في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (29)

17

وعند تقرير مبدأ الحق في خلافة الأرض ، وفي الحكم بين الناس . . وقبل أن تمضي قصة داود إلى نهايتها في السياق . . يرد هذا الحق إلى أصله الكبير . أصله الذي تقوم عليه السماء والأرض وما بينهما . أصله العريق في كيان هذا الكون كله . وهو أشمل من خلافة الأرض ، ومن الحكم بين الناس . وهو أكبر من هذه الأرض . كما أنه أبعد مدى من الحياة الدنيا . إذ يتناول صميم الكون كما يتناول الحياة الآخرة . ومنه وعليه جاءت الرسالة الأخيرة ، وجاء الكتاب المفسر لذلك الحق الشامل الكبير :

وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً . ذلك ظن الذين كفروا . فويل للذين كفروا من النار . أن نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ? أن نجعل المتقين كالفجار ? كتاب أنزلناه إليك مبارك ، ليدبروا آياته ، وليتذكر أولو الألباب . .

وهكذا : في هذه الآيات الثلاث ، تتقرر تلك الحقيقة الضخمة الهائلة الشاملة الدقيقة العميقة . بكل جوانبها وفروعها وحلقاتها . .

إن خلق السماء والأرض وما بينهما لم يكن باطلاً ، ولم يقم على الباطل . إنما كان حقاً وقام على الحق . ومن هذا الحق الكبير تتفرع سائر الحقوق . الحق في خلافة الأرض . والحق في الحكم بين الخلق . والحق في تقويم مشاعر الناس وأعمالهم ؛ فلا يكون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ؛ ولا يكون وزن المتقين كوزن الفجار . والحق الذي جاء به الكتاب المبارك الذي أنزله الله ليتدبروا آياته وليتذكر أصحاب العقول ما ينبغي أن يتذكروه من هذه الحقائق الأصيلة ، التي لا يتصورها الكافرون ، لأن فطرتهم لا تتصل بالحق الأصيل في بناء هذا الكون ، ومن ثم يسوء ظنهم بربهم ولا يدركون من أصالة الحق شيئاً . . ( ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ) . .

إن شريعة الله للناس طرف من ناموسه في خلق الكون . وإن كتابه المنزل بيان للحق الذي يقوم عليه الناموس . وإن العدل الذي يطالب به الخلفاء في الأرض والحكام بين الناس إنما هو طرف من الحق الكلي ، لا يستقيم أمر الناس إلا حين يتناسق مع بقية الأطراف . وإن الانحراف عن شريعة الله والحق في الخلافة والعدل في الحكم إنما هو انحراف عن الناموس الكوني الذي قامت عليه السماء والأرض ؛ وهو أمر عظيم إذن وشر كبير ، واصطدام مع القوى الكونية الهائلة لا بد أن يتحطم في النهاية ويزهق . فما يمكن أن يصمد ظالم باغ منحرف عن سنة الله وناموس الكون وطبيعة الوجود . . ما يمكن أن يصمد بقوته الهزيلة الضئيلة لتلك القوى الساحقة الهائلة ، ولعجلة الكون الجبارة الطاحنة !

وهذا ما ينبغي أن يتدبره المتدبرون وأن يتذكره أولو الألباب . .

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (29)

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (29)

ولما ثبت بما ذكر من أول السورة إلى هنا ما ذكر في هذا الذكر من البراهين التي لا يأباها إلا مدخول الفكر مخالط العقل ، ثبت أنه ذو الذكر والشرف الأعظم فقال تعالى منبهاً على ذلك تنبيهاً على أنه القانون الذي يعرف به الصلاح ليتبع والفساد ليجتنب مخبراً عن مبتدأ تقديره هو : { كتاب } أي له من العظمة ما لا يحاط به ، ووصفه بقوله : { أنزلناه } أي بما من العظمة { إليك } وذلك من عظمته لأنك اعظم الخلق ، ثم أخبر عن مبتدأ آخر مبين لما قبله على طريق الاستئناف فقال : { مبارك } أي دائم الخير كثير النفع ثابت كل ما فيه ثباتاً لا يزول أبداً ولا ينسخه كتاب ولا شيء .

ولما ذكر ما له من العظمة إشارة وعبارة ، ذكر غاية إنزاله المأمور بها فقال : { ليدبروا } بالفوقانية وتخفيف الدال بالخطاب في قراءة أبي جعفر مشرفاً للأمة بضمهم بالخطاب إلى حضرته الشماء صلى الله عليه وسلم ، ولافتاً للقول في قراءة الجماعة بالغيب وتشديد الدال إلى من يحتاج إلى التنبيه على العلل ، لما له من الشواغل الموقعة في الخلل ، وأما هو صلى الله عليه وسلم ففي غاية الإتعام للنظر ، والتدبر بأجلى الفكر ، من حين الإنزال ، لعلمه بعلة الإنزال بحيث إنه من شدة إتعابه لنفسه الشريفة بالتخفيف وضمن له تعالى جمعه وقرآنه { آياته } أي لينظروا في عواقب كل آية وما تؤدي إليه وتوصل إليه من المعاني الباطنة التي أشعر بها طول التأمل في الظاهر ، فمن رضي بالاقتصار على حفظ حروفه كان كمن له لقحة درور لا يحلبها ، ومهرة نتوج لا يستولدها ، وكان جديراً بأن يضيع حدوده فيخسر خسراناً مبيناً .

ولما كان كل أحد مأموراً بأن ينتبه بكل ما يرى ويسمع على ما وراءه ولم يكن في وسع كل أحد الوصول إلى النهاية في ذلك ، قنع منهم بما دونها فأدغمت تاء التفعل في فاء الكلمة إشارة إلى ذلك كما تشير إليه قراءة أبي جعفر ، وربما كانت قراءة الجماعة إشارة إلى الاجتهاد في فهم خفاياه - والله أعلم .

ولما كان السياق للذكر ، وأسند إلى خلاصة الخلق ، وكان استحضار ما كان عند الإنسان وغفل عنه لا يشق لظهوره ، أظهر التاء حثاً على بذل الجهد في إعمال الفكر والمداومة على ذلك فإنه يفضي بعد المقدمات الظنية إلى أمور يقينية قطعية إما محسوسة أولها شاهد في الحس فقال : { وليتذكر } أي بعد التدبر تذكراً عظيماً جلياً - بما أشار إليه الإظهار { أولوا الألباب * } أي كل ما أرشد إليه مما عرفه الله لهم في أنفسهم وفي الآفاق فإنهم يجدون ذلك معلوماً لهم بحس أو غيره في أنفسهم أو غيرها ، لا يخرج شيء مما في القرآن عن النظر إلى شيء معلوم للإنسان لا نزاع له فيه أصلاً ، ولكن الله تعالى يبديه لمن يشاء ويخفيه عمن يشاء{ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم }[ فصلت : 53 ] وأظهره يوم القيامة فإنه مركوز في طبع كل أحد أن الرئيس لا يدع من تحت يده بغير حساب أصلاً .