في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{بِأَيِّ ذَنۢبٖ قُتِلَتۡ} (9)

1

وإذا الموءودة سئلت : بأي ذنب قتلت ? وقد كان من هوان النفس الإنسانية في الجاهلية أن انتشرت عادة وأد البنات خوف العار أو خوف الفقر . وحكى القرآن عن هذه العادة ما يسجل هذه الشناعة على الجاهلية ، التي جاء الإسلام ليرفع العرب من وهدتها ، ويرفع البشرية كلها . فقال في موضع : ( وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم . يتوارى من القوم من سوء ما بشر به . أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ? ألا ساء ما يحكمون ! ) . . وقال في موضع : وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا [ أي البنات ] ظل وجهه مسودا وهو كظيم . أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ? . . وقال في موضع ثالث : ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ) . .

وكان الوأد يتم في صورة قاسية . إذ كانت البنت تدفن حية ! وكانوا يفتنون في هذا بشتى الطرق . فمنهم من كان إذا ولدت له بنت تركها حتى تكون في السادسة من عمرها ، ثم يقول لأمها : طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ! وقد حفر لها بئرا في الصحراء ، فيبلغ بها البئر ، فيقول لها : انظري فيها . ثم يدفعها دفعا ويهيل التراب عليها ! وعند بعضهم كانت الوالدة إذا جاءها المخاض جلست فوق حفرة محفورة . فإذا كان المولود بنتا رمت بها فيها وردمتها . وإن كان ابنا قامت به معها ! وبعضهم كان إذا نوى ألا يئد الوليدة أمسكها مهينة إلى أن تقدر على الرعي ، فيلبسها جبة من صوف أو شعر ويرسلها في البادية ترعى له إبله !

فأما الذين لا يئدون البنات ولا يرسلونهن للرعي ، فكانت لهم وسائل أخرى لإذاقتها الخسف والبخس . . كانت إذا تزوجت ومات زوجها جاء وليه فألقى عليها ثوبه . ومعنى هذا أن يمنعها من الناس فلا يتزوجها أحد فإن أعجبته تزوجها ، لا عبرة برغبتها هي ولا إرادتها ! وإن لم تعجبه حبسها حتى تموت فيرثها . أو أن تفتدي نفسها منه بمال في هذه الحالة أو تلك . . وكان بعضهم يطلق المرأة ويشترط عليها ألا تنكح غيره إلا من أراد . إلا أن تفتدي نفسها منه بما كان أعطاها . . وكان بعضهم إذا مات الرجل حبسوا زوجته على الصبي فيهم حتى يكبر فيأخذها . . وكان الرجل تكون اليتيمة في حجره يلي أمرها ، فيحبسها عن الزواج ، رجاء أن تموت امرأته فيتزوجها ! أو يزوجها من ابنه الصغير طمعا في مالها أو جمالها . .

فهذه كانت نظرة الجاهلية إلى المرأة على كل حال . حتى جاء الإسلام . يشنع بهذه العادات ويقبحها . وينهى عن الوأد ويغلظ فعلته . ويجعلها موضوعا من موضوعات الحساب يوم القيامة . يذكره في سياق هذا الهول الهائج المائج ، كأنه حدث كوني من هذه الأحداث العظام . ويقول : إن الموءودة ستسأل عن وأدها . . فكيف بوائدها ? !

وما كان يمكن أن تنبت كرامة المرأة من البيئة الجاهلية أبدا ؛ لولا أن تتنزل بها شريعة الله ونهجه في كرامة البشرية كلها ، وفي تكريم الإنسان : الذكر والأنثى ؛ وفي رفعه إلى المكان اللائق بكائن يحمل نفخة من روح الله العلي الأعلى . فمن هذا المصدر انبثقت كرامة المرأة التي جاء بها الإسلام ، لا من أي عامل من عوامل البيئة .

وحين تحقق ميلاد الإنسان الجديد باستمداد القيم التي يتعامل بها من السماء لا من الأرض ، تحققت للمرأة الكرامة ، فلم يعد لضعفها وتكاليف حياتها المادية على أهلها وزن في تقويمها وتقديرها . لأن هذه ليست من قيم السماء ولا وزن لها في ميزانها . إنما الوزن للروح الإنساني الكريم المتصل بالله . وفي هذا يتساوى الذكر والأنثى .

وحين تعد الدلائل على أن هذا الدين من عند الله ، وأن الذي جاء به رسول أوحي إليه . . تعد هذه النقلة في مكانة المرأة إحدى هذه الدلائل التي لا تخطئ . حيث لم تكن توجد في البيئة أمارة واحدة ينتظر أن تنتهي بالمرأة إلى هذه الكرامة ؛ ولا دافع واحد من دوافع البيئة وأحوالها الاقتصادية بصفة خاصة لولا أن نزل النهج الإلهي ليصنع هذا ابتداء بدافع غير دوافع الأرض كلها ، وغير دوافع البيئة الجاهلية بصفة خاصة . فأنشأ وضع المرأة الجديد إنشاء ، يتعلق بقيمة سماوية محضة وبميزان سماوي محض كذلك !

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{بِأَيِّ ذَنۢبٖ قُتِلَتۡ} (9)

المفردات :

الموءودة : البنت التي تدفن حية .

التفسير :

8 ، 9- وإذا الموءودة سئلت* بأي ذنب قتلت .

الموءودة : هي المقتولة ظلما ، وقد كان العرب يئدون البنات مخافة الفقر أو العار ، حتى لا تسبى في الحرب .

وكان منهم من إذا أراد قتل ابنته ، تركها حتى تكمل ست سنوات ، ثم يقول لأمها : زيّنيها وطيّبيها حتى تلحق بأحمائها ( أقاربها ) ، ثم يأخذها إلى الصحراء ، وقد حفر لها بئرا ، فيقول لها : انظري في هذه البئر ، ثم يدفعها من خلفها ، ثم يسوي عليها تراب البئر .

ومنهم من كان يمسك البنت إلى أن تكبر ، ثم يلبسها جبّة من صوف ، ويتركها ترعى الإبل ويمسكها على الذل ، وقد شنّع القرآن على هذه العادات ، ونهى عن فعلها ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة في إكرام البنات وتعليمهن وإحسان معاملتهن .

وأكرم الإسلام المرأة وليدة وناشئة وزوجة وأما ، وشنّع القرآن على إهانة البنت أو قتلها .

قال سبحانه وتعالى : وإذا بشّر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم* يتوارى من القوم من سوء ما بشّر به أيمسكه على هون أم يدسّه في التراب ألا ساء ما يحكمون . ( النحل : 58 ، 59 ) .

وفي هذه الآية الكريمة : وإذا الموءودة سئلت . نجد القرآن الكريم يصوّر مشهدا مؤثرا ، مشهد القاتل الذي أزهق روح المقتولة بلا ذنب ولا جريرة ، يؤتى به موثقا ثم توقف المقتولة فتسأل : ما هو الذنب الذي ارتكبته حتى قتلت ؟ وتجيب الموءودة : لم أرتكب ذنبا ، وإنما ظلمت ظلما ، وعندئذ يحس الظالم بما فعل ، حتى يوشك ألا يستطيع النطق من هول ما فعل ، وسؤال الموءودة فيه إهمال للوائد ، كأنه فقد الإنسانية حتى قتل ابنته ، وهي تستغيث به فلا يغيثها ، فليس أهلا للسؤال .

قال في البحر المحيط :

وهذا السؤال للموءودة توبيخ للفاعلين للوأد ، لأن سؤالها يؤول إلى سؤال الفاعلين .

قال المفسرون : بأي ذنب قتلت .

وسؤال الموءودة عن سبب القتل هو سؤال تلطّف ، لتقول : قتلت بلا ذنب ، أو لتدل على قاتلها ، أو لتوبيخ ذلك القاتل ، بصرف الخطاب عنه تهديدا له ، فإذا سئل المظلوم فما بال الظالم ؟

قال الشيخ محمد عبده في تفسير الآية :

فانظر إلى هذه القسوة ، وغلظ القلب ، وقتل البنات البريئات بغير ذنب ، سوى خوف الفقر أو العار –كيف استبدلت بالرحمة والرأفة بعد أن خالط الإسلام قلوب العرب ، فما أعظم نعمة الإسلام على الإنسانية بأسرها ، بمحوه هذه العادة القبيحة . vi .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{بِأَيِّ ذَنۢبٖ قُتِلَتۡ} (9)

قوله تعالى : " وإذا الموؤودة سئلت ، بأي ذنب قتلت " الموؤودة المقتولة ، وهي الجارية تدفن وهي حية ، سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب ، فيؤودها أي يثقلها حتى تموت ، ومنه قوله تعالى : " ولا يؤوده حفظهما " [ البقرة : 255 ] أي لا يثقله ، وقال متمم بن نويرة :

وموؤودة مقبورة في مفازةٍ *** بآمتِها موسودة لم تُمهَّدِ

وكانوا يدفنون بناتهم أحياء لخصلتين : إحداهما : كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله ، فألحقوا البنات به . الثانية : إما مخافة الحاجة والإملاق ، وإما خوفا من السبي والاسترقاق . وقد مضى في سورة " النحل " هذا المعنى ، عند قوله تعالى : " أم يدسه في التراب " [ النحل : 59 ] مستوفى . وقد كان ذوو الشرف منهم يمتنعون من هذا ، ويمنعون منه ، حتى افتخر به الفرزدق ، فقال :

ومنا الذي مَنَعَ الوائداتِ *** فأحيا الوئيد فلم يُوأَدِ

يعني جده صعصعة كان يشتريهن من آبائهن . فجاء الإسلام وقد أحيا سبعين موؤودة . وقال ابن عباس : كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت حفرت حفرة ، وتمخضت على رأسها ، فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة ، وردت التراب عليها ، وإن ولدت غلاما حبسته ، ومنه قول الراجز :

سَمَّيْتَهَا إذ وُلِدَتْ تموتُ*** والقبرُ صِهْرٌ ضامنٌ زِمِّيتُ

الزميت الوقور ، والزميت مثال الفسيق أوقر من الزميت ، وفلان أزمت الناس أي أوقرهم ، وما أشد تزمته . عن الفراء . وقال قتادة : كانت الجاهلية يقتل أحدهم ابنته ، ويغذو كلبه ، فعاتبهم الله على ذلك ، وتوعدهم بقوله : " وإذا الموؤودة سئلت " قال عمر في قوله تعالى : " وإذا الموؤودة سئلت " قال : جاء قيس بن عاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إني وأدت ثماني بنات كن لي في الجاهلية ، قال : ( فأعتق عن كل واحدة منهن رقبة ) قال : يا رسول الله إني صاحب إبل ، قال : ( فأهد عن كل واحدة منهن بدنة إن شئت ) .

وقوله تعالى : " سئلت " سؤال الموؤودة سؤال توبيخ لقاتلها ، كما يقال للطفل إذا ضرب : لم ضربت ؟ وما ذنبك ؟ قال الحسن : أراد الله أن يوبخ قاتلها ؛ لأنها قتلت بغير ذنب . وقال ابن أسلم : بأي ذنب ضربت ، وكانوا يضربونها . وذكر بعض أهل العلم في قوله تعالى : " سئلت " قال : طلبت ، كأنه يريد كما يطلب بدم القتيل . قال : وهو كقوله : " وكان عهد الله مسؤولا " [ الأحزاب : 15 ] أي مطلوبا . فكأنها طلبت منهم ، فقيل أين أولادكم ؟ وقرأ الضحاك وأبو الضحا عن جابر بن زيد وأبي صالح " وإذا الموؤودة سألت " فتتعلق الجارية بأبيها ، فتقول : بأي ذنب قتلتني ؟ ! فلا يكون له عذر . قاله ابن عباس وكان يقرأ " وإذا الموؤودة سألت " وكذلك هو في مصحف أبي . وروى عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن المرأة التي تقتل ولدها تأتي يوم القيامة متعلقا ولدها بثدييها ، ملطخا بدمائه ، فيقول يا رب ، هذه أمي ، وهذه قتلتني ) . والقول الأول عليه الجمهور ، وهو مثل قوله تعالى لعيسى : " أأنت قلت للناس " ، على جهة التوبيخ والتبكيت لهم ، فكذلك سؤال الموؤودة توبيخ لوائدها ، وهو أبلغ من سؤالها عن قتلها ؛ لأن هذا مما لا يصح إلا بذنب ، فبأي ذنب كان ذلك ، فإذا ظهر أنه لا ذنب لها ، كان أعظم في البلية وظهور الحجة على قاتلها . والله أعلم . وقرئ " قتلت " بالتشديد ، وفيه دليل بين على أن أطفال المشركين لا يعذبون ، وعلى أن التعذيب لا يستحق إلا بذنب .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{بِأَيِّ ذَنۢبٖ قُتِلَتۡ} (9)

ثم قيل على طريق الاستئناف تخويفاً للوالدين : { بأي } أي {[71858]}بسبب أيّ{[71859]} { ذنب } يا-{[71860]} أيها الجاهلون { قتلت * } أي استحقت به عندكم القتل وهي لم-{[71861]} تباشر{[71862]} سوءاً لكونها لم تصل إلى حد التكليف ، فما ظنك بمن هو فوقها وبمن هو جان ، وسؤالها هو على وجه التبكيت لقاتلها ، فإن العرب كانت تدفن البنات أحياء مخافة الإملاق أو لحوق العار بهن ، ويقولون : نردها إلى الله هو أولى بها ، فلا يرضون البنات لأنفسهم ويرضونها لخالقهم ، وكان فيهم من يتكرم عن{[71863]} ذلك{[71864]} ومن يفدي الموءودات ويربيهن ، وليس في الآية دليل على تعذيب أطفال الكفرة ولا عدمه ، فإن الكافر الذي يستحق الخلود قد يكون مستأمناً فلا يحل قتله ، والأطفال ما{[71865]} عملوا ما يستحقون به القتل ، ويؤخذ من سؤال المؤدة تحريم الظلم لكل أحد-{[71866]} وكف اليد واللسان عن كل إنسان .


[71858]:من ظ و م، وفي الأصل: فيها الروح.
[71859]:من ظ و م، وفي الأصل: إلى سبب وأي.
[71860]:من ظ و م، وفي الأصل: إلى سبب وأي.
[71861]:زيد من ظ و م.
[71862]:من ظ و م، وفي الأصل: تباشرها.
[71863]:من ظ و م، وفي الأصل: على.
[71864]:زيد في الأصل: ويفدى الموؤدات، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.
[71865]:من ظ و م، وفي الأصل: لم يكونوا.
[71866]:زيد من ظ و م.