوصي بعضها بعضا بالصبر على العبء المشترك ؛ ويثبت بعضها بعضا فلا تتخاذل ؛ ويقوي بعضها بعضا فلا تنهزم . وهذا أمر غير الصبر الفردي . وإن يكن قائما على الصبر الفردي . وهو إيحاء بواجب المؤمن في الجماعة المؤمنة . وهو ألا يكون عنصر تخذيل بل عنصر تثبيت ، ولا يكون داعية هزيمة بل داعية اقتحام ؛ ولا يكون مثار جزع بل مهبط طمأنينة .

وكذلك التواصي بالمرحمة . فهو أمر زائد على المرحمة . إنه إشاعة الشعور بواجب التراحم في صفوف الجماعة عن طريق التواصي به ، والتحاض عليه ، واتخاذه واجبا جماعيا فرديا في الوقت ذاته ، يتعارف عليه الجميع ، ويتعاون عليه الجميع .

فمعنى الجماعة قائم في هذا التوجيه . وهو المعنى الذي يبرزه القرآن كما تبرزه أحاديث رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لأهميته في تحقيق حقيقة هذا الدين . فهو دين جماعة ، ومنهج أمة ، مع وضوح التبعة الفردية والحساب الفردي فيه وضوحا كاملا . .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡمَرۡحَمَةِ} (17)

المفردات :

تواصوا بالصبر : نصح بعضهم بعضا به .

التفسير :

17- ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة .

إن الأعمال السابقة لا بد لقبولها من أن يكون فاعلها من المؤمنين بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا ، ومن الذين تواصوا بالصبر ، وحث بعضهم بعضا على الصبر ، وتواصوا بالرحمة والعطف ، ومد يد المساعدة للمحتاجين ، ونلمح أن المؤمن مطالب بالصبر ، ومطالب بالحث عليه ، وتوصية الآخرين به .

قال تعالى : والعصر* إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر . ( العصر : 1-3 ) .

إن الإيمان نصفان : نصف صبر ، ونصف شكر .

ومن سمة الأمة المؤمنة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن المعروف : التواصي بالصبر ، وطول النفس في الجهاد والكفاح ، والصبر على الحلال ، والبعد عن الحرام ، ومن التواصي بالمرحمة إنشاء الجمعيات الخيرية لإعانة المحتاجين ، وكفالة اليتامى وتشغيلهم وتعليمهم ، وحث الناس على التراحم .

قال صلى الله عليه وسلم : ( مثل المسمين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى )vii .

وقال صلى الله عليه وسلم : ( من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن أطعم جائعا أطعمه الله من ثمار الجنة ، ومن كسا عريانا كساه الله من السندس الأخضر يوم القيامة ، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه )viii .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡمَرۡحَمَةِ} (17)

تواصَوا بالصبر : نصح الناس بعضهم بعضا بالصبر .

ثم إن هؤلاء الذين يقتحمون العقبة بإنفاق أموالهم في وجوه البرّ والإحسان يكونون من المؤمنين الذين يعملون الخير ، ويوصي بعضُهم بعضاً بالصبر والرحمة . . يرحمون عبادَ الله ويواسُونهم ويساعدونهم .

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡمَرۡحَمَةِ} (17)

{ ثم كان من الذين آمنوا } أي كان مقتحم العقبة وفاك الرقبة والمطعم من الذين آمنوا فانه ان لم يكن منهم لم ينفعه قربة { وتواصوا } أوصى بعضهم بعضا { بالصبر } على طاعة الله تعالى { وتواصوا بالمرحمة } بالرحمة على الخلق

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡمَرۡحَمَةِ} (17)

قوله تعالى : " ثم كان من الذين آمنوا " يعني : أنه لا يقتحم العقبة من فك رقبة ، أو أطعم في يوم ذا مسغبة ، حتى يكون من الذين آمنوا ، أي صدقوا ، فإن شرط قبول الطاعات الإيمان بالله . فالإيمان بالله بعد الإنفاق لا ينفع ، بل يجب أن تكون الطاعة مصحوبة بالإيمان ، قال الله تعالى في المنافقين : " وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله{[16083]} " . [ التوبة : 54 ] . وقالت عائشة : يا رسول الله ، إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم الطعام ، ويفك العاني ، ويعتق الرقاب ، ويحمل على إبله لله ، فعل ينفعه ذلك شيئا ؟ قال : [ لا ، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ] . وقيل : " ثم كان من الذين آمنوا " أي فعل هذه الأشياء وهو مؤمن ، ثم بقي على إيمانه حتى الوفاة ؛ نظيره قوله تعالى : " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى{[16084]} " [ طه : 82 ] . وقيل : المعنى ثم كان من الذين يؤمنون بأن هذا نافع لهم عند الله تعالى . وقيل : أتى بهذه القرب لوجه الله ، ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقد قال حكيم بن حزام بعدما أسلم ، يا رسول الله ، إنا كنا نتحنث{[16085]} بأعمال في الجاهلية ، فهل لنا منها شيء ؟ فقال عليه السلام : [ أسلمت على ما أسلفت من الخير ] . وقيل : إن " ثم " بمعنى الواو ، أي وكان هذا المعتق الرقبة ، والمطعم في المسغبة ، من الذين آمنوا . " وتواصوا " أي أوصى بعضهم بعضا . " بالصبر " أي بالصبر على طاعة الله ، وعن معاصيه ، وعلى ما أصابهم من البلاء والمصائب . " وتواصوا بالمرحمة " بالرحمة على الخلق ، فإنهم إذا فعلوا ذلك رحموا اليتيم والمسكين .


[16083]:آية 54 سورة التوبة.
[16084]:آية 82 سورة طه.
[16085]:أي نتقرب إلى الله.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡمَرۡحَمَةِ} (17)

ولما كانت هذه الأفعال خيراً في نفسها تدل على جودة الطبع وعلو الهمة وكرم العنصر وإباء النفس إشارة إلى شدة حسنها لأنه لا يوفق لها إلا مخلص وإن كان غير مستند إلى شرع وإلى ما يفيده من سلالة الطبع وسهولة الانقياد وإلى عظمة الإيمان بالتعبير بأداة التراخي في قوله مشيراً إلى العقبة الثانية وهي الحكمة المزكية للقوة النطقية : { ثم كان } أي بعد التخلق بهذه الأخلاق الزاكية العالية النفيسة الغالية في حال كفره أو مبادىء إسلامه للدلالة على صفاء جبلته وجودة عنصره من الراسخين في الإيمان المعبر عنه بقوله : { من الذين آمنوا } أي عند ما دعاه إليه الهادي ، ولم تحمله حمية الأنف وشماخة النفس على الإباء عن أن يكون تابعاً بعد ما كان متبوعاً ، وسافلاً في زعمه إثر ما كان رفيعاً ، بل سدد النظر وقوم الفكر فأيقن أنه يعلي نفسه من الحضيض إلى ما فوق السهى ، يرقيها في درج المعالي إلى ما ليس له انتهاء ،

{ إن في ذلك لآيات لأولي النهى }[ طه : 54 ، 128 ] فحينئذ يعلم استقامة طبعه وكرم غريزته وعليَّ همته وحسن نيته وجميل طويته وغزارة عقله وجلالة نبله وفضله واستحقاقه التقدم على الأعلام في الجاهلية والإسلام ، ولذلك كان الصديق رضي الله تعالى عنه أعلى الناس درجة بعد النبيين عليهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام ، لأن هذه كانت أفعاله رضي الله تعالى عنه قبل الإسلام كما قال ابن الدغنة حين وجده قد خرج من مكة المشرفة يريد الهجرة حين آذاه الكفار : إن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج ، إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكلَّ وتعين على نوائب الحق - كما قالت خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم حين رجع إليها ترجف بوادره من تجلي جبريل عليه الصلاة والسلام له سواء ، فلما سرب في رحيب مسربه ، وشرب من صافي مشربه توفيقاً من الله تعالى لم يتلعثم حين دعاه إلى الدين ولا كانت عنده كبوة ولا تردد ، ثم ترقى في درجات الإسلام إلى أعلى مرام بحيث قال يوم الحديبية لعمر رضي الله عنهما حين أظهر الكراهة للصلح ما قال له النبي صلى الله عليه وسلم سواء حرفاً بحرف من غير أن يكون حاضره أو ينقل إليه كلامه ، فسار حينئذ حائزاً قصب السبق ، لا مطمع في مداناته ، فكيف بلحاقه ومساواته ، ولكماله وعظمته وجلاله لم يشرب قط خمراً ، وكان إذا ليم على ذلك في الجاهلية قال لعشراء : والله لو وجدت شيئاً يزيد في عقلي لاشتريته بجميع مالي فكيف أشتري بمالي ما يزيل عقلي . وتلك الأعمال لا تصح وإن كانت ممدوحة في كل حال إلا بالإيمان ، أما إن كانت بعده فواضح ، وأما إن كانت قبله فبانعطافه عليها كما قال صلى الله عليه وسلم : " أسلمت على ما سلف منك من خير " .

ولما كان الإيمان معلياً للإنسان عن درك الهوان إلى عظم الشأن ، حاملاً له على محاسن الأعمال ومكارم الأفعال ، وذلك أنه يقود إلى جميع شرائع الدين العظيمة الشأن ، وكانت موجبة للجهاد الأكبر من حيث مخالفتها للطبع ، وكان ذلك غير مقدور عليه إلا بالشجاعة وهي القوة الثالثة التي إذا هدئت أراحت ، وكانت لا تكون إلا بعظيم الصبر ، وكان الصبر لمرارته لا يدوم إلا بالتعاون قال تعالى : { وتواصوا } أي صبروا وأوصى بعضهم بعضاً { بالصبر } في اقتحام عقبات الأعمال التي لا يجوزها إلا أبطال الرجال من الأمر بالمعروف إلى ما دونه وإن كان فيه الحتوف ، فإن الشجاعة كما قيل صبر ساعة .

ولما كان الإنسان لا بد أن يعرض له من غيره من الخلاف ما يوجب قسوته عليه ، فكانت الرحمة من ثمرات الاصطبار المثمر للعدالة ، وهي التوسط بين مذمتي الإفراط والتفريط في الفسق والبله وهي العقبة الرابعة ، قال مؤكداً بإعادة العامل إشارة إلى قلة العاملين بها : { وتواصوا بالمرحمة * } أي الرحمة العظيمة بحسب زمانها ومكانها بأن يوطنوا أنفسهم على كل ما يحمل على الرحمة العظيمة التي توجب لهم الحب في الله والبغض فيه لأنهم كانوا قبل الإيمان خالصين عن الرياء والإعجاب متهيئين للتزكية فزكاهم الإيمان ، فصاروا في غاية النورانية والعرفان .