اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وُجُوهٞ يَوۡمَئِذٖ نَّاضِرَةٌ} (22)

قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } فيه أوجه :

أحدها : أن يكون «وجوهٌ » مبتدأ ، و «نَاضِرةٌ » نعتٌ له ، و «يَومئذٍ » منصوب ب «نَاضِرَةٌ » و «ناظِرَةٌ » خبره ، و «إلى ربِّها » متعلق بالخبر . والمعنى : أن الوجوه الحسنة يوم القيامة ناظرة إلى الله تعالى ، وهذا معنى صحيح ، والنَّاضرة : من النُّضرة وهي التنعم ، ومنه غصن ناضر .

الثاني : أن تكون «وُجوهٌ » مبتدأ أيضاً ، و «نَاضِرةٌ » خبره ، و «يَوْمئذٍ » منصوب الخبر - كما تقدم - وسوَّغ الابتداء هنا بالنكرة كون الموضع موضع تفصيل ، كقوله : [ المتقارب ]

4996 - . . . *** فَثَوْبٌ لَبِسْتُ وثَوْبٌ أجُرْ{[58697]}

وتكون «نَاضِرةٌ » نعتاً ل «وُجوهٌ » أو خبراً ثانياً أو خبراً لمبتدأ محذوف ، و «إلى ربِّها » متعلق ب «ناظرة » كما تقدم .

وقال ابن عطية : وابتدأ بالنكرة ؛ لأنها تخصصت بقوله : «يوْمَئذٍ » .

وقال أبو البقاء : وجاز الابتداء هنا بالنَّكرة لحصول الفائدة .

وفي كلا قوليهما نظر أما قول ابن عطية : فلأن قوله «تخصصت » بقوله : «يَوْمئذٍ » هو التخصيص إما لكونها عاملة فيه ، وهو محال ؛ لأنها جامدة ، وإما لأنها موصوفة به ، وهو محال أيضاً ؛ لأن الجثة لا توصف بالزمان كما لا يخبر به عنها .

وأما قول أبي البقاء : فإن أراد بحصول الفائدة ما تقدم من التفصيل فصحيح ، وإن عنى ما عناه ابن عطية فليس بصحيح لما تقدم .

الثالث : أن يكون «وُجوهٌ » مبتدأ ، و «يُوْمئذٍ » خبره . قاله أبو البقاءِ .

وهذا غلطٌ من حيث المعنى ومن حيث الصناعة .

أما المعنى : فلا فائدة في الإخبار عنها بذلك ، وأما الصناعة : فلأنه لا يخبر بالزمان عن الجثة ، فإن ورد ما ظاهره ذلك يؤول نحو «الليلة الهلالُ » .

الرابع : أن يكون «وُجوهٌ » مبتدأ و «نَاضِرةٌ » خبره ، و { إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } جملة مستأنفة في موضع خبر ثانٍ ، قاله ابن عطية .

وفيه نظر ؛ لأنه لا ينعقد منهما كلام ؛ إذ الظاهر تعلُّق «إلى » ب «نَاظِرةٌ » اللهمّ إلا أن يعني أن «ناظرة » خبر لمبتدأ مضمر ، أي : هي ناظرة إلى ربها ، وهذه الجملة خبر ثان وفيه تعسف .

الخامس : أن يكون الخبر ل «وُجوهٌ » مقدَّراً ، أي : وجوه يومئذ ثمَّ ، و «نَاضِرةٌ » صفة وكذلك «ناظرة » .

قاله أبو البقاء : وهو بعيد لعدم الحاجة إلى ذلك .

والوجه : الأولى لخلوصه من هذه التعسّفات . وكون «إلى » حرف جر ، و «ربها » مجروراً بها هو المتبادر إلى الذهن ، وقد خرجه بعض المعتزلة على أن يكون «إلى » اسماً مفرداً بمعنى النعمة مضافاً إلى «الرب » ويجمع على «آلاء » نحو { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا } [ الرحمن : 13 ] - وقد تقدم أن فيها لغات أربعاً - و «ربِّهَا » خفض بالإضافة والمفعول مقدم ناصبه «ناظرة » بمعنى منتظرة والتقدير : وجوه منتظرة نعمة ربها .

وهذا فرار من إثبات النظر لله - تعالى - على معتقدهم .

وتَمحَّل الزمخشري لمذهب المعتزلة بطريق أخرى من جهة الصناعة ، فقال - بعد أن جعل التقديم في «إلى ربها » مؤذناً بالاختصاص - : والذي يصح معه أن يكون من قول الناس : إنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي ، يريد معنى التوقّع والرجاء ؛ ومنه قول القائل : [ الكامل ]

4997 - وإذَا نَظرْتُ إليْكَ مِنْ ملِكٍ*** والبَحْرُ دُونكَ زِدْتَنِي نِعَمَا{[58698]}

وسمعت سُرِّيَّة مستجدية ب «مكة » وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ، ويأوون إلى مقايلهم تقول : «عُيَيْنتي نويظرة » إلى الله وإليكم ، والمعنى : أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم .

قال شهاب الدين{[58699]} : وهذا كالحوم على من يقول إن «نَاظِرةٌ » بمعنى منتظرة ، إلا أن مكيّاً قد رد هذا القول ، فقال : ودخول «إلى » مع النظر يدل على أنه نظر العين ، وليس من الانتظار ولو كان من الانتظار لم تدخل معه «إلى » ؛ ألا ترى أنك لا تقول : انتظرت إلى زيد ، وتقول : نظرت إلى زيد تعني نظر العين ، ف «إلى » تصحب نظر العين ، ولا تصحب نظر الانتظار ، فمن قال : إن «ناظرة » بمعنى «منتظرة » فقد أخطأ في المعنى وفي الإعراب ووضع الكلام في غير موضعه .

وقال القرطبي{[58700]} : «إن العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا : نظرته ، كما قال تعالى { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة } [ الزخرف : 66 ] ، { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } [ الأعراف : 53 ] ، { مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } [ يس : 49 ] ، وإذا أرادت به التفكر والتدبر قالوا : نظرت فيه ، فأما إذا كان النظر مقروناً بذكر " إلى " وذكر الوجه فلا يكون إلا بمعنى الرؤية والعيان » .

وقال الأزهري : «إن قول مجاهد : تنتظر ثواب ربها خطأ ؛ لأنه لا يقال : نظر إلى كذا بمعنى الانتظار ، وإن قول القائل : نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين ، كذا تقوله العرب ؛ لأنهم يقولون : نظرت إليه إذا أرادوا نظر العين ، فإذا أرادوا الانتظار قالوا : نظرته » ؛ قال : [ الطويل ]

4998 - فإنَّكُمَا إنْ تنْظُرَا لي سَاعةً*** مِنَ الدَّهرِ تَنْفعْنِي لدى أمِّ جُندُبِ{[58701]}

لما أرادوا الانتظار قال : تنظراني ، وإذا أرادوا نظر العين قالوا : نظرت إليه .

قال الشاعر : [ الطويل ]

4999 - نَظرْتُ إليْهَا والنُّجُومُ كأنَّها*** مَصابِيحُ رُهبَانٍ تُشَبُّ لِقفَّالِ{[58702]}

وقال آخر : [ الطويل ]

5000 - نَظَرْتُ إليْهَا بالمُحَصَّبِ من مِنى *** . . . {[58703]}

والنّضْرة : طرواة البشرة وجمالها ، وذلك من أثر النعمة ، يقال : نضر وجهه فهو ناضر .

وقال بعضهم : نسلم أنه من نظر العين إلا أن ذلك على حذف مضاف ، أي ثواب ربها ونحوه .

قال مكي : «لو جاء هذا لجاز : نظرت إلى زيد ، بمعنى : نظرت إلى عطاء زيد ، وفي هذا نقض لكلام العرب وتخليط في المعاني » .

ونضَره الله ونضَّره ، مخففاً ومثقلاً ، أي : حسنه ونعمه .

قال صلى الله عليه وسلم : «نَضَّر اللَّهُ امْرأً سَمِعَ مَقالَتِي فوَعَاهَا ، فأدَّاهَا كما سَمِعهَا »{[58704]} يروى بالوجهين .

ويقال للذهب : نُضَار من ذلك ، ويقال له : النضر أيضاً .

ويقال : أخضر ناضر كأسود حالك ، وقدح نضار : يروى بالإتباع والإضافة .

والعامة : «ناضرة » بألف ، وقرأ زيد{[58705]} بن علي : «نضرة » بدونها ، ك «فرح » فهو فرح .

فصل في الرؤية .

روى مسلم في قوله تعالى { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى } [ يونس : 26 ] كان ابن عمر يقول : أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ، ثم تلا : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ }{[58706]} .


[58697]:تقدم.
[58698]:ينظر الكشاف 4/622، والبحر 8/380، والدر المصون 6/430.
[58699]:ينظر الدر المصون 6/431.
[58700]:ينظر الجامع لأحكام القرآن 19/71.
[58701]:تقدم.
[58702]:قائله هو امرؤ القيس ديوانه ص31، والهمع 1/246، والدرر اللوامع 1/170، والقرطبي 19/71.
[58703]:صدر بيت لعمر بن أبي ربيعة وعجزه: ... *** لحيني شمس سترت بيمان ويروى أيضا: ولي نظر لولا التخرج عارم *** ... ينظر ديوان عمر بن أبي ربيعة ص 265، والقرطبي 19/71.
[58704]:تقدم تخريجه.
[58705]:ينظر: البحر المحيط 8/380، والدر المصون 6/431.
[58706]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (19/70) عن ابن عمر.