يذكر تعالى ما أنعم به على خلقه من هذه الأنعام التي سخرها لهم ، { فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } : قال قتادة : مطيقون{[24863]} أي : جعلهم يقهرونها{[24864]} وهي ذليلة لهم ، لا تمتنع منهم ، بل لو جاء صغير إلى بعير لأناخه ، ولو شاء لأقامه وساقه ، وذاك ذليل منقاد معه . وكذا لو كان القطَارُ مائة بعير أو أكثر ، لسار الجميع بسيرِ صغيرٍ .
هذه مخاطبة في أمر قريش وإعراضهم عن الشرع وعبادتهم الأصنام فنبههم تعالى على الألوهية ، بما لا يحصى من الأدلة كثرة وبياناً ، فنبه بهذه الآية على إنعامه عليهم ببهيمة الأنعام ، وقوله تعالى { أيدينا } عبارة عن القدرة عبر عنها بيد وبيدين وب ( أيد ){[9817]} ، وذلك من حيث كان البشر إنما يقيمون القدرة والبطش باليد ، فعبر لهم عن القدرة بالجهة التي قربت في أفهامهم ، والله تعالى منزه عن الجارحة والتشبيه كله ، وقوله { فهم لها مالكون } تنبيه على أن النعمة في أن هذه الأنعام ليست بعاتية ولا مبتزة{[9818]} ، بل تقتنى وتقرب منافعها .
بعد أن انقضى إبطال معاقد شرك المشركين أخذ الكلام يتطرق غرضَ تذكيرهم بنعم الله تعالى عليهم وكيف قابلوها بكفران النعمة وأعرضوا عن شكر المنعم وعبادته واتخذوا لعبادتهم آلهة زعماً بأنها تنفعهم وتدفع عنهم وأدمج في ذلك التذكير بأن الأنعام مخلوقة بقدرة الله . فالجملة معطوفة عطف الغرض على الغرض .
والاستفهام : إنكار وتعجيب من عدم رؤيتهم شواهد النعمة ، فإن كانت الرؤية قلبية كان الإِنكار جارياً على مقتضى الظاهر ، وإن كانت الرؤية بصرية فالإِنكار على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل مشاهدتهم تلك المذكورات منزلةَ عدم الرؤية لعدم جريهم على مقتضى العلم بتلك المشاهدات الذي ينشأ عن رؤيتها ورؤية أحوالها ، وعلى الاحتمالين فجملة الفعل المنسبك بالمصدر سادَّة مسدّ المفعولين للرؤية القلبية ، أو المصدر المنسبك منها مفعول للرؤية البصرية .
وفي خلال هذا الامتنان إدماج شيء من دلائل الانفراد بالتصرف في الخلق المبطلة لإِشراكهم إياه غيره في العبادة وذلك في قوله : { أنَّا خلقنا } وقوله : { مما عملت أيدينا } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا} من فعلنا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"أوَ لَمْ يَرَ" هؤلاء المشركون بالله الآلهة والأوثانَ "أنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أيْدِينا "يقول: مما خلقنا من الخلق "أنْعاما" وهي المواشي التي خلقها الله لبني آدم، فسخّرها لهم من الإبل والبقر والغنم، "فَهُمْ لَهَا مالِكُونَ" يقول: فهم لها مصرّفون كيف شاءوا بالقهر منهم لها والضبط...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قد ذكرنا في ما تقدم في غير موضع أن قوله: {ألم تر} ونحوه أنه في الظاهر حرف استفهام، لكنه من الله على الإيجاب والإلزام، ثم هو يخرّج على وجهين: أحدهما: على الخبر أن قد رأوا ما خلق من الأنعام وما ذكر.
والثاني: على الأمر بالرؤية والنظر في ما ذكر، أي فليروا.
فإن كان على الخبر أنهم قد رأوا ما خلق الله من الأنعام فهلا تفكّروا، واعتبروا في ما خلق لهم من الأنعام وغيرها أنه لم يخلق لهم ذلك عبثا باطلا ولكن لحكمة. ولو لم يكن بعث على ما يقولون هم كان خلق ذلك عبثا باطلا}.
أو يقول: إن من قدر على خلق ذلك من الأنعام وتسخيرها ما لو تركها كلها، لم يُمتها لامتلأت الأرض، لا يُحتمل أن يعجزه شيء، ولا يقدر على البعث والإحياء بعد الموت.
أو يقول: إن من قدر على تصوير ما ذكر من الأنعام وغيره في الأرحام وتركيب ما ركّب فيها من الأعضاء والجوارح في الظلمات لا يحتمل أن يخفى عليه شيء، أو يعجزه، أو يفعل ذلك على التدبير الذي فعل بلا حكمة.
أو يذكر أنه خلق لهم من الأنعام، وذلّلها لهم، وجعل لهم فيها من المنافع ما ذكرنا بلا شكر يلزمهم، يستأدي على ذلك شكر ما أنعم عليهم. على هذا لو كان على الأمر بالرؤية في ما خلق والنظر، والله أعلم.
{مما عملت أيدينا أنعاما} يحتمل ما عملت أيدي الخلق من الزراعة والغرس وغير ذلك مما يعمله الخلق، نسب ذلك إلى نفسه.
ويحتمل: {مما عملت أيدينا} كقوله: {والسماء بنيناها بأييد وإنا لموسعون} [الذاريات: 47] وقوله: {قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديّ استكبرت أم كنت من العالمين} [ص: 75] أي بقوتي ونحوه، والله أعلم.
{فهم لها مالكون} قال بعضهم: قادرون على الانتفاع بها واستعمالها، يقول الرجل في ما له فيه حقيقة الملك: أنا غير مالك عليه، إذا كان غير قادر على الانتفاع به، ولا مالك على استعماله.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"فهم لها مالكون" معناه لو لم يخلق ذلك لما صح ملكهم لها، وكذلك سائر أملاك العباد بهذه الصفة فهو المنعم على عباده بكل ما ملكوه، وبحسب ما ينتفعون به يكون حاله حال المنعم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ذلك أنهم ينتفعون بركوبها وبأكل لحومها وشحومها، وبشرْبِ ألبانها، وبالحَمْلِ عليها، وقَطَعَ المسافاتِ بها، ثم بأصوافها وأوبارها وشَعْرِها ثم بِعَظْمِ بعضها.. فطَالَبَهم بالشكر عليها، ووصَفَهم بالتقصير في شُكْرِهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه مخاطبة في أمر قريش وإعراضهم عن الشرع وعبادتهم الأصنام فنبههم تعالى على الألوهية، بما لا يحصى من الأدلة كثرة وبياناً، فنبه بهذه الآية على إنعامه عليهم ببهيمة الأنعام.
{أيدينا} عبارة عن القدرة عبر عنها بيد وبيدين وب (أيد)، وذلك من حيث كان البشر إنما يقيمون القدرة والبطش باليد، فعبر لهم عن القدرة بالجهة التي قربت في أفهامهم، والله تعالى منزه عن الجارحة والتشبيه كله.
{فهم لها مالكون} تنبيه على أن النعمة في أن هذه الأنعام ليست بعاتية ولا مبتزة، بل تقتنى وتقرب منافعها.
{فهم لها مالكون} إشارة إلى إتمام الإنعام في خلق الأنعام، فإنه تعالى لو خلقها ولم يملكها الإنسان ما كان ينتفع بها.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{أنعاما} خصها بالذكر لما فيها بدائع الفطرة وكثرة المنافع.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر سبحانه بإعماء أفكارهم، وهدد بطمس أبصارهم، ومسخهم على مقاعدهم وقرارهم، وأعلم بأن كتابه خاتم بإنذارهم، ذكرهم بقدرته وقررهم تثبيتاً لذلك ببدائع صنعته، فقال عاطفاً على ما تقديره: ألم يروا ما قدمناه وأفهمته آية {ومن نعمره} وما بعدها من بدائع صنعنا تلويحاً وتصريحاً الدال على علمنا الشامل وقدرتنا التامة، فمهما صوبنا كلامنا إليه حق القول عليه ولم يمنعه مانع، ولا يتصور له دافع.
{أولم يروا} أي يعلموا علماً هو كالرؤية ما هو أظهر عندهم دلالة من ذلك في أجل أموالهم، ولا يبعد عندي -وإن طال المدى- أن يكون معطوفاً على قوله: {ألم يروا كما أهلكنا قبلهم من القرون} فذاك استعطاف إلى توحيده بالتحذير من النقم، وهذا بالتذكير بالنعم، ونبههم على ما في ذلك من العظمة بسوق الكلام في مظهرها كما فعل في آية إهلاك القرون فقال: {أنا خلقنا لهم} وخصها بنفسه الشريفة محواً للأسباب وإظهاراً لتشريفهم بتشريفها في قوله: {مما عملت}.
ولما كان الإنسان مقيداً بالوهم لا ينفك عنه، ولذلك يرة الأرواح في المنام في صور أجسادها، وكانت يده محل قدرته وموضع اختصاصه، عبر له بما يفهمه فقال: {أيدينا} أي بغير واسطة على علم منا بقواها ومقاديرها ومنافعها وطبائعها وغير ذلك من أمورها.
{أنعاماً} ثم بين كونها لهم بما سبب عن خلقها من قوله: {فهم لها مالكون} قاهرون من غير قدرة لهم على ذلك لولا قدرتنا بنوع التسبب.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
المقطع الثاني في هذا القطاع يعرض قضية الألوهية والوحدانية، في إطار من مشاهدات القوم، ومن نعم البارىء عليهم، وهم لا يشكرون أو لم يروا؟فآية الله هنا مشهودة منظورة بين أيديهم، ليست غائبة ولا بعيدة، ولا غامضة تحتاج إلى تدبرأو تفكير.. إنها هذه الأنعام التي خلقها الله لهم وملكهم إياها.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
بعد أن انقضى إبطال معاقد شرك المشركين، أخذ الكلام يتطرق غرضَ تذكيرهم بنعم الله تعالى عليهم، وكيف قابلوها بكفران النعمة وأعرضوا عن شكر المنعم وعبادته واتخذوا لعبادتهم آلهة زعماً بأنها تنفعهم وتدفع عنهم، وأدمج في ذلك التذكير بأن الأنعام مخلوقة بقدرة الله.
والاستفهام: إنكار وتعجيب من عدم رؤيتهم شواهد النعمة، فإن كانت الرؤية قلبية كان الإِنكار جارياً على مقتضى الظاهر، وإن كانت الرؤية بصرية فالإِنكار على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل مشاهدتهم تلك المذكورات منزلةَ عدم الرؤية لعدم جريهم على مقتضى العلم بتلك المشاهدات الذي ينشأ عن رؤيتها ورؤية أحوالها، وعلى الاحتمالين فجملة الفعل المنسبك بالمصدر سادَّة مسدّ المفعولين للرؤية القلبية، أو المصدر المنسبك منها مفعول للرؤية البصرية.
وفي خلال هذا الامتنان إدماج شيء من دلائل الانفراد بالتصرف في الخلق المبطلة لإِشراكهم إياه غيره في العبادة وذلك في قوله: {أنَّا خلقنا} وقوله: {مما عملت أيدينا}.
وقوله: {لهم} هو محل الامتنان؛ أي لأجلهم، فإن جميع المنافع التي على الأرض خلقها الله لأجل انتفاع الإِنسان بها تكرمة له، كما تقدم في قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} في سورة البقرة} (29).
واستعير عمل الأيدي الذي هو المتعارف في الصنع إلى إيجاد أصول الأجناس بدون سابق منشأ من توالد أو نحوه، فأسند ذلك إلى أيدي الله تعالى لظهور أن تلك الأصول لم تتولد عن سبب كقوله: {والسماء بنيناها بأيد} [الذاريات: 47]، ف (من) في قوله: {مما عَمِلتْ} ابتدائية؛ لأن الأنعام التي لهم متولدة من أصول حتى تنتهي إلى أصولها الأصلية التي خلقها الله كما خلق آدم، فعبر عن ذلك الخلق بأنه بيد الله استعارة تمثيلية لتقريب شأن الخلق الخفيّ البديع مثل قوله: {لما خلقت بيدي} [ص: 75]. وقرينة هذه الاستعارة ما تقرّر من أن ليس كمثله شيء وأنه لا يشبه المخلوقات، فذلك من العقائد القطعية في الإسلام.
فأما الذين رأوا الإِمساك عن تأويل أمثال هذه الاستعارات فسمّوها المتشابه وإنما أرادوا أننا لم نصل إلى حقيقة ما نعبر عنه بالكنه، وأما الذين تأوّلوها بطريقة المجاز فهم معترفون بأن تأويلها تقريب وإساغة لغصص العبارة. فأما الذين أثبتوا وصف الله تعالى بظواهرها فباعثهم فرط الخشية، وكان للسلف في ذلك عذر لا يسع أهل العصُور التي فشَا فيها الإِلحاد والكفر فهم عن إقناع السائلين بمعزل، وقلم التطويل في ذلك مَغْزِل.
والأنعام: الإِبل والبقر والغنم والمعز. وفرع على خلقها للناس أنهم لها مالكون قادرون على استعمالها فيما يشاءُون لأن الملك هو أنواع التصرف.
وتقديم {لَهَا} على {مالكون} الذي هو متعلَّقه لزيادة استحضار الأنعام عند السامعين قبل سماع متعلّقه ليقع كلاهما أمكن وَقع بالتقديم وبالتشويق، وقضى بذلك أيضاً رَعي الفاصلة.
وعدل عن أن يقال: فهُم مالكوها، إلى {فهم لها مالكون} ليتأتّى التنكير فيفيدَ بتعظيم المالكين للأنعام الكنايةَ عن تعظيم الملك، أي بكثرة الانتفاع وهو ما أشار إليه تفصيلاً وإجمالاً قوله تعالى: {وذللناها لهم} إلى قوله: {ولهم فيها منافِعُ ومشارِبُ} وأن إضافة الوصف المُشبه الفعل وإن كانت لا تكسَب المضاف تعريفاً، لكنها لا تنسلخ منها خصائص التنكير مثل التنوين. وجيء بالجملة الاسمية لإِفادة ثبات هذا الملك ودوامه.