و { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ْ } في النوم والراحة بسبب الظلمة ، التي تغشى وجه الأرض ، فلو استمر الضياء ، لما قروا ، ولما سكنوا .
{ و ْ } جعل الله { النَّهَارَ مُبْصِرًا ْ } أي : مضيئًا ، يبصر به الخلق ، فيتصرفون في معايشهم ، ومصالح دينهم ودنياهم .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ْ } عن الله ، سمع فهم ، وقبول ، واسترشاد ، لا سمع تعنت وعناد ، فإن في ذلك لآيات ، لقوم يسمعون ، يستدلون بها على أنه وحده المعبود وأنه الإله الحق ، وأن إلهية ما سواه باطلة ، وأنه الرءوف الرحيم العليم الحكيم .
ثم أخبر أنه الذي جعل لعباده الليل ليسكنوا فيه ، أي : يستريحون فيه من نَصَبهم وكلالهم وحَرَكاتهم ، { وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا } أي : مضيئا لمعاشهم وسعيهم ، وأسفارهم ومصالحهم ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي : يسمعون هذه الحجج والأدلة ، فيعتبرون{[14330]} بها ، ويستدلون على عظمة خالقها ، ومقدرها ومسيرها .
جملة معترضة بين جملة : { إن يتبعون إلا الظنّ } [ يونس : 66 ] وجملة : { قالوا اتخذ الله ولداً } [ يونس : 68 ] جاءت مجيء الاستدلال على فساد ظنهم وخَرْصهم بشواهد خلق الليل والنهار المشاهَدِ في كل يوم من العمر مرّتين وهم في غفلة عن دلالته ، وهو خلق نظام النهار والليل .
وكيف كان النهار وقتاً ينتشر فيه النور فيناسب المشاهدة لاحتياج الناس في حركات أعمالهم إلى إحساس البصر الذي به تتبين ذوات الأشياء وأحوالها لتناول ، الصالح منها في العمل ونبذ غير الصالح للعمل .
وكيف كان الليل وقتاً تغشاه الظلمة فكان مناسباً للسكون لاحتياج الناس فيه إلى الراحة من تعب الأعمال التي كدحوا لها في النهار . فكانت الظلمة باعثة الناس على الراحة ومحددة لهم إبانها بحيث يستوي في ذلك الفَطِن والغافل .
ولما قابل السكون في جانب الليل بالإبصار في جانب النهار ، والليل والنهار ضدّان دلّ ذلك على أنّ علة السكون عدم الإبصار ، وأنّ الإبصار يقتضي الحركة فكان في الكلام احتباك .
ووصف النهار بمبصر مجاز عقلي للمبالغة في حصول الإبصار فيه حتَّى جعل النَّهار هو المبصر . والمراد : مبصِراً فيه الناسُ .
ومن لطائف المناسبة أنّ النّور الذي هو كيفية زمن النَّهار ، شيء وجودي ، فكان زمانه حقيقاً بأن يوصف بأوصاف العقلاء ، بخلاف الليل فإن ظلمته عدمية فاقتصر في العبرة به على ذكر الفائدة الحاصلة فيه وهي أن يسكنوا فيه .
وفي قوله : { هو الذي جعل لكم الليل } طريق من طرق القصر وهو تعريف المسند والمسند إليه . وهو هنا قصر حقيقي وليس إضافياً كما توهَّمه بعض الكاتبين إذ جعله قصر تعيين ، وهم معترفون به لا يستطيعون دفع هذا الاستدلال ، فالمقصود الاستدلال على انفراده تعالى بخصائص الإلهية التي منها الخلق والتقدير ، وأن آلهتهم انتفت عنها خصائص الإلهية ، وقد حصل مع الاستدلال امتنان على الناس بجعل الليل والنهار على هذا النظام . وهذا الامتنان مستفاد من قوله : { جعل لكم } ومن تعليل خلق الليل بعلة سكون الناس فيه ، وخلق النهار بعلة إبصار الناس ، وكل الناس يعلمون ما في سكون الليل من نعمة وما في إبصارهم بالنهار من نعمة كذلك ، فإن في العمل بالنهار نعماً جمّة من تحصيل رغبات ، ومشاهدة محبوبات ، وتحصيل أموال وأقوات ، وأن في السكون باللّيل نعماً جمّة من استجمام القوى المنهوكة والإخلاد إلى محادثة الأهل والأولاد ، على أن في اختلاف الأحوال ، ما يدفع عن المرء الملال .
وفي إدماج الاستدلال بالامتنان تعريض بأن الذين جعلوا لله شركاء جمعوا وصمتين هما : وصمة مخالفة الحق ، ووصمة كفران النعمة .
وجملة : { إن في ذلك لآيات } مستأنفة . والآيات : الدلائل الدالة على وحدانية الله تعالى بالإلهية ، فإن النظام الذي نشأ عنه الليل والنهار مشتمل على دقائق كثيرة من العلم والحكمة والقدرة وإتقان الصنع .
فمن تلك الآيات : خلق الشمس ، وخلق الأرض ، وخلق النور في الشمس ، وخلق الظلمة في الأرض ، ووصول شعاع الشمس إلى الأرض ، ودوران الأرض كل يوم بحيث يكون نصف كرتها مواجهاً للشعاع ونصفها الآخر محجوباً عن الشعاع ، وخلق الإنسان ؛ وجَعْلِ نظام مزاجه العصبي متأثراً بالشعاع نشاطاً ، وبالظلمة فُتُوراً ، وخلق حاسة البصر ، وجعلها مقترنة بتأثر الضوء ؛ وجعل نظام العمل مرتبطاً بحاسة البصر ؛ وخلق نظام المزاج الإنساني مشتملاً على قوى قابلة للقوة والضعف ثم مدفوعاً إلى استعمال قواه بقصد وبغير قصد بسبب نشاطه العصبي ، ثم فاقداً بالعمل نصيباً من قواه محتاجاً إلى الاعتياض بقوى تخلفها بالسكون والفتور الذي يلجئه إلى تطلب الراحة . وأيَّة آيات أعظم من هذه ، وأية منة على الإنسان أعظم من إيداع الله فيه دواعي تسوقه إلى صلاحه وصلاح نوعه بداع من نفسه .
ووصف { قوم } بأنهم { يسمعون } إشارة إلى أن تلك الآيات والدلائل تنهض دلالتها للعقول بالتأمل فيها ، وأن توجه التفكير إلى دلائلها غير محتاج إلا إلى التنبيه عليها ولفته إليها ، فلما كان سماع تذكير الله بها هو الأصل الأصيل في استخراج دلالتها وتفريع مدلولاتها على تفاوت الأذهان في الفِطنة وترتيب الأدلة جعل آيات دلالتها حاصلة للذين يسمعون .
ويجوز أن يكون المراد يسمعون تفاصيل تلك الدلائل في تضاعيف سور القرآن ، وعلى كلا الاحتمالين فالوصف بالسمْع تعريض بأن الذين لم يهتدوا بها ولا تفطنوا لدلالتها بمنزلة الصم ، كقوله تعالى : { أفأنت تسمع الصم أو تهدي العميْ } [ الزخرف : 40 ]
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم دل على نفسه بصنعه ليعتبروا فيوحدوه، فقال: {هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه} يعني لتأووا فيه من نصب النهار،
{والنهار مبصرا}، ضياء ونورا لتتغلبوا فيه لمعايشكم،
{إن في ذلك} يعني في هذا {لآيات}، يعني لعلامات {لقوم يسمعون} المواعظ.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن ربكم أيها الناس الذي استوجب عليكم العبادة هُوَ الربّ "الّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللّيْلَ "وفصله من النهار، "لِتَسْكُنُوا فِيهِ" مما كنتم فيه في نهاركم من التعب والنصب، وتهدؤوا فيه من التصرّف والحركة للمعاش والعناء الذي كنتم فيه بالنهار. "والنّهارَ مُبْصِرا" يقول: وجعل النهار مبصرا، فأضاف الإبصار إلى النهار، وإنما يبصر فيه، وليس النهار مما يُبْصِر ولكن لمّا كان مفهوما في كلام العرب معناه، خاطبهم بما في لغتهم وكلامهم... يقول تعالى ذكره: فهذا الذي يفعل ذلك هو ربكم الذي خلقكم وما تعبدون، لا ما لا ينفع ولا يضرّ ولا يفعل شيئا.
وقوله: "إنّ فِي ذلكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ" يقول تعالى ذكره: إن في اختلاف حال الليل والنهار وحال أهلهما فيهما دلالة وحججا على أن الذي له العبادة خالصا بغير شريك، هو الذي خلق اللّيل والنهار وخالف بينهما، بأن جعل هذا للخلق سكنا وهذا لهم معاشا، دون من لا يخلق ولا يفعل شيئا ولا يضرّ ولا ينفع. وقال: "لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ" لأن المراد منه: الذين يسمعون هذه الحجج ويتفكرون فيها فيعتبرون بها ويتعظون، ولم يرد به الذين يسمعون بآذانهم ثم يعرضون عن عبره وعظاته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً) يبصر فيه... فهو في موضع الامتنان وتذكير النعم؛ يستأدي بذلك شكر ما أنعم عليه.
وفيه أن الليل والنهار يجريان على التدبير والتقدير لأنهما لو كانا يجريان على غير تدبير ولا تقدير لكانا لا يجريان على تقدير واحد ولا سنن واحد، ولكان يدخل فيهما الزيادة والنقصان... فدل جريانها على تقدير واحد أنهما يجريان على تدبير آخر فيهما، إذ لو كان على غير تدبير لكانا يجريان على انحراف على الزيادة والنقصان على القلة والكثرة.
وفيه أيضا أن مدبرهما واحد لأنه لو كان مدبرهما عددا لكان إذا غلب أحدهما الآخر دامت غلبته، ولا يصير الغالب مغلوبا والمغلوب غالبا. فإذا صار ذلك ما ذكرنا دل أن مدبرهما واحد لا عدد.
وفيه دلالة البعث بعد الموت لأن كل واحد منهما إذا جاء أتلف صاحبه تلفا حتى لا يبقى له أثر، ولا شيء منه، ثم يكون مثله حتى يختلف الذاهب من الحادث لا الأول من الثاني. فدل أن الذي قدر على إنشاء ليل قد ذهب أثره وأصله قادر على البعث، ومن قدر على إحداث نهار، قد فني، وهلك قادر على إحداث ما ذكرنا من الموت.
وفي قوله: (جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً) وجوه من الدلالة:
أحدها: ما ذكرنا من تذكير النعم؛ يدعوهم به إلى شكره، وينهاهم عن الكفران.
والثاني: فيه تذكير القدرة له حين أنشأ هذا، وأحدثه، وأتلف الآخر. فمن قدر على هذا لا يعجزه شيء.
الثالث: فيه دليل السلطان حين يأخذهم، ويسير عليهم الأشياء شاءوا، أو أبوا. وكذلك النهار يأتيهم حتى يكشف وجوه الأشياء، ويجلي، شاءوا، أو أبوا.
والرابع: فيه دليل التدبير والعلم لما ذكرنا من اتساق دريانهما على سنن واحد ومجرى واحد.
والخامس: فيه دلالة وحدانية منشئهما...
وقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) ولم يقل: يبصرون. فظاهر ما سبق من الذكر يجب أن يقال: لقوم يبصرون لأنه قال: (والنهار مبصرا). لكن يحتمل قوله (يسمعون) أي يعقلون كقوله: (ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كنوا لا يعقلون) [يونس: 42] ويحتمل قوله: (يسمعون) أي يجيبون كقوله [صلى الله عليه وسلم] «سمع الله لمن حمده» [البخاري690] أي: أجاب الله.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ثم نبه على عظيم قدرته ونعمته الشاملة لعباده التي يستحق بها أن يوحّدوه بالعبادة، بأنه جعل لهم الليل مظلماً ليسكنوا فيه مما يقاسون في نهارهم من تعب التردّد في المعاش، والنهار مضيئاً يبصرون فيه مطالب أرزاقهم ومكاسبهم {لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سماع معتبر مدّكر...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم أثبت سبحانه اختصاصه بشيء جامع للعلم والقدرة تأكيداً لاختصاصه بالعزة وتفرده بالوحدانية، وأن من أشرك به خارص لا علم له بوجه لكثرة الدلائل على وحدانيته ووضوحها فقال: {هو} أي وحده {الذي جعل} أي بسبب دوران الأفلاك الذي أتقنه {لكم} أي نعمة منه {الليل} أي مظلماً {لتسكنوا فيه} راحة لكم ودلالة على قدرته سبحانه على الإيجاد والإعدام وأُنساً للمحبين لربهم {والنهار} وأعار السبب وصف المسبب فقال: {مبصراً} أي لتنتشروا فيه، حذف وصف الليل وذكرت علته عكس ما فعل بالنهار ليدل ما ثبت على ما حذف، فالآية من الاحتباك.
ولما كانت هذه الآيات من الظهور بحيث لا يحتاج إلى أكثر من سماعها، قال: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم {لآيات لقوم} أي لهم قوة المحاولة على ما يريدونه {يسمعون} أي لهم سمع صحيح، وفي ذلك أدلة واضحة على أنه مختص بالعزة فلا شريك له، لأن الشريك لا بد وأن يقاسم شريكه شيئاً من الأفعال أو الأحوال أو الملك، وأما عند انتفاء جميع ذلك فانتفاء الشركة أوضح من أن يحتاج فيه إلى دليل، ويجوز أن يكون المعنى: لآيات لقوم يبصرون إبصار اعتبار ويسمعون سماع تأمل وادكار. ولكنه حذف "يبصرون "لدلالة {مبصراً} عليه، ويزيد ذلك وضوحاً وحسناً كون السياق لنفي الشركاء، فهو إشارة إلى أنها لا تسمع ولا تبصر أصلاً فكيف بالاعتبار والافتكار؟ فالذين عبدوهم أكمل حالاً منهم.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
... {لآيات} عجيبةً كثيرةً أو آياتٍ أُخَرَ غيرَ ما ذكر {لقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي هذه الآياتِ المتلوةَ ونظائرَها المنبّهةَ على تلك الآيات التكوينيةِ الآمرةِ بالتأمل فيها سماعَ تدبرٍ واعتبار فيعملون بمقتضاها، وتخصيصُ الآيات بهم مع أنها منصوبة لمصلحة الكل لما أنهم المنتفعون بها.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{هُو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنَّهَارَ مُبْصِراً} هذا استدلال على مضمون ما قبله من نفي وجود شركاء له في الخلق والتدبير، أي هو الذي جعل لكم الوقت قسمين بمقتضى علمه ومشيئته بدون مساعد ولا شفيع، بل بمحض الحكمة البالغة والرحمة الشاملة: أحدهما الليل، جعله مظلما لأجل أن تسكنوا فيه بعد طول الحركة والتقلب في الأرض، وتستريحوا من التعب في طلب الرزق، وثانيهما النهار، جعله مضيئا ذا إبصار لتنتشروا في الأرض، وتقوموا بجميع أعمال العمران والكسب، والشكر للرب، فالمبصر هنا معطي الإبصار سببه حسيا كان أول معنويا، فالأول قوله تعالى: {و َجَعَلْنَا اللَّيْلَ و النَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} [الإسراء: 12] الآية، والثاني قوله في هذه السورة أيضا {وآتينا ثمود الناقة مبصرة} [الإسراء: 59] أي آية مفيدة للبصيرة والحجة على صدق رسولهم، ومثله قوله في سورة النمل {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} [النمل: 13].
وقال قطرب: تقول العرب: أظلم الليل وأبصر النهار وأضاء بمعنى صار ذا ظلمة وذا إبصار وذا ضياء، وقد تكرر التذكير في التنزيل بآيات الله في الليل والنهار من خلقهما وتقديرهما ومنافع الناس فيهما، وفي هذه الآية احتباك، وهو أنه حذف من كل من آيتي الليل والنهار ما أثبت في الأخرى والعكس.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} مثله، أي إن فيما ذكر لدلائل بينات، وآيات أي آيات، على وحدانيته في الذات والصفات، لقوم يسمعون ما يتلى عليهم من التذكير بحكمه تعالى ونعمه فيها سماع فقه وتدبر، ويبصرون ما في الكائنات من السنن الحكيمة إبصار تأمل، ذكر الآيات السمعية المناسبة لليل الذي قدم ذكره، وهي تدل على الآيات البصرية المناسبة للنهار وتذكر بها، وهو أبلغ الإيجاز، وقد جمع بينهما في مقام الإطناب من سورة القصص بقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ومِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ولِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 7173] وأحسن بذلك الإطناب تفسيرا لما هنا من الإيجاز، ولكل منهما موقعه من بلاغة الإعجاز.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ْ} عن الله، سمع فهم، وقبول، واسترشاد، لا سمع تعنت وعناد، فإن في ذلك لآيات، لقوم يسمعون، يستدلون بها على أنه وحده المعبود وأنه الإله الحق، وأن إلهية ما سواه باطلة، وأنه الرؤوف الرحيم العليم الحكيم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم لفتة إلى بعض مجالي القدرة في المشاهد الكونية التي يغفل عنها الناس بالتكرار: (هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً. إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون)
والمالك للحركة وللسكون، الذي يجعل الليل ليسكن فيه الناس، ويجعل النهار مبصراً يقود الناس فيتحركون! ويبصرهم فيبصرون.. ممسك بمقاليد الحركة والسكون، قادر على الناس، قادر على حماية أوليائه من الناس. ورسوله -[ص]- في مقدمة أوليائه. ومن معه من المؤمنين..
(إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون)..
والمنهج القرآني يستخدم المشاهد الكونية كثيراً في معرض الحديث عن قضية الألوهية والعبودية. ذلك أن هذا الكون بوجوده وبمشاهده شاهد ناطق للفطرة لا تملك لمنطقة رداً. كذلك يخاطب الناس بما في علاقتهم بهذا الكون من تناسق. وهم يجدون هذا في حياتهم فعلاً.
فهذا الليل الذي يسكنون فيه، وهذا النهار الذي يبصرون به، هما ظاهرتان كونيتان شديدتا الاتصال بحياتهم. وتناسق هذه الظواهر الكونية مع حياة الناس يحسونه هم -ولو لم يتعمقوا في البحث و "العلم".
ذلك أن فطرتهم الداخلية تفهم عن هذا الكون لغته الخفية!
وهكذا لم يكن البشر في عماية عن لغة الكون حتى جاءتهم "العلوم الحديثة! "لقد كانوا يفهمون هذه اللغة بكينونتهم كلها. ومن ثم خاطبهم بها العليم الخبير منذ تلك القرون. وهي لغة متجددة بتجدد المعرفة، وكلما ارتقى الناس في المعرفة كانوا أقدر على فهمها، متى تفتحت قلوبهم بالإيمان ونظرت بنور اللّه في هذه الآفاق!