تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وُجُوهٞ يَوۡمَئِذٖ نَّاضِرَةٌ} (22)

الآيات 22و23و24و25 : وقوله تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة } { إلى ربها ناظرة } { ووجوه يومئذ باسرة } { تظن أن يفعل بها فاقرة } [ يحتمل وجوها :

أحدها ]{[22806]} : ما تنتهي إليه عواقب من التزم طاعة الله ، وآمن بالبعث والحساب ، وبيان ما تنتهي إليه عواقب من تولى عن طاعته .

فقوله : { وجوه يومئذ ناضرة } جائز أن يكون أريد بها الأنفس ، وتكون الوجوه كناية عنها . والذي يدل على أنه أريد بها الأنفس لا أعينها قوله : { ووجوه يومئذ باسرة } { تظن أن يفعل بها فاقرة } والوجوه لا تظن ذلك ، ولا تعلم له . فثبت أن ذكر الوجوه على الكناية لا أن يريد بها أعينها . فهذا التأويل أوفق بما يقتضيه ظاهر اللفظ . وإنما صلح أن تكون الوجوه كناية عن الأنفس ؛ وذلك أن النفس إذا تلذذت بأمر ، ونالت شهوتها ، ظهر سرور ذلك في وجهه ، وإذا تألمت بأمر ، واعتراها الحزن ظهر أثر الحزن في وجهه .

فيكون في قوله : { وجوه يومئذ ناضرة } وصف لهم بما هم عليه من غاية السرور بالكرامات التي أكرموا بها حتى نضرت وجوههم بذلك .

فإذا ثبت أنهم قد نالوا الكرامات ، ووصلوا إلى أنواع الملذات ، لم يبق لقوله : { إلى ربها ناظرة } موضع إلا أن يصرف إلى حقيقة النظر ، فيكون في هذا إثبات القول بالرؤية .

والثاني : أن الملوك الذين من عادتهم الاحتجاب عن الخلق إذا قربوا إنسانا ، لم يحتجبوا عنه ، ويكون تركهم{[22807]} الاحتجاب آثر إلى ذلك الذي أكرم بالتقريب من سائر ما يكرم به .

فجائز أن يكون الله تعالى يكرم أولياءه بالنظر إليه ، ويتفضل عليهم بذلك .

[ والثالث ]{[22808]} : جائز أن يكون قوله : { إلى ربها ناظرة } منصرفا إلى انتظار الثواب كما قاله بعض أهل التأويل ، فتنتظر ما يأتيها من التحف والكرامات حتى وصفوا بنضارة الوجوه ، وجائز أن يكون بعد تلك الكرامات تحف أخر ، لم تأتهم بعد .

ألا ترى إلى قوله : { ووجوه يومئذ باسرة } { تظن أن يفعل بها فاقرة } ؟ والبسور من أدنى أحوال التغير ، وغاية التغير أن تسود الوجوه ، وتكلح . فإذا لم يحل بهؤلاء بعد غاية ما أوعدوا من العذاب ، فجائز أن يكون الذين وعد لهم الكرامات ، بعد لم ينتهوا إلى أقصاها ، ولم ينالوا بعد أرفعها ، وإنما أكرموا ببعضها ، وهم منتظرون لما يأتيهم من بعد .

[ والرابع ]{[22809]} : جائز أن يكون قوله : { إلى ربها ناظرة } أن يجعلها ناظرة{[22810]} في ما أكرمت إلى الله تعالى ، ولا ترى ذلك الفضل مستوجبا من جهتها كما قد يرى المرء في الشاهد بعض ما خول من المال بحيله وسعيه ، والله أعلم .

[ والخامس ]{[22811]} : جائز أن يكون قوله{ إلى ربها ناظرة } أن ليس كل الكرامات في نفسه خاصة وإلى ما ينتهي إليه نظره ، بل يكون قدر{[22812]} ذلك كرامات أخر ، فينصرف قوله : { إلى ربها ناظرة } إلى ذلك .

[ والسادس : جائز أن يكون ]{[22813]} : إلى أمر ربها ناظرة .

وإذا كان قوله : { إلى ربها ناظرة } محتملا أن يصرف إلى حقيقة النظر ، ويصرف إلى الكرامات من الوجوه التي بيّنّاها ، لم يكن لأحد أن يجعل الأمر على الكرامات ، فينفي عنه حقيقة الرؤية للأبد ، لا بل ظاهره يحيل القول بالرؤية ، فيدفع هذا التأويل بتلك الدلائل .

فأما إذا لم يمكنه إقامة الدلائل إلى حالة الرؤية فليس له قطع هذا التأويل ، وصرف التأويل إلى انتظار الكرامات ، فتكون الآية حجة في جواز[ الرؤية ]{[22814]} وإن لم تكن حجة في الوجوب{[22815]} ، والخلاف فيهما واحد .

واحتج من صرف التأويل إلى حقيقة الرؤية أن قوله : { ووجوه يومئذ باسرة } هو مقابل قوله : { وجوه يومئذ ناضرة } وقوله : { تظن أن يفعل بها فاقرة }[ لا ]{[22816]} على فقد الرؤية ، ولكن على العقاب نفسه .

فكذلك قوله : { إلى ربها ناظرة } ليس هو على حقيقة الرؤية ووجودها ، ولكن واقع على الثواب نفسه .

وجواب هذا الفصل من وجهين :

أحدهما : أن أهل العقاب بعد لم ينزل بهم جميع ما أوعدوا في هذه الدنيا من العقاب لما ذكرنا أن نهاية العذاب في تسوّد الوجوه وتكلّحها ، ليس في بسورها . فلذلك استقام أن يكون قوله : { تظن أن يفعل بها فاقرة } على نفس العذاب .

[ والثاني : أن ]{[22817]} أهل الجنة قد وصلوا إلى رفيع الدرجات وعظيم الكرامات ، فوصفوا{[22818]} بنضارة الوجوه ، فاستقام أن يكون قوله : { إلى ربها ناظرة } منصرفا إلى رفيع حقيقة النظر لا إلى غيره من الكرامات .

ولأن الرؤية[ من أعلى الكرامات وأرفعها ، وأهل العقاب لم ينالوا أدنى الكرامات ، فكيف يتوقعون أرفعا ؟ .

أما أهل الجنة فهم قد نالوا من النعم والكرامات ما لا يحصى ، فجائز أن يكرموا بالرؤية ]{[22819]} أيضا .

والأصل أن القول بالرؤية عندنا واجب ، والنظر إليه ثابت كما قال عز وجل : { جاء أمرنا }[ هود : 40و . . . ] في غير خبر النظر إلى الله تعالى ، وقد قال عليه السلام : ( إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته )[ البخاري : 6573 ومسلم 182/299 ] .

وأهل التوحيد لم يختلفوا في صحة الأخبار التي جاءت في إثبات الرؤية . ولكن من نفى الرؤية بالبصر صرف الأخبار إلى العلم ؛ وذلك غير مستقيم لوجهين :

أحدهما : أن البشارة بالرؤية خص بها أهل الجنة . ولو كان المراد من الرؤية العلم لارتفع الاختصاص .

[ والثاني ]{[22820]} : لأن العلم مما يقع به الاشتراك بين الفريقين ، ولأن كلا[ منهما ]{[22821]} يجمع على{[22822]} العلم بالله تعالى في الآخرة العلم الذي لا يعتريه الوسواس ولا الريب .

والعلم الذي لا يعتريه الوسواس والريب هو علم الاستدلال لأن الآيات لا يضطر أهلها إلى الحقيقي . ألا ترى إلى قوله : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى }[ النعام : 111 ] وقوله{[22823]} : { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين }[ الأنعام : 23 ] وقوله{[22824]} : { يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء } ؟ [ المجادلة : 18 ] .

فإذا ثبت ما ذكرنا فقد صاروا مثبتين للرؤية من[ الوجوه التي ]{[22825]} أرادوا نفيها ، وثبتت الرؤية على نفي جميع معاني الشبه عن الله تعالى ، ولا نصف الرؤية بالكيفية ؛ إذ الكيفية تكون لذي صورة ، وهو يرى بلا كيف ؟ والله الموفق .

وقوله تعالى : { تظن أن يفعل بها فاقرة } فجائز أن يكون الظن في موضع العلم ههنا ، وجائز أن يكون على حقيقة الظنّ ؛ وذلك أن الظن يتولد من ظواهر الأشياء ، فالأسباب إذا كثرت ، وازدحمت ، وقع بها العلم ، وإذا قلت ، وخفيت ، لم يقع بها علم . فجائز أن تكون أسباب الشر أحاطت به من كل جانب حتى وقع البأس من النجاة ، وأيقن أنه يفعل به الشر .

وجائز أن يكون الأمر{[22826]} بعد لم يبلغ مبلغ الإياس ، فيتوقع النجاة ، ولا يتيقن أنه يفعل بها فاقرة ، بل يكون منه ظن ، والله أعلم .

والفاقرة : قيل : الشر والمنكر والداهية ، وقيل : الفقير هو كسير الظهر ، والفقر الكسر ، والفقار عظم في الظهر يكسر . فكان عظم الظهر يكسر في الآخرة ، ويسحب في النار على وجهه .

قال : رحمه الله : كأن هذه السورة من أولها إلى/ 617 – ب/ أخرها إلا آيات منها ، وهي{[22827]} قوله تعالى : { بل تحبون العاجلة } { وتذرون الآخرة } { وجوه يومئذ ناضرة } { إلى ربها ناظرة } { ووجوه يومئذ باسرة } { تظن أن يفعل بها فاقرة } [ الآيات : 20 -25 ] .

نزلت في تبيين معاملة أحد من الكفرة على الإشارة{[22828]} إليه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشترك في حكم من يشاركه في معاملته .

فأمر الله نبيه عليه السلام أن يعامله ، ويستقبله بالذي[ يحق ]{[22829]} على الحكماء معاملة السفهاء ، ولم يأمره أن يعامله [ مثل معاملة ]{[22830]} السفهاء . وبين معاملته في هذه السورة ليعلم أمته ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجهد والبلاء في إظهار دين الله تعالى ، فيعلموا قدره ومنزلته ، ويعظموا دين الله تعالى بما نالوه سمحا وسهلا .

وأمره أن يعامل[ من ]{[22831]} معه معاملة من يرجع إلى المنعة والشركة بقوله : { أولى لك فأولى } { ثم أولى لك فأولى }[ الآيتان : 34و35 ] والله أعلم .


[22806]:ساقطة من الأصل و م.
[22807]:في الأصل و م: بركة.
[22808]:في الأصل و م: و.
[22809]:في الأصل و م: و.
[22810]:في الأصل و م: و.
[22811]:في الأصل و م: و.
[22812]:في م: بعد.
[22813]:في الأصل و م: ويحتمل أي.
[22814]:من م، ساقطة من الأصل.
[22815]:في الأصل و م: الوجوه.
[22816]:ساقطة من الأصل و م.
[22817]:في الأصل و م: و.
[22818]:من م، ساقطة من الأصل.
[22819]:من م، ساقطة من الأصل.
[22820]:ساقطة من الأصل و م.
[22821]:ساقطة من الأصل و م.
[22822]:من م، في الأصل: علم.
[22823]:في الأصل و م: وقال.
[22824]:في الأصل و م: وقال.
[22825]:في الأصل و م: الوجه الذي.
[22826]:من نسخة الحرم المكي، في الأصل و م: الأمن.
[22827]:في الأصل و م: وهو.
[22828]:من م، في الأصل: الاستتارة.
[22829]:من م، ساقطة من الأصل.
[22830]:في الأصل و م: مثله من.
[22831]:ساقطة من الأصل و م.