ثم نخلص إلى الموقف الذي يرسمه هذا النص القرآني الفريد :
( وجوه يومئذ ناضرة . إلى ربها ناظرة ) . .
إن هذا النص ليشير إشارة سريعة إلى حالة تعجز الكلمات عن تصويرها ؛ كما يعجز الإدراك عن تصورها بكل حقيقتها . ذلك حين يعد الموعودين السعداء بحالة من السعادة لا تشبهها حالة . حتى لتتضاءل إلى جوارها الجنة بكل ما فيها من ألوان النعيم !
هذه الوجوه الناضرة . . نضرها أنها إلى ربها ناظرة . .
إلى ربها . . ? ! فأي مستوى من الرفعة هذا ? أي مستوى من السعادة ?
إن روح الإنسان لتستمتع أحيانا بلمحة من جمال الإبداع الإلهي في الكون أو النفس ، تراها في الليلة القمراء . أو الليل الساجي . أو الفجر الوليد . أو الظل المديد . أو البحر العباب . أو الصحراء المنسابة . أو الروض البهيج . أو الطلعة البهية . أو القلب النبيل . أو الإيمان الواثق . أو الصبر الجميل . . إلى آخر مطالع الجمال في هذا الوجود . . فتغمرها النشوة ، وتفيض بالسعادة ، وترف بأجنحة من نور في عوالم مجنحة طليقة . وتتوارى عنها أشواك الحياة ، وما فيها من ألم وقبح ، وثقلة طين وعرامة لحم ودم ، وصراع شهوات وأهواء . .
فكيف ? كيف بها وهي تنظر - لا إلى جمال صنع الله - ولكن إلى جمال ذات الله ?
ألا إنه مقام يحتاج أولا إلى مد من الله . ويحتاج ثانيا إلى تثبيت من الله . ليملك الإنسان نفسه ، فيثبت ، ويستمتع بالسعادة ، التي لا يحيط بها وصف ، ولا يتصور حقيقتها إدراك !
( وجوه يومئذ ناضرة . . إلى ربها ناظرة ) . .
ومالها لا تتنضر وهي إلى جمال ربها تنظر ?
إن الإنسان لينظر إلى شيء من صنع الله في الأرض . من طلعة بهية ، أو زهرة ندية ، أو جناح رفاف ، أو روح نبيل ، أو فعل جميل . فإذا السعادة تفيض من قلبه على ملامحه ، فيبدو فيها الوضاءة والنضارة . فكيف بها حين تنظر إلى جمال الكمال . مطلقا من كل ما في الوجود من شواغل عن السعادة بالجمال ? فما تبلغ الكينونة الإنسانية ذلك المقام ، إلا وقد خلصت من كل شائبة تصدها عن بلوغ ذلك المرتقى الذي يعز على الخيال ! كل شائبة لا فيما حولها فقط ، ولكن فيها هي ذاتها من دواعي النقص والحاجة إلى شيء ما سوى النظر إلى الله . .
فأما كيف تنظر ? وبأي جارحة تنظر ? وبأي وسيلة تنظر ? . . فذلك حديث لا يخطر على قلب يمسه طائف من الفرح الذي يطلقه النص القرآني ، في القلب المؤمن ، والسعادة التي يفيضها على الروح ، والتشوف والتطلع والانطلاق !
فما بال أناس يحرمون أرواحهم أن تعانق هذا النور الفائض بالفرح والسعادة ? ويشغلونها بالجدل حول مطلق ، لا تدركه العقول المقيدة بمألوفات العقل ومقرراته ? !
إن ارتقاء الكينونة الإنسانية وانطلاقها من قيود هذه الكينونة الأرضية المحدودة ، هو فقط محط الرجاء في التقائها بالحقيقة الطليقة يومذاك . وقبل هذا الانطلاق سيعز عليها أن تتصور - مجرد تصور - كيف يكون ذلك اللقاء .
وإذن فقد كان جدلا ضائعا ذلك الجدل الطويل المديد الذي شغل به المعتزلة أنفسهم ومعارضيهم من أهل السنة والمتكلمين حول حقيقة النظر والرؤية في مثل ذلك المقام .
لقد كانوا يقيسون بمقاييس الأرض ؛ ويتحدثون عن الإنسان المثقل بمقررات العقل في الأرض ؛ ويتصورون الأمر بالمدارك المحدودة المجال .
إن مدلول الكلمات ذاته مقيد بما تدركه عقولنا وتصوراتنا المحدودة . فإذا انطلقت وتحررت من هذه التصورات فقد تتغير طبيعة الكلمات . فالكلمات ليست سوى رموز يختلف ما ترمز إليه بحسب التصورات الكامنة في مدارك الإنسان . فإذا تغيرت طاقته تغير معها رصيده من التصورات ، وتغيرت معها طبيعة مدلول الكلمات ونحن نتعامل في هذه الأرض بتلك الرموز على قدر حالنا ! فما لنا نخوض في أمر لا يثبت لنا منه حتى مدلول الكلمات ? !
فلنتطلع إلى فيض السعادة الغامر الهادئ ، وفيض الفرح المقدس الطهور ، الذي ينطلق من مجرد تصورنا لحقيقة الموقف على قدر ما نملك . ولنشغل أرواحنا بالتطلع إلى هذا الفيض ؛ فهذا التطلع ذاته نعمة . لا تفوقها إلا نعمة النظر إلى وجهه الكريم . .
ناضرة : متهللة بشرا بما ترى من النعيم .
ناظرة : أي تنظر إلى ربها عيانا بلا حجاب .
22 ، 23- وجوه يومئد ناضرة* إلى ربها ناظرة .
وجوه يومئذ . أي في الآخرة والقيامة . ناضرة . مستبشرة ناعمة ، فرحة راضية .
قال تعالى : تعرف في وجوههم نضرة النعيم* يسقون من رحيق مختوم* ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون . ( المطففين : 24- 26 ) .
وهذه الوجوه الناضرة تنال النعيم والقربى ، والسعادة والسرور بنظرها إلى ربها ، ويكون ذلك أسعد شيء لأهل الجنة .
قال تعالى : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة . . . ( يونس : 26 ) .
فالحسنى هي الجنة ، والزيادة هي تفضّل الله عليهم بالرضا فلا يسخط عليهم أبدا ، وبرؤية ربهم سبحانه وتعالى ، رؤية منزهة عن الكم والكيف ، والطول والعرض ، فنحن في الدنيا عيوننا فانية والله باق ، والفاني لا يرى الباقي ، فإذا كان يوم القيامة منحنا الله أبصارا باقية .
وقد طلب موسى رؤية الله في الدنيا ، فلم يجب إلى ذلكiii . أما في الآخرة فإن الثابت عند أهل السنة والجماعة أن أهل الدرجات العالية في الجنة يرون ربهم ، رؤية نؤمن بها ونفوّض حقيقة المراد منها إلى الله تعالى .
وفي منظومة الجوهرة ، وهي منظومة فنية في علم التوحيد :
ومنه أن يدرك بالأبصار *** لكن بلا كيف ولا انحصار
أي : من عقيدة أهل السنة والجماعة أن السعداء في الجنة يرون ربهم ، بدون تحديد بصفة أو جهة أو مسافة ، وهذه الرؤية هي أعلى نعيم ، وأسمى غاية لأهل الفضل والدرجات العلى في الجنة .
وقد ثبتت هذه الرؤية في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث ، لا يمكن دفعها ولا منعها ، وقد أورد الحافظ ابن كثير طائفة من الأحاديث الصحيحة في تأييد رؤية المؤمنين لربهم في الدار الآخرة ، نسوق منها ما يأتي :
في الصحيحين ، عن جرير قال : نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر البدر ، فقال : ( إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة ما قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا )iv .
وفي الصحيحين عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وما بين أن ينظروا إلى الله عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن )v .
وفي صحيح مسلم ، عن صهيب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا دخل أهل الجنة الجنة –قال- يقول الله تعالى : تريدون شيئا أزيدكم ؟ فيقولون : ألم تبيض وجوهنا ، ألم تدخلنا الجنة وتنجنا النار ، قال : فيكشف الحجاب ، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم وهي الزيادة ) ، ثم تلا هذه الآية : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة . . . ( يونس : 26 ) . vi .
ففي هذه الأحاديث أن المؤمنين ينظرون إلى ربهم عز وجل في العرضات وفي روضات الجنات .
وروى الإمام أحمد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن أدنى أهل الجنة منزلة لينظر في ملكه ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه ، ينظر إلى أزواجه وخدمه ، وإن أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله كل يوم مرتين )vii .
قال الحسن : وجوه يومئذ ناضرة . قال : حسنة . إلى ربها ناظرة . قال : تنظر إلى الخالق ، وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالقviii .
ولما ذكر الآخرة التي أعرضوا عنها ، ذكر ما يكون فيها بياناً بجهلهم وسفههم وقلة عقلهم ، ترهيباً لمن أدبر عنها وترغيباً لمن أقبل عليها لطفاً بهم ورحمة لهم فقال : { وجوه } أي من المحشورين وهم جميع الخلائق { يومئذ } أي إذ تقوم القيامة { ناضرة * } من النضرة{[70247]} بالضاد ، وهي النعمة والرفاهية أي{[70248]} هي بهية مشرقة ظاهر عليها أثر{[70249]} النعمة بحيث يدل {[70250]}ذلك على{[70251]} نعمة أصحابها
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.