اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَقَدۡ أَخَذۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ بِٱلسِّنِينَ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَذَّكَّرُونَ} (130)

لما قال موسى لقومه : { عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } بدأ بذكر ما أنزل بفرعون وقومه من المِحَنِ حالاً بعد حال ، إلى أن وصل الأمرُ إلى الهلاكِ تنبيهاً للمكلَّفين على الزَّجْرِ عن الكفر .

" والسِّنينَ " : جمعُ سنة ، وفيها لغتان أشهرهما : إجْرَاؤُهُ مُجرَى المُذكر السَّالم فيُرفع بالواو ويُنْصَبُ ويُجَرُّ بالياء ، وتُحْذَفُ نُونُه للإضافة .

قال النُّحَاةُ : إنَّمَا جرى ذلك المجرى جَبْراً لما فاته من لامه المحذوفةِ ، وسيأتي في لامه كلامٌ ، واللغة الثانيةُ : أن يُجْعَلَ الإعرابُ على النُّون ولكن مع الياء خاصَّةً . نقل هذه اللُّغة أبُو زيد والفراءُ . ثم لك فيها لغتان : إحداهما : ثبوتُ تنوينها . والثانية : عدمهُ .

قال الفرَّاءُ : هي في هذه اللُّغة مصروفة عند بني عامر ، وغير مصروفة عند بني تميم ، ووجه حذف التنوين التَّخفيف ، وحينئذ لا تُحْذَفُ النُّون للإضافة وعلى ذلك جاء قوله : [ الطويل ]

دَعَانِيَ مِنْ نَجْدٍ فإنَّ سِنِينَهُ *** لَعْبِنَ بِنَا شيباً وشَيِّبْنَنَا مُرْدَا{[16717]}

وجاء في الحديث : " اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عليهم سنينَ كَسِنِي يُوسُفَ " {[16718]} " وسِنيناً كسِنِينِ يُوسفُ " باللُّغتين ، وفي لام سَنَةٍ لغتان ، أحدهما : أنَّهَا واو لقولهم : سنوات وسَانَيْتُ ، وسُنَيَّةٌ . الثانية : أنَّها هاء لقولهم : سانَهْتُ وسَنَهَات وسُنَيْهَة ، وليس هذا الحكمُ المذكور أعني : جريانه مجرى جمع المذكر أو إعرابه بالحركات مقتصراً على لفظ " سِنينَ " بل هو جارٍ في كلِّ اسم ثلاثي مؤنث حُذِفَتْ لامُهُ ، وعُوِّضَ منها تَاءُ التَّأنيثِ ، ولم يُجْمَع جمع تكسير نحو : ثُبَةٍ وثُبين ، وقُلة ، وقُلينَ .

فصل

قال شهابُ الدِّين{[16719]} : " وتَحرَّزْتُ بقولي : حُذِفَتْ لامُه مِمَّا حُذِفَتْ فاؤه ، نحو : لِدة وعِدَة .

وبقولي ولم يُجْمع جمع تكسير من ظُبَةٍ وظُبّى ، وقد شَذَّ قولهم : لِدُونَ في المحذوف الفاء ، وظِبُونَ في المكسَّر .

يَرَى الرَّاءُونَ بالشَّفرَاتِ مِنْهَا *** وقُودَ أبِي حُبَاحِبَ والظُّبِينَا{[16720]}

واعلم أنَّ هذا النَّوَع إذَا جَرَى مَجْرَى الزيدينَ فإنْ كان مكسورَ الفاء سَلِمَتْ ، ولم تُغَيَّر نحو : مائة ومئين ، وفئة وفئين ، وإنْ كان مفتوحها كُسِرَتْ نحو : سنين ، وقد نُقِلَ فَتْحُها وهو قليلٌ جدّاً ، وإن كان مضمومَهَا جاز في جمعها الوجهان : أعني السَّلامة ، والكسر نحو : ثُبين وقُلين .

قال أبُو عَلِي : السَّنة على معنيين : أحدهما : يراد بها العام . والثاني : يراد بها الجدْب .

وقد غلبت السَّنَةُ على زمانِ الجدْبِ ، والعام على زمان الخصب حتى صَارَا كالعلم بالغلبة ولذلك أشتقُّوا من لفظ السَّنَةِ فقالوا : أسْنَتَ القَوْمُ .

قال : [ الكامل ]

عَمْرُوا الذي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ *** ورِجَالُ مَكَّةَ مُسْنتُونَ عِجَافُ{[16721]}

وقال حاتم الطائِيُّ : [ الطويل ]

فإنَّا نُهِينُ المَالَ مِنْ غَيْرِ ضِنَّةٍ *** وَلاَ يَشْتَكِينَا في السِّنينَ ضَرِيرُهَا{[16722]}

ويُؤيِّدُ ذلك في سورة يوسف [ الآية 47 ] : " { تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً } .

ثم قال : { سَبْعٌ شِدَادٌ } فهذا في الجدب .

وقال : { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس } .

وقوله : " مِنَ الثَّمَرَاتِ " متعلِّق ب " نَقْصٍ " .

قال قتادةُ : أمَّا السنُونَ فلأهل البوادي ، وأمَّا نقص الثَّمراتِ فلأهل الأمصار .

" لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُّونَ " يتَّعظون ، وذلك لأنَّ الشدة ترقق القلوب ، وترغب فيما عند اللَّهِ .

قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ } .

فصل

قال القاضي : هذه الآية تدلُّ على أنَّهُ تعالى فعل ذلك لإرادة أن يذكَّرُوا وأنْ لا يقيموا على كفرهم ، وأجاب الواحديُّ : " بأنَّهُ قد جاء لفظا الابتلاء ، والاختبار في القرآن لا بمعنى أنَّه تعالى يمتحنهم ، لأنَّ ذلك على اللَّهِ مُحَالٌ ، بل إنَّه تعالى عاملهم معاملة تشبه الابتلاء ، والامتحان ، فكذا ههنا " .

ثم بيَّن أنَّهُم عند نزول تلك المحن عليهم يزيدون في الكُفْرِ ، والمعصيةِ .


[16717]:تقدم.
[16718]:تقدم.
[16719]:ينظر: الدر المصون 3/326-327.
[16720]:تقدم برقم 1203.
[16721]:البيت لمطرود بن كعب الخزاعي ينظر: الاشتقاق ص 13، ومعجم الشعراء ص 200، وأمالي المرتضى 2/268، ولعبد الله بن الزبعري في أمالي المرتضى 2/269، والنوادر 176 ولسان العرب (سنت، هشم) والمقاصد النحوية 4/140، والإنصاف 2/663، خزانة الأدب 11/367، شرح شواهد الإيضاح ص 289، سر صناعة الإعراب 2/535 نوادر أبي زيد ص 167، والمنصف 2/231، المقتضب 2/312، 316، الدر المصون 3/327.
[16722]:ينظر: ديوانه 62، الدر المصون 3/327.