وراح بعضهم يسأل الرسول [ ص ] عن الروح ما هو ? والمنهج الذي سار عليه القرآن - وهو المنهج الأقوم - أن يجيب الناس عما هم في حاجة إليه ، وما يستطيع إدراكهم البشري بلوغه ومعرفته ؛ فلا يبدد الطاقة العقلية التي وهبها الله فيما لا ينتج ولا يثمر ، وفي غير مجالها الذي تملك وسائله وتحيط به . فلما سألوه عن الروح أمره الله أن يجيبهم بأن الروح من أمر الله ، اختص بعلمه دون سواه :
( ويسألونك عن الروح . قل : الروح من أمر ربي . وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) . .
وليس في هذا حجر على العقل البشري أن يعمل . ولكن فيه توجيها لهذا العقل أن يعمل في حدوده وفي مجاله الذي يدركه . فلا جدوى من الخبط في التيه ، ومن إنفاق الطاقة فيما لا يملك العقل إدراكه لأنه لا يملك وسائل إدراكه . والروح غيب من غيب الله لا يدركه سواه ، وسر من أسراره القدسية أودعه هذا المخلوق البشري وبعض الخلائق التي لا نعلم حقيقتها . وعلم الإنسان محدود بالقياس إلى علم الله المطلق ، وأسرار هذا الوجود أوسع من أن يحيط بها العقل البشري المحدود . والإنسان لا يدبر هذا الكون فطاقاته ليست شاملة ، إنما وهب منها بقدر محيطه وبقدر حاجته ليقوم بالخلافة في الأرض ، ويحقق فيها ما شاء الله أن يحققه ، في حدود علمه القليل .
ولقد أبدع الإنسان في هذه الأرض ما أبدع ؛ ولكنه وقف حسيرا أمام ذلك السر اللطيف - الروح - لا يدري ما هو ، ولا كيف جاء ، ولا كيف يذهب ، ولا أين كان ولا أين يكون ، إلا ما يخبر به العليم الخبير في التنزيل .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي وَمَآ أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ويسألك الكفار بالله من أهل الكتاب عن الروح ما هي ؟ قل لهم : الروح من أمر ربي ، وما أوتيتم أنتم وجميع الناس من العلم إلا قليلاً . وذُكِر أن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح ، فنزلت هذه الاَية بمسألتهم إياه عنها ، كانوا قوما من اليهود . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا أبو هشام ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة ، ومعه عَسِيب يتوكأ عليه ، فمر بقوم من اليهود ، فقال بعضهم : اسألوه عن الروح ، وقال بعضهم : لا تسألوه ، فقام متوكئا على عسيبه ، فقمت خلفه ، فظننت أنه يوحَى إليه ، فقال : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرُوحُ مِنْ أمْرِ رَبّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً فقال بعضهم لبعض : ألم نقل لكم لا تسألوه .
حدثنا يحيى بن إبراهيم المسعوديّ ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : بينا أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَرّة بالمدينة ، إذ مررنا على يهود ، فقال بعضهم : سَلُوه عن الروح ، فقالوا : ما أربكم إلى أن تسمعوا ما تكرهون ، فقاموا إليه ، فسألوه ، فقام فعرفت أنه يوحَى إليه ، فقمت مكاني ، ثم قرأ : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أمْرِ رَبّي وَما أُوتِيُتمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً فقالوا : ألم ننهكم أن تسألوه .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، قال : سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح ، فأنزل الله تعالى : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أمْرِ رَبّي وَما أُوتِيُتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً فقالوا : أتزعم أنا لم نؤتَ من العلم إلا قليلا ، وقد أوتينا التوراة ، وهي الحكمة ، وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوِتَيَ خَيْرا كَثِيرا . قال : فنزلت : وَلَوْ أنّ ما فِي الأرْضِ من شَجَرَةٍ أقْلامٌ والبَحْرُ يَمُدّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ قال : ما أوتيتم على علم ، فنجاكم الله به من النار ، فهو كثير طيب ، وهو في علم الله قليل .
حدثني إسماعيل بن أبي المتوكل ، قال : حدثنا الأشجعيّ أبو عاصم الحِمْصيّ ، قال : حدثنا إسحاق بن عيسى أبو يعقوب ، قال : حدثنا القاسم بن معن ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : إني لمع النبيّ صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة ، إذ أتاه يهوديّ ، قال : يا أبا القاسم ، ما الروح ؟ فسكت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله عزّ وجلّ : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أمْرِ ربّي .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ لقيت اليهود نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فتغَشّوه وسألوه وقالوا : إن كان نبيا علم ، فسيعلم ذلك ، فسألوه عن الروح ، وعن أصحاب الكهف ، وعن ذي القرنين فأنزل الله في كتابه ذلك كله وَيَسْئَلُونَكَ عَن الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أمْرِ رَبّي وَما أُوتِيُتمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً يعني اليهود .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قال : يهود تسأل عنه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قال : يهود تسأله .
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ . . . الاَية : وذلك أن اليهود قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أخبرنا ما الروح ، وكيف تعذّب الروح التي في الجسد وإنما الروح من الله عزّ وجلّ ، ولم يكن نزل عليه فيه شيء ، فلم يُحِر إليهم شيئا ، فأتاه جَبرئيل عليه السلام ، فقال له : قُلِ الرّوحُ مِنْ أمْرِ رَبّي وَما أُوتِيُتمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً فأخبرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك ، قالوا له : من جاءك بهذا ؟ فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم : «جاءنِي بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللّهِ » ، فقالوا : والله ما قاله لك إلا عدوّ لنا ، فأنزل الله تبارك اسمه : قُلْ مَنْ كانَ عَدُوّا لِجْبرِيلَ فإنّهُ نَزّلَهُ عَلى قَلْبِكَ . . . الاَية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، قال : كنت أمشي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فمررنا بأناس من اليهود ، فقالوا : يا أبا القاسم ما الرّوح ؟ فأُسْكِت ، فرأيت أنه يوحَى إليه ، قال : فتنحيت عنه إلى سُباطة ، فنزلت عليه : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ . . . الاَية ، فقالت اليهود : هكذا نجده عندنا .
واختلف أهل التأويل في الروح الذي ذُكِر في هذا الموضع ما هي ؟ فقال بعضهم : هي جبرئيل عليه السلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قال : هو جبرائيل ، قال قتادة : وكان ابن عباس يكتمه .
وقال آخرون : هي مَلك من الملائكة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروحِ قال : الروح : مَلك .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني أبو مروان يزيد بن سمرة صاحب قيسارية ، عمن حدثه عن عليّ بن أبي طالب ، أنه قال في قوله : وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قال : هو ملَك من الملائكة له سبعون ألف وجه ، لكل وجه منها سبعون ألف لسان ، لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله عزّ وجلّ بتلك اللغات كلها ، يخلق الله من كلّ تسبيحة ملَكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة .
وقد بيّنا معنى الرّوح في غير هذا الموضع من كتابنا ، بما أغنى عن إعادته .
وأما قوله : منْ أمْرِ رَبّي فإنه يعني : أنه من الأمر الذي يعلمه الله عزّ وجلّ دونكم ، فلا تعلمونه ويعلم ما هو .
وأما قوله : وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيّ بقوله وَما أُوتِيتُمْ منَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً فقال بعضهم : عنى بذلك : الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح وجميع الناس غيرهم ، ولكن لما ضمّ غير المخاطب إلى المخاطب ، خرج الكلام على المخاطبة ، لأن العرب كذلك تفعل إذا اجتمع في الكلام مخبر عنه غائب ومخاطب ، أخرجو الكلام خطابا للجمع . ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : نزلت بمكة وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار يهود ، فقالوا : يا محمد ألم يبلغنا أنك تقول وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً أفعنيتنا أم قومك ؟ قال : «كُلاّ قَدْ عَنَيْتُ » ، قالوا : فإنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كلّ شيء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هِيَ في عِلْمِ اللّهِ قَلِيلٌ ، وَقَدْ آتاكُمْ ما إنْ عَمِلْتُمْ بِهِ انْتَفَعْتُمْ » ، فَأنْزَل الله وَلَوْ أنّ ما فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ . . . إلى قوله إنّ اللّهَ سَميعٌ بَصِيرٌ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله عزّ وجلّ وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً قال : يا محمد والناس أجمعون .
وقال آخرون : بل عنى بذلك الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح خاصة دون غيرهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً يعني : اليهود .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : خرج الكلام خطابا لمن خوطب به ، والمراد به جميع الخلق ، لأن علم كلّ أحد سوى الله ، وإن كثر في علم الله قليل . وإنما معنى الكلام : وما أوتيتم أيها الناس من العلم إلاّ قليلاً من كثير مما يعلم الله .
الضمير في { يسألونك } قيل هو لليهود وإن الآية مدنية ، وروى عبد الله بن مسعود ، أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمر على حرث بالمدينة ، ويروى على خرب ، وإذا فيه جماعة من اليهود ، فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، فإن أجاب فيه عرفتم أنه ليس بنبي ، وذلك أنه كان عندهم في التوراة أن الروح مما انفرد الله بعلمه ، ولا يطلع عليه أحداً من عباده ، قال ابن مسعود : وقال بعضهم : لا تسألوه لئلا يأتي في بشيء تكرهونه يعني والله أعلم من أنه لا يفسره فتقوى الحجة عليهم في نبوته ، قال فسألوه فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئاً على عسيب فظننت أنه يوحى إليه ، ثم تلا عليهم الآية{[7687]} .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وقيل الآية مكية والضمير لقريش ، وذلك أنهم قالوا : نسأل عن محمد أهل الكتاب من اليهود ، فأرسلوا إليهم إلى المدينة النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط ، فقال اليهود لهما : جرباه بثلاث مسائل ، سلوه عن أهل الكهف ، وعن ذي القرنين ، وعن الروح ، فإن فسر الثلاثة فهو كذاب ، وإن سكت عن الروح فهو نبي ، فسألته قريش عن الروح ، فيروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم «غداً أخبركم به » ، ولم يقل إن شاء الله ، فاستمسك الوحي عليه خمسة عشر يوماً ، معاتبة على وعده لهم دون استثناء ، ثم نزلت هذه الآية{[7688]} .
واختلف الناس في { الروح } المسؤول عن أي روح هو ؟ فقالت فرقة هي الجمهور : وقع السؤال عن الروح التي في الأشخاص الحيوانية ما هي ؟ ف { الروح } اسم جنس على هذا ، وهذا هو الصواب ، وهو المشكل الذي لا تفسير له ، وقال قتادة { الروح } المسؤول عنه جبريل ، قال وكان ابن عباس يكتمه ، وقالت فرقة عيسى ابن مريم ، وقال علي بن أبي طالب : «ملك له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله سبحانه بكل تلك اللغات يخلق من كل تسبيحة ملك يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة » ، ذكره الطبري ، وما أظن هذا القول يصح عن علي ، وقالت فرقة { الروح } القرآن ، وهذه كلها أقوال مفسرة ، والأول أظهرها وأصوبها ، وقوله { من أمر ربي } يحتمل تأويلين : أحدهما : أن يكون «الأمر » اسم جنس للأمور أي للروح من جملة أمور الله التي استأثر بعلمها ، فهي إضافة خلق إلى خالق ، والثاني أن يكون مصدراً من أمر يأمر أي الروح مما أمره أمراً بالكون فكان . وقرأ ابن مسعود والأعمش «وما أوتوا » ، ورواها ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ الجمهور «وما أوتيتم » ، واختلف فيمن خوطب بذلك ، فقالت فرقة : السائلون فقط ، ترجم الطبري بذلك ثم أدخل تحت الترجمة عن قتادة أنهم اليهود ، وقال قوم : المراد اليهود بجملتهم ، وعلى هذا هي قراءة ابن مسعود ، وقالت فرقة : العالم كله ، وهذا هو الصحيح لأن قول الله له { قل الروح } إنما هو أمر بالقول لجميع العالم إذ كذلك هي أقواله كلها وعلى ذلك تمت الآية من مخاطبة الكل ، ويحتمل أيضاً أن تكون مخاطبة من الله للنبي ولجميع الناس ويتصف ما عند جميع الناس من العلم بالقلة بإضافته إلى علم الله عز وجل الذي هو بهذه الأمور التي عندنا من علمها طرف يسير جداً ، كما قال الخضر عليه السلام لموسى عليه السلام ، «ما نقص علمي وعلمك وعلم الخلائق من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر » ، وأراد الخضر علم الله تعالى بهذه الموجودات التي عند البشر من علمها طرف يسير نسبة إلى ما يخفى عليهم نسبة النقطة إلى البحر ، وأما علم الله على الإطلاق فغير متناه ، ويحتمل أن يكون التجوز في قول الخضر كما نقص هذا العصفور ، أي إما لا ينقص علمنا شيئاً من علم الله تعالى على الإطلاق ثم مثل بنقرة العصفور في عدم النقص ، إذ نقصه غير محسوس ، فكأنه معدوم ، فهذا احتمال ، ولكن فيه نظر ، وقد قالت اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كيف لم نؤت من العلم إلا قليلاً ؟ وقد أوتينا التوراة ، وهي الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ، فعارضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم الله ، فغلبوا ، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في بعض الأحاديث «كلاًّ » يعني أن المراد ب { أوتيتم } جميع العالم ، وذلك أن يهود قالت له : نحن عنيت أو قومك ؟ فقال «كلاًّ »{[7689]} ، وفي هذا المعنى نزلت
{ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام }{[7690]} ، حكى ذلك الطبري رحمه الله .
وقْعُ هذه الآية بين الآي التي معها يقتضي نظمُه أن مرجع ضمير { يسألونك } هو مرجع الضمائر المتقدمة ، فالسائلون عن الروح هم قريش . وقد روى الترمذي عن ابن عباس قال : قالت قريش ليهود أعطونا شيئاً نسأل هذا الرجل عنه ، فقالوا : سَلوه عن الروح ، قال : فسألوه عن الروح ، فأنزل الله تعالى : { ويسألونك عن الروح } الآية .
وظاهر هذا أنهم سألوه عن الروح خاصة وأن الآية نزلت بسبب سؤالهم . وحينئذٍ فلا إشكال في إفراد هذا السؤال في هذه الآية على هذه الرواية . وبذلك يكون موقع هذه الآية بين الآيات التي قبلها والتي بعدها مسبباً على نزولها بين نزول تلك الآيات .
واعلم أنه كان بين قريش وبين أهل يثرب صلات كثيرة من صهر وتجارة وصحبة . وكان لكل يثربي صاحب بمكة ينزل عنده إذا قدم الآخر بلده ، كما كان بين أمية بن خلف وسَعْد بن معاذ . وقصتهما مذكورة في حديث غزوة بدر من « صحيح البخاري » .
روى ابن إسحاق أن قريشاً بعثوا النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي مُعيط إلى أحبار اليهود بيثرب يسألانهم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال اليهود لهما : سلوه عن ثلاثة . وذكروا لهم أهل الكهف وذا القرنين وعن الروح كما سيأتي في سورة الكهف ، فسألتْه قريش عنها فأجاب عن أهل الكهف وعن ذي القرنين بما في سورة الكهف ، وأجاب عن الروح بما في هذه السورة .
وهذه الرواية تثير إشكالاً في وجه فصل جواب سؤال الروح عن المسألتين الأخريين بذكر جواب مسألة الروح في سورة الإسراء وهي متقدمة في النزول على سورة الكهف .
ويدفع الإشكال أنه يجوز أن يكون السؤال عن الروح وقع منفرداً أول مرة ثم جمع مع المسألتين الأخريين ثاني مرة .
ويجوز أن تكون آية سؤال الروح مما ألحق بسورة الإسراء كما سنبينه في سورة الكهف . والجمهور على أن الجميع نزل بمكة ، قال الطبري عن عطاء بن يسار : نزل قوله : { وما أوتيتم من العلم قليلاً } بمكة .
وأما ما روي في « صحيح البخاري » عن ابن مسعود أنه قال : « بينما أنا مع النبي في حرث بالمدينة إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح ، فسألوه عن الروح فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يردّ عليهم شيئاً ، فعلمتُ أنه يوحى إليه ، فقمت مقامي ، فلما نزل الوحي قال : { ويسألونك عن الروح } الآية . فالجمع بينه وبين حديث ابن عباس المتقدم : أن اليهود لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم قد ظن النبي أنهم أقرب من قريش إلى فهم معنى الروح فانتظر أن ينزل عليه الوحي بما يجيبهم به أبين مما أجاب به قريشاً ، فكرر الله تعالى إنزال الآية التي نزلت بمكة أو أمره أن يتلوها عليهم ليعلم أنهم وقريشاً سواء في العجز عن إدراك هذه الحقيقة أو أن الجواب لا يتغير .
هذا ، والذي يترجح عندي : أن فيما ذكره أهلُ السير تخليطاً ، وأن قريشاً استقوا من اليهود شيئاً ومن النصارى شيئاً فقد كانت لقريش مخالطة مع نصارى الشام في رحلتهم الصيفية إلى الشام ، لأن قصة أهل الكهف لم تكن من أمور بني إسرائيل وإنما هي من شؤون النصارى ، بناءً على أن أهل الكهف كانوا نصارى كما سيأتي في سورة الكهف ، وكذلك قصة ذي القرنين إن كان المراد به الإسكندر المقدوني يظهر أنها مما عني به النصارى لارتباط فتوحاته بتاريخ بلاد الروم ، فتعين أن اليهود ما لَقنوا قريشاً إلا السؤال عن الروح . وبهذا يتضح السبب في إفراد السؤال عن الروح في هذه السورة وذكر القصتين الأخريين في سورة الكهف . على أنه يجوز أن يتكرر السؤال في مناسبات وذلك شأن الذين معارفهم محدودة فهم يلقونها في كل مجلس .
وسُؤالهم عن الروح معناه أنهم سألوا عن بيان ماهية ما يعبر عنه في اللغة العربية بالروح والتي يعرف كل أحد بوجه الإجمال أنها حالّة فيه .
والروح : يطلق على الموجود الخفي المنتشر في سائر الجسد الإنساني الذي دلت عليه آثاره من الإدراك والتفكير ، وهو الذي يتقوم في الجسد الإنساني حين يكون جنيناً بعد أن يمضي على نزول النطفة في الرحم مائة وعشرون يوماً . وهذا الإطلاق هو الذي في قوله تعالى : { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي } [ ص : 72 ] . وهذا يسمى أيضاً بالنفس كقوله : { يا أيتها النفس المطمئنة } [ الفجر : 27 ] .
ويطلق الروح على الكائن الشريف المكون بأمر إلهي بدون سبب اعتيادي ومنه قوله تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] وقوله : { وروح منه } [ النساء : 171 ] .
ويطلق لفظ ( الروح ) على المَلك الذي ينزل بالوحي على الرسل . وهو جبريل عليه السلام ومنه قوله : { نزل به الروح الأمين على قلبك } [ الشعراء : 193 ] .
واختلف المفسرون في الروح المسؤول عنه المذكور هنا ما هو من هذه الثلاثة . فالجمهور قالوا : المسؤول عنه هو الروح بالمعنى الأول ، قالوا لأنه الأمر المشكل الذي لم تتضح حقيقته ، وأما الروح بالمعنيين الآخرين فيشبه أن يكون السؤال عنه سؤالاً عن معنى مصطلح قرآني . وقد ثبت أن اليهود سألوا عن الروح بالمعنى الأول لأنه هو الوارد في أول كتابهم وهو سفر التكوين من التوراة لقوله في الإصحاح الأول وروح الله يرف على وجه المياه . وليس الروح بالمعنيين الآخرين بوارد في كتبهم .
وعن قتادة والحسن : أنهم سألوا عن جبريل ، والأصح القول الأول . وفي « الروض الأنف » أن النبي صلى الله عليه وسلم أجابهم مرة ، فقال لهم : هو جبريل عليه السلام . وقد أوضحناه في سورة الكهف .
وإنما سألوا عن حقيقة الروح وبيان ماهيتها ، فإنها قد شغلت الفلاسفة وحكماء المتشرعين ، لظهور أن في الجسد الحي شيئاً زائداً على الجسم ، به يكون الإنسان مدركاً وبزواله يصير الجسم مسلوبَ الإرادة والإدراك ، فعلم بالضرورة أن في الجسم شيئاً زائداً على الأعضاء الظاهرة والباطنة غير مشاهد إذ قد ظهر بالتشريح أن جسم الميت لم يفقد شيئاً من الأعضاء الباطنة التي كانت له في حال الحياة .
وإذ قد كانت عقول الناس قاصرة عن فهم حقيقة الروح وكيفية اتصالها بالبدن وكيفية انتزاعها منه وفي مصيرها بعد ذلك الانتزاع ، أجيبوا بأن الروح من أمر الله ، أي أنه كائن عظيم من الكائنات المشرفة عند الله ولكنه مما استأثر الله بعلمه . فلفظ { أمر } يحتمل أن يكون مرادف الشيء . فالمعنى : الروح بعض الأشياء العظيمة التي هي لله ، فإضافة { أمر } إلى اسم الجلالة على معنى لام الاختصاص ، أي أمر اختص بالله اختصاص علممٍ .
و ( من ) للتبعيض ، فيكون هذا الإطلاق كقوله : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] . ويحتمل أن يكون الأمر أمرَ التكوين ، فإما أن يراد نفس المصدر وتكون ( من ) ابتدائية كما في قوله : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } [ النحل : 40 ] ، أي الروح يصدر عن أمر الله بتكوينه ؛ أو يراد بالمصدر معنى المفعول مثل الخلق و ( من ) تبعيضية ، أي الروح بعض مأمورات الله فيكون المرادُ بالروح جبريلَ عليه السلام ، أي الروح من المخلوقات الذين يأمرهم الله بتبليغ الوحي ، وعلى كلا الوجهين لم تكن الآية جواباً عن سؤالهم .
وروى ابن العربي في الأحكام عن ابن وهب عن مالك أنه قال : لم يأته في ذلك جواب ا ه . أي أن قوله : { قل الروح من أمر ربي } ليس جواباً ببيان ما سألوا عنه ولكنه صرف عن استعلامه وإعلام لهم بأن هذا من العلم الذي لم يؤتوه . والاحتمالات كلها مرادة ، وهي كلمة جامعة . وفيها رمز إلى تعريف الروح تعريفاً بالجنس وهو رسم .
وجملة { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } يجوز أن تكون مما أمَر الله رسولَه أن يقوله للسائلين فيكون الخطاب لقريش أو لليهود الذين لقنوهم ، ويجوز أن يكون تذييلاً أو اعتراضاً فيكون الخطاب لكل من يصلح للخطاب ، والمخاطبون متفاوتون في القليل المستثنى من المؤْتَى من العلم . وأن يكون خطاباً للمسلمين .
والمراد بالعلم هنا المعلوم ، أي ما شأنه أن يعلم أو من معلومات الله . ووصفه بالقليل بالنسبة إلى ما من شأنه أن يعلم من الموجودات والحقائق .
وفي « جامع الترمذي » قالوا ( أي اليهود ) : « أوتينا علماً كثيراً التوراةَ ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً ، فأنزلت : { قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي } الآية [ الكهف : 109 ] .
وأوضح من هذا ما رواه الطبري عن عطاء بن يسار قال : نزلت بمكة { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار يهود فقالوا : يا محمد ألم يبلغنا أنك تقول : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } ، أفعنيتنا أم قومَك ؟ قال : كُلاّ قد عنيت .
قالوا : فإنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء . فقال رسول الله : هي في علم الله قليل ، وقد آتاكم ما إن عملتم به انتفعتم . فأنزل الله { ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم } [ لقمان : 27 ] .
هذا ، والذين حاولوا تقريب شرح ماهية الروح من الفلاسفة والمتشرعين بواسطة القول الشارح لم يأتوا إلا برسوم ناقصة مأخوذة فيها الأجناس البعيدة والخواص التقريبية غير المنضبطة وتحكيم الآثار التي بعضها حقيقي وبعضها خيالي ، وكلها متفاوتة في القرب من شرح خاصاته وأماراته بحسب تفاوت تصوراتهم لماهيته المبنيات على تفاوت قوى مداركهم وكلها لا تعدو أن تكون رسوماً خيالية وشعرية معبرة عن آثار الروح في الإنسان .
وإذا قد جرى ذكر الروح في هذه الآية وصُرف السائلون عن مرادهم لغرض صحيح اقتضاه حالهم وحال زمانهم ومكانهم ، فما علينا أن نتعرض لمحاولة تعرف حقيقة الروح بوجه الإجمال فقد تهيأ لأهل العلم من وسائل المعرفة ما تغيرت به الحالة التي اقتضت صرف السائلين في هذه الآية بعض التغير ، وقد تتوفر تغيرات في المستقبل تزيد أهل العلم استعداداً لتجلي بعض ماهية الروح ، فلذلك لا نجاري الذين قالوا : إن حقيقة الروح يجب الإمساك عن بيانها لأن النبي أمسك عنها فلا ينبغي الخوض في شأن الروح بأكثر من كونها موجودة . فقد رأى جمهور العلماء من المتكلمين والفقهاء منهم أبو بكر بن العربي في « العواصم » ، والنووي في « شرح مسلم » : أن هذه الآية لا تصد العلماء عن البحث عن الروح لأنها نزلت لطائفة معينة من اليهود ولم يقصد بها المسلمون . فقال جمهور المتكلمين : إنها من الجواهر المجردة ، وهو غير بعيد عن قول بعضهم : هي من الأجسام اللطيفة والأرواح حادثة عند المتكلمين من المسلمين وهو قول أرسطاليس . وقال قدماء الفلاسفة : هي قديمة . وذلك قريب من مرادهم في القول بقدم العالم . ومعنى كونها حادثة أنها مخلوقة لله تعالى . فقيل : الأرواح مخلوقة قبل خلق الأبدان التي تنفخ فيها ، وهو الأصح الجاري على ظواهر كلام النبي صلى الله عليه وسلم فهي موجودة من الأزل كوجود الملائكة والشياطين ، وقيل : تخلق عند إرادة إيجاد الحياة في البدن الذي توضع فيه واتفقوا على أن الأرواح باقية بعد فناء أجسادها وأنها تحضر يوم الحساب .