ويدع السياق موسى وقومه ؛ ويسدل عليهم الستار ، ليرفعه من الجانب الآخر على مشهد سادس : مشهد فرعون وآله ، يأخذهم الله بعاقبة الظلم والطغيان ؛ ويحقق وعد موسى لقومه ، ورجاءه في ربه ؛ ويصدق النذير الذي يظلل جو السورة ، وتساق القصة كلها لتصديقه .
ويبدأ المشهد هوناً ؛ ولكن العاصفة تتمشى فيه شيئاً فشيئاً ، فإذا كان قبيل إسدال الستار دمدمت العاصفة ، فدمرت كل شيء ، وعصفت بكل شيء ، وخلا وجه الأرض من الطاغية وذيول الطاغية ، وعلمنا أن بني إسرائيل قد صبروا فلقوا جزاء صبرهم الحسنى ، وأن فرعون وآله فجروا فلقوا جزاء فجورهم الدمار وصدق وعد الله ووعيده ؛ وجرت سنة الله في أخذ المكذبين بالهلاك بعد أخذهم بالضراء والسراء :
( ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون . فإذا جاءتهم الحسنة قالوا : لنا هذه ! وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه . ألا إنما طائرهم عند الله ، ولكن أكثرهم لا يعلمون . وقالوا : مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين . فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم . . آيات مفصلات . . فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين . ولما وقع عليهم الرجز قالوا : يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل . فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون . فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين . وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ؛ وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل . . بما صبروا . . ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ) . .
لقد مضى فرعون وملؤه إذن في جبروتهم ؛ ونفذ فرعون وعيده وتهديده ، فقتل الرجال واستحيا النساء . ولقد مضى موسى وقومه يحتملون العذاب ، ويرجون فرج الله ، ويصبرون على الابتلاء . . وعندئذ . . عندما نمحص الموقف : إيمان يقابله الكفر . وطغيان يقابله الصبر . وقوة أرضية تتحدى الله . . عندئذ أخذت القوة الكبرى تتدخل سافرة بين المتجبرين والصابرين :
( ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون ) . .
إنها إشارة التحذير الأولى . . الجدب ونقص الثمرات . . و( السنين ) تطلق في اللغة على سني الجدب والشدة والقحط . وهي في أرض مصر ، المخصبة المثمرة المعطاء ، تبدو ظاهرة تلفت النظر ، وتهز القلب ، وتثير القلق ، وتدعو إلى اليقظة والتفكر ؛ لولا أن الطاغوت والذين يستخفهم الطاغوت - بفسقهم عن دين الله - فيطيعونه ، لا يريدون أن يتدبروا ولا أن يتفكروا ؛ ولا يريدون أن يروا يد الله في جدب الأرض ونقص الثمرات ؛ ولا يريدون أن يتذكروا سنن الله ووعده ووعيده ؛ ولا يريدون أن يعترفوا بأن هناك علاقة وثيقة بين القيم الإيمانية وواقعيات الحياة العملية . . لأن هذه العلاقة من عالم الغيب . . وهم أغلظ حساً وأجهل قلباً من أن يروا وراء الواقع المحسوس - الذي تراه البهائم وتحسه ولا ترى غيره ولا تحسه - شيئاً ! وإذا رأوا شيئاً من عالم الغيب لم يتفطنوا إلى سنة الله الجارية وفق المشيئة الطليقة ؛ وإنما نسبوه إلى المصادفات العابرة ، التي لا علاقة لها بنواميس الوجود الدائرة .
وكذلك لم ينتبه آل فرعون إلى اللمسة الموقظة الدالة على رحمة الله بعباده - حتى وهم يكفرون ويفجرون . كانت الوثنية وخرافاتها قد أفسدت فطرتهم ؛ وقطعت ما بينهم وبين إدراك النواميس الدقيقة الصحيحة التي تصرف هذا الكون ، كما تصرف حياة الناس ؛ والتي لا يراها ولا يدركها على حقيقتها إلا المؤمنون بالله إيماناً صحيحاً . . الذين يدركون أن هذا الوجود لم يخلق سدى ، ولا يمضي عبثاً ، إنما تحكمه قوانين صارمة صادقة . . وهذه هي " العقلية العلمية " الحقيقية . وهي عقلية لا تنكر " غيب الله " لأنه لا تعارض بين " العلمية " الحقيقية و " الغيبية " ؛ ولا تنكر العلاقة بين القيم الإيمانية وواقعيات الحياة ، لأن وراءها الله الفعال لما يريد ؛ الذي يريد من عباده الإيمان وهو يريد منهم الخلافة في الأرض ، والذي يسن لهم من شريعته ما يتناسق مع القوانين الكونية ليقع التناسق بين حركة قلوبهم وحركتهم في الأرض . .
لم ينتبه آل فرعون إلى العلاقة بين كفرهم وفسقهم عن دين الله ، وبغيهم وظلمهم لعباد الله . . وبين أخذهم بالجدب ونقص الثمرات . . في مصر التي تفيض بالخصب والعطاء ، ولا تنقص غلتها عن إعالة أهلها إلا لفسوق أهلها وأخذهم بالابتلاء لعلهم يتذكرون !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِالسّنِينَ وَنَقْصٍ مّن الثّمَرَاتِ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : ولقد اختبرنا قوم فرعون وأتباعه على ما هم عليه من الضلالة بالسنّين ، يقول : بالجدوب سنة بعد سنة والقحوط . يقال منه : أسْنَتَ القوم : إذا أجدبوا . وَنَقْصٍ مِنَ الثّمراتِ يقول : واختبرناهم مع الجدوب بذهاب ثمارهم وغلاتهم إلا القليل . لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ يقول : عظة لهم وتذكيرا لهم ، لينزجروا عن ضلالتهم ويفزعوا إلى ربهم بالتوبة .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله : وَلَقَدْ أخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بالسّنِينَ قال : سني الجوع .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : بالسّنِينَ الجائحة . وَنَقْصٍ مِنَ الثّمَرَاتِ دون ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني القاسم بن دينار ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن شيبان ، عن أبي إسحاق ، عن رجاء بن حيوة في قوله : وَنَقْصٍ مِنَ الثّمَرَاتِ قال : حيث لا تحمل النخلة إلا تمرة واحدة .
حدثني ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن رجاء بن حيوة ، عن كعب قال : يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا تمرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن رجاء بن حيوة : وَنَقْصٍ مِنَ الثّمَرَاتِ قال : يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا تمرة .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلَقَدْ أخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بالسّنِينَ : أخذهم الله بالسنين بالجوع عاما فعاما . وَنَقْصٍ مِنَ الثّمَرَاتِ فأما السنين فكان ذلك في باديتهم وأهل مواشيهم ، وأما بنقص من الثمرات فكان ذلك في أمصارهم وقراهم .
هذا انتقال إلى ذكر المصائب التي أصاب الله بها فرعون وقومه ، وجعلها آيات لموسى ، ليلجىء فرعون إلى الإذن لبني إسرائيل بالخروج ، وقد وقعت تلك الآيات بعد المعجزة الكبرى التي أظهرها الله لموسى في مجمع السحرة ، ويظهر أن فرعون أغضى عن تحقيق وعيده إبقاء على بني إسرائيل ، لأنهم كانوا يقومون بالأشغال العظيمة لفرعون .
ويُؤخذ من التوراة أن موسى بقي في قومه مدة يعيد محاولة فرعون أن يطلق بني إسرائيل ، وفرعون يَعد ويُخلف ، ولم تضبط التوراة مدة مقام موسى كذلك ، وظاهرها أن المدة لم تطُل ، وليس قوله تعالى : { بالسنين } دليلاً على أنها طالت أعواماً لأن السنين هنا جمع سنة بمعنى الجدْب لا بمعنى الزمن المقدر من الدهر . فالسنة في كلام العرب إذا عرفت باللام يراد بها سنة الجدب ، والقحط ، وهي حينئذٍ علم جنس بالغلبة ، ومن ثَم اشتقوا منها : أسْنَت القومُ ، إذا أصابهم الجدب والقحط ، فالسنين في الآية مراد بها القحوط وجمعها باعتبار كثرة مواقعها أي : أصابهم القحط في جميع الأرضين والبلدان ، فالمعنى : ولقد أخذناهم بالقحوط العامة في كل أرض .
والأخْذُ : هنا مجاز في القهر والغلبة ، كقوله : { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة : 255 ] . ويصح أن يكون هنا مجازاً في الإصابة بالشدائد ، لأن حقيقة الأخذ : تناول الشيء باليد ، وتعددت إطلاقاته ، فأطلق كناية عن الملك .
وأطلق استعارة للقهر والغلبة ، وللإهلاك . وقد تقدمت معانيه متفرقة في السور الماضية .
وجملة { لعلهم يذكرون } في موضع التعليل لجملة { ولقد أخذنا } فلذلك فصلت .
ونقص الثمرات قلة إنتاجها قلة غير معتادة لهم . فتنوين { نقص } للتكثير ولذلك نكر ( نقص ) ولم يضف إلى ( الثمرات ) لئلا تفوت الدلالة على الكثرة .
فالسنون تنتاب المزارع والحقول ، ونقص الثمرات ينتاب الجنات .
و ( لعل ) للرجاء ، أي مرجوا تذكرهم ، لأن المصائب والأضرار المقارنة لتذكير موسى إياهم بربهم ، وتسريح عبيده ، من شأنها أن يكون أصحابها مرجواً منهم أن يتذكروا بأن ذلك عقاب على إعراضهم وعلى عدم تذكرهم ، لأن الله نصب العلامات للاهتداء إلى الخفيات كما قدمناه عند قوله تعالى : { وما أرسلنا في قرية من نبيء } في هذه السورة ( 94 ) ، فشأن أهل الألباب أن يتذكروا ، فإذا لم يتذكروا ، فقد خيبوا ظن من يظن بهم ذلك مثل موسى وهارون ، أما الله تعالى فهو يعلم أنهم لا يتذكرون ولكنه أراد الإملاء لهم ، وقطع عذرهم ، وذلك لا ينافي ما يدل عليه ( لعل ) من الرجاء لأن دلالتها على الراجي والمرجو منه دلالة عرفية ، وقد تقدم الكلام على وقوع ( لعل ) في كلام الله تعالى عند قوله تعالى : { يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } في سورة البقرة ( 21 ) .
وفي هذه الآية تنبيه للأمة للنظر فيما يحيط بها من دلائل غضب الله فإن سلب النعمة للمنعم عليهم تنبيه لهم على استحقاقهم إعراض الله تعالى عنهم .