قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } فيه أوجه :
أحدها : أن يكون «وجوهٌ » مبتدأ ، و «نَاضِرةٌ » نعتٌ له ، و «يَومئذٍ » منصوب ب «نَاضِرَةٌ » و «ناظِرَةٌ » خبره ، و «إلى ربِّها » متعلق بالخبر . والمعنى : أن الوجوه الحسنة يوم القيامة ناظرة إلى الله تعالى ، وهذا معنى صحيح ، والنَّاضرة : من النُّضرة وهي التنعم ، ومنه غصن ناضر .
الثاني : أن تكون «وُجوهٌ » مبتدأ أيضاً ، و «نَاضِرةٌ » خبره ، و «يَوْمئذٍ » منصوب الخبر - كما تقدم - وسوَّغ الابتداء هنا بالنكرة كون الموضع موضع تفصيل ، كقوله : [ المتقارب ]
4996 - . . . *** فَثَوْبٌ لَبِسْتُ وثَوْبٌ أجُرْ{[58697]}
وتكون «نَاضِرةٌ » نعتاً ل «وُجوهٌ » أو خبراً ثانياً أو خبراً لمبتدأ محذوف ، و «إلى ربِّها » متعلق ب «ناظرة » كما تقدم .
وقال ابن عطية : وابتدأ بالنكرة ؛ لأنها تخصصت بقوله : «يوْمَئذٍ » .
وقال أبو البقاء : وجاز الابتداء هنا بالنَّكرة لحصول الفائدة .
وفي كلا قوليهما نظر أما قول ابن عطية : فلأن قوله «تخصصت » بقوله : «يَوْمئذٍ » هو التخصيص إما لكونها عاملة فيه ، وهو محال ؛ لأنها جامدة ، وإما لأنها موصوفة به ، وهو محال أيضاً ؛ لأن الجثة لا توصف بالزمان كما لا يخبر به عنها .
وأما قول أبي البقاء : فإن أراد بحصول الفائدة ما تقدم من التفصيل فصحيح ، وإن عنى ما عناه ابن عطية فليس بصحيح لما تقدم .
الثالث : أن يكون «وُجوهٌ » مبتدأ ، و «يُوْمئذٍ » خبره . قاله أبو البقاءِ .
وهذا غلطٌ من حيث المعنى ومن حيث الصناعة .
أما المعنى : فلا فائدة في الإخبار عنها بذلك ، وأما الصناعة : فلأنه لا يخبر بالزمان عن الجثة ، فإن ورد ما ظاهره ذلك يؤول نحو «الليلة الهلالُ » .
الرابع : أن يكون «وُجوهٌ » مبتدأ و «نَاضِرةٌ » خبره ، و { إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } جملة مستأنفة في موضع خبر ثانٍ ، قاله ابن عطية .
وفيه نظر ؛ لأنه لا ينعقد منهما كلام ؛ إذ الظاهر تعلُّق «إلى » ب «نَاظِرةٌ » اللهمّ إلا أن يعني أن «ناظرة » خبر لمبتدأ مضمر ، أي : هي ناظرة إلى ربها ، وهذه الجملة خبر ثان وفيه تعسف .
الخامس : أن يكون الخبر ل «وُجوهٌ » مقدَّراً ، أي : وجوه يومئذ ثمَّ ، و «نَاضِرةٌ » صفة وكذلك «ناظرة » .
قاله أبو البقاء : وهو بعيد لعدم الحاجة إلى ذلك .
والوجه : الأولى لخلوصه من هذه التعسّفات . وكون «إلى » حرف جر ، و «ربها » مجروراً بها هو المتبادر إلى الذهن ، وقد خرجه بعض المعتزلة على أن يكون «إلى » اسماً مفرداً بمعنى النعمة مضافاً إلى «الرب » ويجمع على «آلاء » نحو { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا } [ الرحمن : 13 ] - وقد تقدم أن فيها لغات أربعاً - و «ربِّهَا » خفض بالإضافة والمفعول مقدم ناصبه «ناظرة » بمعنى منتظرة والتقدير : وجوه منتظرة نعمة ربها .
وهذا فرار من إثبات النظر لله - تعالى - على معتقدهم .
وتَمحَّل الزمخشري لمذهب المعتزلة بطريق أخرى من جهة الصناعة ، فقال - بعد أن جعل التقديم في «إلى ربها » مؤذناً بالاختصاص - : والذي يصح معه أن يكون من قول الناس : إنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي ، يريد معنى التوقّع والرجاء ؛ ومنه قول القائل : [ الكامل ]
4997 - وإذَا نَظرْتُ إليْكَ مِنْ ملِكٍ*** والبَحْرُ دُونكَ زِدْتَنِي نِعَمَا{[58698]}
وسمعت سُرِّيَّة مستجدية ب «مكة » وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ، ويأوون إلى مقايلهم تقول : «عُيَيْنتي نويظرة » إلى الله وإليكم ، والمعنى : أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم .
قال شهاب الدين{[58699]} : وهذا كالحوم على من يقول إن «نَاظِرةٌ » بمعنى منتظرة ، إلا أن مكيّاً قد رد هذا القول ، فقال : ودخول «إلى » مع النظر يدل على أنه نظر العين ، وليس من الانتظار ولو كان من الانتظار لم تدخل معه «إلى » ؛ ألا ترى أنك لا تقول : انتظرت إلى زيد ، وتقول : نظرت إلى زيد تعني نظر العين ، ف «إلى » تصحب نظر العين ، ولا تصحب نظر الانتظار ، فمن قال : إن «ناظرة » بمعنى «منتظرة » فقد أخطأ في المعنى وفي الإعراب ووضع الكلام في غير موضعه .
وقال القرطبي{[58700]} : «إن العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا : نظرته ، كما قال تعالى { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة } [ الزخرف : 66 ] ، { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } [ الأعراف : 53 ] ، { مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } [ يس : 49 ] ، وإذا أرادت به التفكر والتدبر قالوا : نظرت فيه ، فأما إذا كان النظر مقروناً بذكر " إلى " وذكر الوجه فلا يكون إلا بمعنى الرؤية والعيان » .
وقال الأزهري : «إن قول مجاهد : تنتظر ثواب ربها خطأ ؛ لأنه لا يقال : نظر إلى كذا بمعنى الانتظار ، وإن قول القائل : نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين ، كذا تقوله العرب ؛ لأنهم يقولون : نظرت إليه إذا أرادوا نظر العين ، فإذا أرادوا الانتظار قالوا : نظرته » ؛ قال : [ الطويل ]
4998 - فإنَّكُمَا إنْ تنْظُرَا لي سَاعةً*** مِنَ الدَّهرِ تَنْفعْنِي لدى أمِّ جُندُبِ{[58701]}
لما أرادوا الانتظار قال : تنظراني ، وإذا أرادوا نظر العين قالوا : نظرت إليه .
4999 - نَظرْتُ إليْهَا والنُّجُومُ كأنَّها*** مَصابِيحُ رُهبَانٍ تُشَبُّ لِقفَّالِ{[58702]}
5000 - نَظَرْتُ إليْهَا بالمُحَصَّبِ من مِنى *** . . . {[58703]}
والنّضْرة : طرواة البشرة وجمالها ، وذلك من أثر النعمة ، يقال : نضر وجهه فهو ناضر .
وقال بعضهم : نسلم أنه من نظر العين إلا أن ذلك على حذف مضاف ، أي ثواب ربها ونحوه .
قال مكي : «لو جاء هذا لجاز : نظرت إلى زيد ، بمعنى : نظرت إلى عطاء زيد ، وفي هذا نقض لكلام العرب وتخليط في المعاني » .
ونضَره الله ونضَّره ، مخففاً ومثقلاً ، أي : حسنه ونعمه .
قال صلى الله عليه وسلم : «نَضَّر اللَّهُ امْرأً سَمِعَ مَقالَتِي فوَعَاهَا ، فأدَّاهَا كما سَمِعهَا »{[58704]} يروى بالوجهين .
ويقال للذهب : نُضَار من ذلك ، ويقال له : النضر أيضاً .
ويقال : أخضر ناضر كأسود حالك ، وقدح نضار : يروى بالإتباع والإضافة .
والعامة : «ناضرة » بألف ، وقرأ زيد{[58705]} بن علي : «نضرة » بدونها ، ك «فرح » فهو فرح .
روى مسلم في قوله تعالى { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى } [ يونس : 26 ] كان ابن عمر يقول : أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ، ثم تلا : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ }{[58706]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.