وهو في لوح محفوظ . لا ندرك نحن طبيعته ، لأنه من أمر الغيب الذي تفرد الله بعلمه . إنما ننتفع نحن بالظل الذي يلقيه التعبير ، والإيحاء الذي يتركه في القلوب . وهو أن هذا القرآن مصون ثابت ، قوله هو المرجع الأخير ، في كل ما يتناوله من الأمور . يذهب كل قول ، وقوله هو المرعي المحفوظ . .
ولقد قال القرآن قوله في حادث الأخدود ، وفي الحقيقة التي وراءه . . وهو القول الأخير . .
هو في اللوح المحفوظ الذي في السماء ، محفوظ من الزيادة والنقصان ، والتحريف والتبديل ، ونحن نؤمن بأن القرآن كلام الله ، أودعه الله في اللوح المحفوظ .
وقد حفظ الله كتابه على مر القرون ، وتكفّل الله بحفظه ، وبأن يظل دائما أصل أصول الدين ، وأساس الإسلام وكلّي الشريعة .
( فيه نبأ من قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو الجدّ ليس بالهزل ، من تركه من جبّار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، لم تسمعه الجن حتى قالت : إنا سمعنا قرآنا عجبا ، يهدي إلى الرشد فآمنا به ، ولن نشرك بربنا أحدا ) .
إن هذا القرآن المجيد عند الله في لوح محفوظ ، ينزل منه ما يشاء على من يشاء من خلقه .
آمنا بالله وحده لا شريك له ، وبأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله ، وبأن القرآن كلام الله تعالى ، منزه عن النظير والمثيل ، محفوظ من التغيير والتبديل .
كما قال سبحانه وتعالى : إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون . ( الحجر : 9 ) .
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم .
من كتاب التفسير المنير للدكتور وهبة الزحيلي
أخرج الإمام أحمد ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العشاء الآخرة ب : والسماء ذات البروج ، والسماء والطارق . iii .
وأخرج أحمد ، عن أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يقرأ بالسماوات في العشاء . iv .
المقصود من هذه السورة تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن إيذاء الكفار ، ببيان أن سائر الأمم السابقة كانوا كأهل مكة ، مثل أصحاب الأخدود في نجران اليمن ، ومثل فرعون وثمود .
وكان كل الكفار سواء في التكذيب ، فانتقم الله منهم ، لأنهم جميعا في قبضة القدرة الإلهية : والله من ورائهم محيط . وهذا شيء مثبت في اللوح المحفوظ ممتنع التغيير ، لقوله تعالى : بل هو قرآن مجيد* في لوح محفوظ .
وسبب نزول هذه السورة التي تدور على قصة أصحاب الأخدود ما رواه مسلم في صحيحه ، وأحمد ، والنسائي ، وموجزها : أن أحد ملوك الكفر وهو ذو نواس اليهودي واسمه زرعة بن تبّان أسعد الحميري ، بلغه أن بعض رعيته آمن بدين النصرانيةv ، فسار إليهم بجنود من حمير ، فلما أخذوهم خيّروهم بين اليهودية والإحراق بالنار ، فاختاروا القتل ، فشقوا لهم الأخدود ، وأضرموا فيه النار ، ثم قالوا للمؤمنين : من رجع منكم عن دينه تركناه ، ومن لم يرجع ألقيناه في النار ، فصبروا ، فألقوهم في النار ، فاحترقوا ، والملك وأصحابه ينظرون .
قيل : قتل منهم عشرين ألفا ، وقيل : اثني عشر ألفا .
وقال الكلبي : كان أصحاب الأخدود سبعين ألفا .
والخلاصة : أن ذا نواس آخر ملوك حمير -وكان مشركا- قتل أصحاب الأخدود الذين كانوا نصارى ، وكانوا قريبا من عشرين ألفاvi .
تفصيل القصة –قصة الساحر والراهب والغلام :
المعتمد من قصص أصحاب الأخدود ما جاء في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنه كان لبعض الملوك ساحر ، فلما كبر ضمّ إليه غلاما ليعلّمه السحر ، وكان في طريق الغلام راهب يتكلم بالمواعظ لأجل الناس ، فمال قلب الغلام إلى حديثه ، فرأى في طريقه ذات يوم دابة أو حية قد حبست الناس ، فأخذ حجرا فقال : اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها بهذا الحجر ، فقتلها .
وكان ذلك الغلام بعدئذ يتعلم من الراهب إلى أن صار بحيث يبرئ الأكمه والأبرص ، ويشفي من الداء .
وعمي جليس للملك فأبرأه ، فأبصره الملك فسأله : من رد عليك بصرك ؟ فقال : رب ، فغضب ، فعذّبه ، فدل على الغلام ، فعذّب الغلام حتى دل على الراهب ، فلم يرجع الراهب عن دينه ، فقدّ بالمنشار ، وأتى الغلام ، فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته ، فدعا فرجف بالقوم فطاحوا ونجا ، فذهبوا به إلى قرقور ( سفينة صغيرة ) ، فلججوا ليغرقوه ، فدعا ، فانكفأت بهم السفينة ، فغرقوا ونجا ، وقال الملك : لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد ، وتصلبني على جذع ، وتأخذ سهما من كنانتي وتقول : بسم الله رب الغلام ، ثم ترميني به .
فرماه فوقع في صدغه ، فوضع يده عليه ومات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام ، فقيل للملك : نزل بك ما كنت تحذر ، فأمر بأخاديد في أفواه السّكك وأوقدت فيها النيران ، فمن لم يرجع منها طرحه فيها ، حتى جاءت امرأة معها صبي ، فتقاعست أن تقع فيها ، فقال الصبي : يا أماه ، اصبري فإنك على الحق ، وما هي إلا غميضة ، فصبرت واقتحمت ) . vii .
i جاء في تفسير البحر المحيط ما يأتي :
وإنما ذكر الأوصاف التي يستحق بها تعالى أن يؤمن به ، وهي كونه ( عزيزا ) أي : غالبا قادرا يخشى عقابه . ( حميدا ) أي : منعما يجب له الحمد على نعمه { له ملك السماوات والأرض } أي : وكل من فيهما يحق عليه عبادته والخشوع له ، وإنما ذكر ذلك تقريرا ، لأن ما نقموه منهم هو الحق ، ولا ينقمه إلا مبطل منهمك في الغيّ والضلال .
ii في ظلال القرآن ، الأستاذ سيد قطب ، دار المشرق المجلد 6 ص 3874 .
رواه أحمد في مسنده ( 8132 ) من حديث أبي هريرة بلفظ : يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ، يعني : ذات البروج ، والسماء والطارق .
iv أمر أن يقرأ بالسماوات في العشاء :
رواه أحمد في مسنده ( 8133 ) من حديث أبي هريرة بلفظ : أمر أن يقرأ بالسماوات في العشاء .
v وقال الضحاك : هم قوم من النصارى كانوا باليمن قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة ، أخذهم يوسف بن شراحيل ابن تبّع الحميري ، وكانوا نيفا وثمانين رجلا ، وحفر لهم أخدودا وأحرقهم فيه .
vii التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج ، الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي دار الفكر المعاصر بيروت لبنان ، الجزء 30/152 -154 .
{ في لوح محفوظ } قرأ نافع : { محفوظ } بالرفع على نعت القرآن ، فإن القرآن محفوظ من التبديل والتغيير والتحريف ، قال الله تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }( الحجر- 9 ) . وقرأ الآخرون بالجر على نعت اللوح ، وهو الذي يعرف باللوح المحفوظ ، وهو أم الكتاب ، ومنه وتنسخ الكتب ، محفوظ من الشياطين ، ومن الزيادة فيه والنقصان .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أنبأنا الحسين بن أحمد بن فنجويه ، أنبأنا مخلد بن جعفر ، حدثنا الحسن بن علوية ، أنبأنا إسماعيل بن عيسى ، حدثنا إسحاق بن بشر ، أخبرني مقاتل وابن جريج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : إن في صدر اللوح : لا إله إلا الله وحده ودينه الإسلام ، ومحمد عبده ورسوله ، فمن آمن بالله عز وجل وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الجنة ، قال : واللوح لوح من درة بيضاء ، طوله ما بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق إلى المغرب ، وحافتاه الدر والياقوت ، ودفتاه ياقوتة حمراء ، وقلمه نور ، وكلامه قديم ، وكل شيء فيه مستور ، وقيل : أعلاه معقود بالعرش ، وأصله في حجر ملك . قال مقاتل : اللوح المحفوظ عن يمين العرش .
" في لوح محفوظ " أي مكتوب في لوح . وهو محفوظ عند الله تعالى من وصول الشياطين إليه . وقيل : هو أم الكتاب ، ومنه انتسخ القرآن والكتب . وروى الضحاك عن ابن عباس قال : " اللوح من ياقوتة حمراء ، أعلاه معقود بالعرش وأسفله في حجر ملك يقال له ماطريون{[15915]} ، كتابه نور ، وقلمه نور ، ينظر الله عز وجل فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظرة ، ليس منها نظرة إلا وهو يفعل ما يشاء ، يرفع وضيعا ، ويضع رفيعا ، ويغني فقيرا ، ويفقر غنيا ، يحيي ويميت ، ويفعل ما يشاء ؛ لا إله إلا هو " . وقال أنس بن مالك ومجاهد : إن اللوح المحفوظ الذي ذكره الله تعالى في جبهة إسرافيل . وقال مقاتل : اللوح المحفوظ عن يمين العرش . وقيل : اللوح المحفوظ الذي فيه أصناف الخلق والخليقة ، وبيان أمورهم ، وهو أم الكتاب . وقال ابن عباس : أول شيء كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ " إني أنا الله لا إله إلا أنا ، محمد رسولي ، من استسلم لقضائي ، وصبر على بلائي ، وشكر نعمائي ، كتبته صديقا وبعثته مع الصديقين ، ومن لم يستسلم لقضائي ولم يصبر على بلائي ، ولم يشكر نعمائي ، فليتخذ إلها سواي " . وكتب الحجاج إلى محمد بن الحنفية رضي الله عنه يتوعده ، فكتب إليه ابن الحنفية : " بلغني أن لله تعالى في كل يوم ثلثمائة وستين نظرة في اللوح المحفوظ ، يعز ويذل ، ويبتلى ويفرح ، ويفعل ما يريد ، فلعل نظرة منها تشغلك بنفسك ، فتشتغل بها ولا تتفرغ " . وقال بعض المفسرين : اللوح شيء يلوح للملائكة فيقرؤونه .
وقرأ ابن السميقع وأبو حيوة " قرآن مجيد " على الإضافة ، أي قرآن رب مجيد . وقرأ نافع " في لوح محفوظ " بالرفع نعتا للقرآن ، أي بل هو قرآن مجيد محفوظ في لوح . الباقون ( بالجر ) نعتا للوح . والقراء متفقون على فتح اللام من " لوح " إلا ما روي عن يحيى بن يعمر ، فإنه قرآن " لوح " بضم اللام ، أي إنه يلوح ، وهو ذو نور وعلو وشرف . قال الزمخشري : واللوح الهواء ، يعني اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح . وفي الصحاح : لاح الشيء يلوح لوحا أي لمح . ولاحه السفر : غيره . ولاح لوحا ولواحا : عطش ، والتاج مثله . واللوح : الكتف ، وكل عظم عريض . واللوح : الذي يكتب فيه . واللوح ( بالضم ) : الهواء بين السماء والأرض . والحمد لله .
ولما وصفه في نفسه مما يأبي له لحاق شيء من شبهة ، وصف محله في الملأ الأعلى إعلاماً بأنه لا يطرأ عليه ما يغيره فقال : { في لوح } وهو كل صفيحة{[72558]} عريضة-{[72559]} من خشب أو عظم أو غيرهما { محفوظ * } أي له الحفظ دائماً على أتم الوجوه من كل خلل ومن-{[72560]} أن يصل إليه-{[72561]} إلا الملائكة الكرام ، قال حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى في كتاب الموت من الأحياء{[72562]} : يعبر عنه تارة باللوح ، وتارة بالكتاب المبين ، وتارة بإمام مبين ، فجميع ما جرى في العالم وما سيجري مكتوب فيه كتباً لا يشاهد{[72563]} بهذه العين ، وليس مما نعهده من الألواح ، فلوحه تعالى لا يشبه ألواح خلقه كما أن ذاته تعالى لا تشبه ذوات خلقه ، ومثاله مثال قلب الإنسان في حفظ القرآن مثلاً كلماته وحروفه ، ولو فتش قلبه لم يوجد فيه شيء ولا ينظر ذلك إلا نبي أو ولي بقرب من درجته - هذا معنى كلام الإمام رحمه الله تعالى ، وقرأ نافع بالرفع صفة للقرآن فحفظه من التغيير {[72564]}والتبديل{[72565]} والتحريف وكل شبهة وريب في نظمه أو معناه كما أن البروج محفوظة في لوح السماء المحفوظ ، بل القرآن بذلك أولى لأنه صفة الخالق في بيان وصفه لما خلق على الوجه الأتم الأعدل لأنه ترجمة ما أوجده الله سبحانه في الوجود ، فصح قطعاً أنه لا بد أن يصدق في كل ما أخبر به ، ومن أعظمه أنه سبحانه يحشر الناس للدينونة بالثواب والعقاب كما دان من-{[72566]} كذب أولياءه في الدنيا بمثل ذلك فأخذ أعداءه وأنجى أولياءه ، فرجع الختام منها على المبتدأ ، وتعانق الافتتاح بالمنتهى ، فاقتضى ذلك تنزيه المتكلم به-{[72567]} عن أن يترك شيئاً فضلاً عن الأنفس بغير حفظ وعن كل ما لا يليق ، وإثبات الكمالات له والأكمليات بكل{[72568]} طريق{[72569]} - والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب ، {[72570]}وإليه المهرب والمتاب{[72571]} .