سورة عبس مكية وآياتها ثنتان وأربعون
هذه السورة قوية المقاطع ، ضخمة الحقائق ، عميقة اللمسات ، فريدة الصور والظلال والإيحاءات ، موحية الإيقاعات الشعورية والموسيقية على السواء .
يتولى المقطع الأول منها علاج حادث معين من حوادث السيرة : كان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] مشغولا بأمر جماعة من كبراء قريش يدعوهم إلى الإسلام حينما جاءه ابن أم مكتوم الرجل الأعمى الفقير - وهو لا يعلم أنه مشغول بأمر القوم - يطلب منه أن يعلمه مما علمه الله ، فكره رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] هذا وعبس وجهه وأعرض عنه ، فنزل القرآن بصدر هذه السورة يعاتب الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] عتابا شديدا ؛ ويقرر حقيقة القيم في حياة الجماعة المسلمة في أسلوب قوي حاسم ، كما يقرر حقيقة هذه الدعوة وطبيعتها : ( عبس وتولى أن جاءه الأعمى . وما يدريك لعله يزكى . أو يذكر فتنفعه الذكرى . أما من استغنى فأنت له تصدى ! وما عليك ألا يزكى ? وأما من جاءك يسعى وهو يخشى ، فأنت عنه تلهى ? ! كلا ! إنها تذكرة ، فمن شاء ذكره ، في صحف مكرمة ، مرفوعة مطهرة ، بأيدي سفرة ، كرام بررة ) . .
ويعالج المقطع الثاني جحود الإنسان وكفره الفاحش لربه ، وهو يذكره بمصدر وجوده ، وأصل نشأته ، وتيسير حياته ، وتولي ربه له في موته ونشره ؛ ثم تقصيره بعد ذلك في أمره :
( قتل الإنسان ما أكفره ! من أي شيء خلقه ? من نطفة خلقه فقدره ، ثم السبيل يسره ، ثم أماته فأقبره ، ثم إذا شاء أنشره ، كلا ! لما يقض ما أمره ) . .
والمقطع الثالث يعالج توجيه القلب البشري إلى أمس الأشياء به وهو طعامه وطعام حيوانه . وما وراء ذلك الطعام من تدبير الله وتقديره له ، كتدبيرة وتقديره في نشأته :
( فلينظر الإنسان إلى طعامه ، أنا صببنا الماء صبا . ثم شققنا الأرض شقا ، فأنبتنا فيها حبا ، وعنبا وقضبا ، وزيتونا ونخلا ، وحدائق غلبا ، وفاكهة وأبا ، متاعا لكم ولأنعامكم ) . .
فأما المقطع الأخير فيتولى عرض( الصاخة )يوم تجيء بهولها ، الذي يتجلى في لفظها ، كما تتجلى آثارها في القلب البشري الذي يذهل عما عداها ؛ وفي الوجوه التي تحدث عما دهاها :
( فإذا جاءت الصاخة . يوم يفر المرء من أخيه ، وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه ، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ، وجوه يومئذ مسفرة ، ضاحكة مستبشرة ، ووجوه يومئذ عليها غبرة ، ترهقها قترة ، أولئك هم الكفرة الفجرة ) . .
إن استعراض مقاطع السورة وآياتها - على هذا النحو السريع - يسكب في الحس إيقاعات شديدة التأثير . فهي من القوة والعمق بحيث تفعل فعلها في القلب بمجرد لمسها له بذاتها .
وسنحاول أن نكشف عن جوانب من الآماد البعيدة التي تشير إليها بعض مقاطعها مما قد لا تدركه النظرة الأولى .
( عبس وتولى . أن جاءه الأعمى ) . . بصيغة الحكاية عن أحد آخر غائب غير المخاطب ! وفي هذا الأسلوب إيحاء بأن الأمر موضوع الحديث من الكراهة عند الله بحيث لا يحب - سبحانه - أن يواجه به نبيه وحبيبه . عطفا عليه ، ورحمة به ، وإكراما له عن المواجهة بهذا الأمر الكريه !
سورة{[1]} عبس{[2]} وتسمى الصاخة .
مقصودها{[3]} شرح " إنما أنت منذر من يخشاها " بأن المراد الأعظم تزكية القابل للخشية{[4]}بالتخويف بالقيامة التي قام الدليل على القدرة عليها بابتداء الخلق من الإنسان ، وبكل من الابتداء والإعادة لطعامه{[5]} والتعجيب ممن أعرض مع قيام الدليل ، والإشارة إلى أن الاستغناء والترف أمارة الإعراض وعدم القابلية والتهيء للكفر والفجور ، وإلى أن المصائب أمارة للطهارة والإقبال واستكانة القلوب وسمو النفوس لشريف الأعمال ، فكل من كان فيها أرسخ كان قلبه أرق وألطف فكان أخشى ، فكان الإقبال عليه أحب وأولى ، واسمها " عبس " هو الدال على ذلك بتأمل آياته وتدبر فواصله وغاياته ، / وكذا الصاخة النافخة بشرها وشررها والباخة { بسم الله } الذي له القدرة البالغة والحكمة الباهرة { الرحمن } الذي عم بنعمة{[6]} الإيجاد الظاهرة ثم بآيات البيان الزاهرة{[7]} { الرحيم* } الذي خص أولياءه بأن أتم نعمته عليهم ، فكانت بهم إلى مرضاته سائرة .
لما قصره سبحانه على إنذاره من يخشى ، وكان قد جاءه صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أم مكتوم الأعمى-{[71587]} رضي الله تعالى عنه ، وكان من السابقين ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حين مجيئه مشتغلاً بدعاء ناس من صناديد قريش إلى الله تعالى ، وقد وجد منهم نوع لين ، فشرع عبد الله رضي الله عنه يسأله وهو لا يعلم ما هو فيه من الشغل ، يسأله-{[71588]} أن يقرئه ويعلمه مما علمه الله-{[71589]} فكره أن يقطع كلامه مع أولئك خوفاً من أن يفوته منهم ما يرجوه من إسلامهم المستتبع لإسلام ناس كثير من أتباعهم ، فكان يعرض عنه ويقبل عليهم ، وتظهر الكراهة في وجهه ، لاطفه سبحانه وتعالى بالعتاب عن التشاغل عن أهل ذلك بالتصدي لمن شأنه أن لا يخشى لافتنانه بزينة الحياة الدنيا وإقباله بكليته على ما يفنى ، فقال مبيناً لشرف الفقر{[71590]} وعلو مرتبته وفضل أهل الدين وإن هانوا ، وخسة أهل الدنيا وإن زانوا ، معظماً له صلى الله عليه وسلم بسياق الغيبة كما قال سعد بن معاذ رضي الله عنه لما حكم في بني قريظة : وعلى من ههنا - يشير إلى ناحية النبي صلى الله عليه وسلم وهو معرض عنها حياء منه صلى الله عليه وسلم وإجلالاً له : { عبس } أي فعل الذي هو أعظم خلقنا ونجله عن أن نواجهه بمثل هذا العتاب بوجهه فعل الكاره للشيء من تقطيب الوجه بما له من الطبع البشري حين يحال بينه وبين مراده ، وآذن بمدحه صلى الله عليه وسلم بأن ذلك خلاف ما طبعه عليه سبحانه من رحمة المساكين ومحبتهم والسرور بقربهم وصحبتهم بقوله-{[71591]} { وتولى * } أي كلف نفسه الإعراض عنه رجاء أن يسلم أولئك الأشراف الذين كان يخاطبهم فيتأيد بهم الإسلام ويسلم بإسلامهم أتباعهم فتعلو كلمة الله
هذه السورة مكية وعدد آياتها ثنتان وأربعون . وهي يكشف عن عظيم مضمونها وروعة مدلولها تسميتها بهذا الإسم ، ليتبين من ذلك أنه ما ينبغي لمسلم أن يعبس في وجه أخيه بسبب فقره أو ذله أو هوان حاله . وإنما يراعي فيه إيمانه وآدميته وصلوحه . وعلى هذا فإن السورة هنا مبدوءة بقصة ابن أم مكتوم الأعمى . هذا الذي عبس النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه لما جاءه يسترشده ويستهديه ، وهو مشغول بالحديث إلى صناديد قريش المشركين رغبة في إسلامهم . لكن الله جل وعلا عاتب نبيه صلى الله عليه وسلم عتابا شديدا لعبوسه في وجه المؤمن المستضعف الأعمى . فما كان بذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينشغل عن إرشاد مؤمن كريم على الله ، فيتهلى عنه بمخاطبة المشركين . وفي ذلك بيان ظاهر ساطع للناس طيلة الزمن أن الإسلام لا يحابي أحدا لعلو جاهه أو سيادته أو غناه . لا يعبأ الإسلام باعتبارات الناس وموازينهم الخاطئة ومن جملتها تكريم الناس بالنظر إلى منازلهم الاجتماعية من المال أو الجاه أو الزعامة والرياسة . لا يعبأ الإسلام بشيء من ذلك البتة . إنما يراعي الإسلام مقادير الناس تبعا لتقواهم { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } ويضاف إلى هذه الحقيقة ظاهرة العلم . لا جرم أن العلم والتقوى معا ، هما ميزان الإسلام الذي تعرف به مقادير الناس واعتباراتهم ، سواء كانوا من العظماء أو الأغنياء أو الفقراء أو الأراذل ، رجالا أو نساء .
{ عبس وتولى 1 أن جاءه الأعمى 2 وما يدريك لعله يزّكّى 3 أو يذّكّر فتنفعه الذكرى 4 أما من استغنى 5 فأنت له تصدى 6 وما عليك ألا يزّكّى 7 وأما من جاءك يسعى 8 وهو يخشى 9 فأنت عنه تلهّى 10 كلا إنها تذكرة 11 فمن شاء ذكره 12 في صحف مكرمة 13 مرفوعة مطهرة 14 بأيدي سفرة 15 كرام بررة } .
وسبب نزول هذه الآيات هو ابن أم مكتوم الأعمى . فقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام وعباس بن عبد المطلب وأبيّا بن خلف وأمية ابن خلف ، ويدعوهم إلى الله تعالى ويرجو إسلامهم . فقام ابن أم مكتوم وقال : يا رسول الله علّمني مما علمك الله . وجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنه مشتغل مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقطعه كلامه . وقال في نفسه : يقول هؤلاء الصناديد إنما أتباعه العميان والسفلة والعبيد . فعبس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم فأنزل الله تعالى هذه الآية . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه . وإذا رآه يقول : " مرحبا بمن عاتبني فيه ربي " {[4757]} .
قوله : { عبس وتولى } عبس ، أي كلح بوجهه أو قبضه تكرّها . من العبوس والتعبس وهو التجهم . ويوم عبوس أي شديد {[4758]} { وتولى } أي أعرض .