في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٞ وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّـٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارٗا} (82)

73

( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) . .

وفي القرآن شفاء ، وفي القرآن رحمة ، لمن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان ، فأشرقت وتفتحت لتلقي ما في القرآن من روح ، وطمأنينة وأمان .

في القرآن شفاء من الوسوسة والقلق والحيرة . فهو يصل القلب بالله ، فيسكن ويطمئن ويستشعر الحماية والأمن ؛ ويرضى فيستروح الرضى من الله والرضى عن الحياة ؛ والقلق مرض ، والحيرة نصب ، والوسوسة داء . ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .

وفي القرآن شفاء من الهوى والدنس والطمع والحسد ونزعات الشيطان . . وهي من آفات القلب تصيبه بالمرض والضعف والتعب ، وتدفع به إلى التحطم والبلى والانهيار . ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .

وفي القرآن شفاء من الاتجاهات المختلة في الشعور والتفكير . فهو يعصم العقل من الشطط ، ويطلق له الحرية في مجالاته المثمرة ، ويكفه عن إنفاق طاقته فيما لا يجدي ، ويأخذه بمنهج سليم مضبوط ، يجعل نشاطه منتجا ومأمونا . ويعصمه من الشطط والزلل . وكذلك هو في عالم الجسد ينفق طاقاته في اعتدال بلا كبت ولا شطط فيحفظه سليما معافى ويدخر طاقاته للإنتاج المثمر . ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .

وفي القرآن شفاء من العلل الاجتماعية التي تخلخل بناء الجماعات ، وتذهب بسلامتها وأمنها وطمأنينتها . فتعيش الجماعة في ظل نظامه الاجتماعي وعدالته الشاملة في سلامة وأمن وطمأنينة . ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .

( ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) . .

فهم لا ينتفعون بما فيه من شفاء ورحمة . وهم في غيظ وقهر من استعلاء المؤمنين به ، وهم في عنادهم وكبريائهم يشتطون في الظلم والفساد ، وهم في الدنيا مغلوبون من أهل هذا القرآن ، فهم خاسرون . وفي الآخرة معذبون بكفرهم به ولجاجهم في الطغيان ، فهم خاسرون : ( ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٞ وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّـٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارٗا} (82)

وقوله عزّ وجلّ : ونُنَزّلُ مِنَ القُرآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ للْمُؤْمِنِينَ يقول تعالى ذكره : وننزّل عليك يا محمد من القرآن ما هو شفاء يستشفى به من الجهل من الضلالة ، ويبصر به من العمى للمؤمنين ورحمة لهم دون الكافرين به ، لأن المؤمنين يعملون بما فيه من فرائض الله ، ويحلون حلاله ، ويحرّمون حرامه فيدخلهم بذلك الجنة ، ويُنجيهم من عذابه ، فهو لهم رحمة ونعمة من الله ، أنعم بها عليهم وَلا يَزِيدُ الظّالِمِينَ إلاّ خَسارا يقول : ولا يزيد هذا الذي ننزل عليك من القرآن الكافرين به إلا خسارا : يقول : إهلاكا ، لأنهم كلما نزل فيه أمر من الله بشيء أو نهى عن شيء كفروا به ، فلم يأتمروا لأمره ، ولم ينتهوا عما نهاهم عنه ، فزادهم ذلك خسارا إلى ما كانوا فيه قبل ذلك من الخسار ، ورجسا إلى رجسهم قبلُ ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَنُنّزّلُ مِنَ القُرآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ للْمُؤْمِنِينَ إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه وَلا يَزِيدُ الظّالِمِينَ به إلاّ خَسارا أنه لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه ، وإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٞ وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّـٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارٗا} (82)

وقرأ الجمهور «وننزل » بالنون ، وقرأ مجاهد «وينزل » بالياء خفيفة ، ورواها المروزي عن حفص ، وقوله { من القرآن } يصح أن تكون { من } لابتداء الغاية ، ويصح أن تكون لبيان الجنس{[7680]} كأنه قال وننزل ما فيه شفاء { من القرآن } وأنكر بعض المتأولين أن يكون { من } للتبعيض لأنه تحفظ من يلزمه أن بعضه لا شفاء فيه .

قال القاضي أبو محمد : وليس يلزمه هذا بل يصح أن يكون للتبعيض بحسب أن إنزاله إنما هو مبعض ، فكأنه قال { وننزل من القرآن } شيئاً شيئاً ما فيه كله { شفاء } ، واستعارته الشفاء للقرآن هو بحسب إزالته للريب وكشفه غطاء القلب لفهم المعجزات والأمور الدالة على الله تعالى المقررة لشرعه ، ويحتمل أن يراد ب «الشفاء » نفعه من الأمراض بالرقى والتعويذ ونحوه{[7681]} ، وكونه رحمته ظاهر ، وقوله { ولا يزيد الظالمين إلا خساراً } معنى أنه عليهم عمى ، إذ هم معرضون بحالة من لا يفهم ولا يلقن .


[7680]:قال ذلك الأخفش وأبو البقاء أيضا، وقال أبو حيان: "إن [من] التي لبيان الجنس لا تتقدم على المبهم الذي تبينه، وإنما تكون متأخرة عنه".
[7681]:الرقى: جمع رقية، وهي العوذة التي يرقى بها المريض، والتعويذ: الأعتصام بالرقية من الشيطان، والمؤمن لا يتعوذ إلا بالله تعالى.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٞ وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّـٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارٗا} (82)

عطف على جملة { وقل جاء الحق وزهق الباطل } [ الإسراء : 81 ] على ما في تلك الجملة والجمل التي سبقتها من معنى التأييد للنبيء ومن الإغاظة للمشركين ابتداء من قوله : { وإن كادوا ليفتنونك عن الذين أوحينا إليك } [ الإسراء : 73 ] . فإنه بعد أن امتن عليه بأن أيده بالعصمة من الركون إليهم وتبشيره بالنصرة عليهم وبالخلاص من كيدهم ، وبعد أن هددهم بأنهم صائرون قريباً إلى هلاك وأن دينهم صائر إلى الاضمحلال ، أعلن له ولهم في هذه الآية : أن ما منه غيظهم وحنقهم ، وهو القرآن الذي طمعوا أن يسألوا النبي أن يبدله بقرآن ليس فيه ذكر أصنامهم بسوء ، أنه لا يزال متجدداً مستمراً ، فيه شفاء للرسول وأتباعه وخسارة لأعدائه الظالمين ، ولأن القرآن مصدرُ الحق ومَدحَض الباطل أعقب قولُه : { جاء الحق وزهق الباطل } [ الإسراء : 81 ] بقوله : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة } الآية . ولهذا اختير للإخبار عن التنزيل الفعل المضارع المشتق من فَعَّلَ المضاعف للدلالة على التجديد والتكرير والتكثير ، وهو وعد بأنه يستمر هذا التنزيل زمناً طويلاً .

و { ما هو شفاء } مفعول { ننزل } . و { من القرآن } بيان لما في ( ما ) من الإبهام كالتي في قوله تعالى : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } [ الحج : 30 ] ، أي الرجس الذي هو الأوثان . وتقديم البيان لتحصيل غرض الاهتمام بذكر القرآن مع غرض الثناء عليه بطريق الموصولية بقوله : { ما هو شفاء ورحمة } إلخ ، للدلالة على تمكن ذلك الوصف منه بحيث يعرف به . والمعنى : ننزل الشفاء والرحمة وهو القرآن . وليست ( مِن ) للتبعيض ولا للابتداء .

والشفاء حقيقته زوال الداء ، ويستعمل مجازاً في زوال ما هو نقص وضلال وعائق عن النفع من العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة والأخلاق الذميمة تشبيهاً له ببرء السقم ، كقول عنترة :

ولقد شَفَى نفسي وابرأ سُقمها *** قيلُ الفوارس : ويْكَ عنترَ قَدّمِ

والمعنى : أن القرآن كله شفاءً ورحمة للمؤمنين ويزيد خسارة للكافرين ، لأن كل آية من القرآن من أمره ونهيه ومواعظه وقصصه وأمثاله ووعده ووعيده ، كل آية من ذلك مشتملة على هَديٍ وصلاحِ حالٍ للمؤمنين المتبعينَه ، ومشتملة بضد ذلك على ما يزيد غيظ المستمرين على الظلم ، أي الشرك ، فيزدادون بالغيظ كراهية للقرآن فيزدادون بذلك خساراً بزيادة آثامهم واستمرارهم على فاسد أخلاقهم وبُعْدِ ما بينهم وبين الإيمان . وهذا كقوله : { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } [ التوبة : 124 - 125 ] .

وفي الآية دليل على أن في القرآن آيات يشتفى بها من الأدواء والآلام ورد تعيينها في الأخبار الصحيحة فشملتها الآية بطريقة استعمال المشترك في معنييه . وهذا مما بينا تأصيله في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير .

والأخبار الصحيحة في قراءة آيات معينة للاستشفاء من أدواء موصوفة بله الاستعاذة بآيات منه من الضلال كثيرة في « صحيح البخاري » و « جامع الترمذي » وغيرهما ، وفي الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه قال : « بعثنا رسول الله في سرية ثلاثين راكباً فنزلنا على قوم من العرب فسألناهم أن يضيفونا فأبوا فلُدغ سيد الحَيّ فأتونا ، فقالوا : أفيكم أحد يَرقي من العقرب ؟ قال : قلت : نعم ولكن لا أفعل حتى يُعطونا ، فقالوا : فإنا نعطيكم ثلاثين شاة ، قال : فقرأت عليه فاتحة الكتاب سبع مرات فبرأ » الحديث . وفيه : « حتى أتينا رسول الله فأخبرته فقال : وما يُدريكَ أنها رُقْيَة ، قلت : يا رسول الله شيءٌ ألقي في روعي ( أي إلهام ألهمه الله ) ، قال : كلوا وأطعمونا من الغنم » فهذا تقرير من النبي صلى الله عليه وسلم بصحة إلهام أبي سعيد رضي الله عنه .