{ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } بالله فيقال لهم توبيخا وتقريعا : { أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ } وقد دلتكم على ما فيه صلاحكم ونهتكم عما فيه ضرركم وهي أكبر نعمة وصلت إليكم لو وفقتم لها ، ولكن استكبرتم عنها وأعرضتم وكفرتم بها فجنيتم أكبر جناية وأجرمتم أشد الجرم ، فاليوم تجزون ما كنتم تعملون .
وافتتح بيان حال الذين كفروا بما يقال لهم من التوبيخ والتقرير من قِبَل الله تعالى ، فقوله : { أفلم تكن آياتي } مقول قول محذوف لظهور أن ذلك خطاب صادر من متكلم من جانب الله تعالى فيقدر فيقال لهم على طريقة قوله بعد { وقيل اليوم ننساكم } [ الجاثية : 34 ] . والفاء جواب { أمّا } ، أو فيقال لهم { أفلم تكن آياتي تتلى عليكم } فلما حذف فعل القول قُدم حرف الاستفهام على فاء الجواب اعتداداً باستحقاقه التصديرَ كما يُقدم الاستفهام على حروف العطف . ولم يتعدّ بالمحذوف لأن التقديم لدفع الكراهة اللفظية من تأخر الاستفهام عن الحرف وهي موجُودة بعد حذف ما حُذف .
والاستفهام توبيخ وتقرير . والمراد بالآيات القرآن ، أي فاستكبرتم على الأخذ بها ولم تقتصروا على الاستكبار بل كنتم قوماً مجرمين ، أي لم تفدكم مواعظ القرآن صلاحاً لأنفسهم بما سمعتم منه . وإقحام { قوماً } دون الاقتصار على : وكنتم مجرمين ، للدلالة على أن الإجرام صار خُلقاً لهم وخالط نفوسهم حتى صار من مقومات قوميتهم وقد قدمناه غير مرة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأما الذين كفروا} فيقول لهم الرب تعالى: {أفلم تكن آياتي} يعني القرآن.
{فاستكبرتم} يعني تكبرتم عن الإيمان بالقرآن.
{وكنتم قوما مجرمين} يعني مذنبين مشركين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وأما الذين جحدوا وحدانية الله، وأبوا إفراده في الدنيا بالألوهة، فيقال لهم: ألم تكن آياتي في الدنيا تُتلى عليكم...
وقوله:"فاسْتَكْبَرْتُمْ" يقول: فاستكبرتم عن استماعها والإيمان بها، "وكُنْتُمْ قَوْما مُجْرِمِينَ "يقول: وكنتم قوما تكسبون الآثام والكفر بالله، لا تصدّقون بمعاد، ولا تؤمنون بثواب ولا عقاب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تُتلى عليكم} كأن فيه إضمارا؛ لأن قوله تعالى {وأما الذين كفروا} إنما هو إخبار على المُعاينة، وقوله تعالى: {أفلم تكن آياتي تُتلى عليكم} خطاب ومشافهة، فليس هو من جواب الأول ولا من نوعه فكأنه قال، والله أعلم: {وأما الذين كفروا} في الدنيا فيقال لهم في الآخرة، إذا طلبوا الرجوع والإقالة والتخفيف، ونحو ذلك: {أفلم تكن آياتي تُتلى عليكم} في الدنيا؟
ثم تحتمل آياته آيات وحدانيته وألوهيته أو آيات سلطانه وقدرته على التعذيب أو آيات قدرته على البعث أو آيات رسالته، والله أعلم.
{فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين} لا أحد يقصد قصد الاستكبار على آيات الله، لكنهم لما كذّبوها، وردّوا آياته، ولم يعملوا بها، فكأنهم استكبروا عليها، وهو كما قال: {لا تعبدوا الشيطان} [يس: 60] ولا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان، لكنهم لما عبدوا الأصنام بأمر الشيطان فكأنهم عبدوه.
ويحتمل أن يكونوا استكبروا على رسله، فيكون استكبارهم على رسله كأنهم استكبروا على آياته، والله أعلم.
{وكنتم قوما مجرمين} قيل: المجرم، هو الوثّاب في المعصية، والله أعلم.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(فاستكبرتم) أي: طلبتم الكبرياء والعظمة بترك التوحيد، وكل كافر متكبر، وكل مؤمن متواضع.
علل أن استحقاق العقوبة بأن آياته تليت عليهم فاستكبروا عن قبولها، وهذا يدل على استحقاق العقوبة لا يحصل إلا بعد مجيء الشرع، وذلك يدل على أن الواجبات لا تجب إلا بالشرع، خلافا لما يقوله المعتزلة من أن بعض الواجبات قد يجب بالعقل.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وأما الذين كفروا} أي ستروا ما جلته لهم مرائي عقولهم وفطرهم الأولى من الحق الذي أمر الله به ولو عملوا جميع الصالحات غير الإيمان، فيدخلهم الملك الأعظم في لعنته.
ولما كان هذا الستر سبباً واضحاً في تبكيتهم قال: {أفلم} أي فيقال لهم: ألم يأتكم رسلي، وأخلق لكم عقولاً تدلكم على الصواب من التفكر في الآيات المرئية من المعجزات التي أتوكم بها وأنزل عليكم بواسطتهم آيات مسموعة فلم {تكن آياتي} على ما لها من عظمة الإضافة إليّ وعظمة الإتيان إليكم على ألسنة رسلي الذين هم أشرف خلقي.
ولما كانت هذه الآيات توجب الإيمان لما لها من العظمة بمجرد تلاوتها، بني للمفعول قوله: {تتلى} أي تواصل قراءتها من أيّ تال كان، فكيف إذا كانت بواسطة الرسل، تلاوة مستعلية {عليكم} لا تقدرون على رفع شيء منها بشيء يرضاه منصف.
{فاستكبرتم} أي فتسبب عن تلاوتها التي من شأنها إيراث الخشوع والإخبات والخضوع أن طلبتم الكبر لأنفسكم وأوجدتموه على رسلي وآياتي.
{وكنتم} خلقاً لازماً {قوماً} أي ذوي قيام وقدرة على ما تحاولونه.
{مجرمين} أي عريقين في قطع ما يستحق الوصل، وذلك هو الخسران المبين، والآية من الاحتباك: ذكر الإدخال في الرحمة أولاً دليلاً على الإدخال في اللعنة ثانياً، وذكر التبكيت ثانياً دليلاً على التشريف أولاً، وسره أن ما ذكره أدل على شرف الولي وحقارة العدو...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
افتتح بيان حال الذين كفروا بما يقال لهم من التوبيخ والتقرير من قِبَل الله تعالى، فقوله: {أفلم تكن آياتي} مقول قول محذوف لظهور أن ذلك خطاب صادر من متكلم من جانب الله تعالى فيقدر فيقال لهم على طريقة قوله بعد {وقيل اليوم ننساكم} [الجاثية: 34].
والفاء جواب {أمّا}، أو فيقال لهم {أفلم تكن آياتي تتلى عليكم} فلما حذف فعل القول قُدم حرف الاستفهام على فاء الجواب اعتداداً باستحقاقه التصديرَ كما يُقدم الاستفهام على حروف العطف، ولم يتعدّ بالمحذوف لأن التقديم لدفع الكراهة اللفظية من تأخر الاستفهام عن الحرف، وهي موجُودة بعد حذف ما حُذف والاستفهام توبيخ وتقرير. والمراد بالآيات القرآن، أي فاستكبرتم على الأخذ بها ولم تقتصروا على الاستكبار بل كنتم قوماً مجرمين، أي لم تفدكم مواعظ القرآن صلاحاً لأنفسهم بما سمعتم منه.
وإقحام {قوماً} دون الاقتصار على: وكنتم مجرمين، للدلالة على أن الإجرام صار خُلقاً لهم وخالط نفوسهم حتى صار من مقومات قوميتهم وقد قدمناه غير مرة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ممّا يلفت النظر أنّ الكلام في هذه الآية عن الكفر فقط، وأمّا أعمال السوء التي هي عامل الدخول في عذاب الله وسببه فلم يجر لها ذكر؛ وذلك لأنّ الكفر وحده كاف لأنّ يدخل صاحبه العذاب؛ أو لأنّ التعبير بالمجرمين في ذيل الآية كاف لبيان هذا المعنى.
والنكتة الأُخرى هنا أنّه لم يرد كلام عن عقوبات الجحيم، بل الكلام عن التوبيخ الإلهي لهم وتقريعهم، وهو يعتبر أشد العذاب وأكبره، وتهون معه الجحيم كلّ عذابها.
وآخر ملاحظة هي أنّ أكبر مشاكل هؤلاء القوم هو استكبارهم على آيات الله من جهة وتماديهم في المعصية والإجرام من جهة أُخرى، وهذا يستفاد من جملة (وكنتم قوماً مجرمين).
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.