ثم إن هذا الحكم خففه اللّه على العباد فقال : { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ْ } فلذلك اقتضت رحمته وحكمته التخفيف ، . { فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ْ } بعونه وتأييده .
وهذه الآيات صورتها صورة الإخبار عن المؤمنين ، بأنهم إذا بلغوا هذا المقدار المعين يغلبون ذلك المقدار المعين في مقابلته من الكفار ، وأن اللّه يمتن عليهم بما جعل فيهم من الشجاعة الإيمانية .
ولكن معناها وحقيقتها الأمر وأن اللّه أمر المؤمنين - في أول الأمر - أن الواحد لا يجوز له أن يفر من العشرة ، والعشرة من المائة ، والمائة من الألف .
ثم إن اللّه خفف ذلك ، فصار لا يجوز فرار المسلمين من مثليهم من الكفار ، فإن زادوا على مثليهم جاز لهم الفرار ، ولكن يرد على هذا أمران : .
أحدهما : أنها بصورة الخبر ، والأصل في الخبر أن يكون على بابه ، وأن المقصود بذلك الامتنان والإخبار بالواقع . .
والثاني : تقييد ذلك العدد أن يكونوا صابرين بأن يكونوا متدربين على الصبر .
ومفهوم هذا أنهم إذا لم يكونوا صابرين ، فإنه يجوز لهم الفرار ، ولو أقل من مثليهم [ إذا غلب على ظنهم الضرر ]{[354]} كما تقتضيه الحكمة الإلهية .
ويجاب عن الأول بأن قوله : { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ ْ } إلى آخرها ، دليل على أن هذا أمر{[355]} لازم وأمر محتم ، ثم إن اللّه خففه إلى ذلك العدد ، . فهذا ظاهر في أنه أمر ، وإن كان في صيغة الخبر . .
وقد يقال : إن في إتيانه بلفظ الخبر ، نكتة بديعة لا توجد فيه إذا كان بلفظ الأمر ، . وهي تقوية قلوب المؤمنين ، والبشارة بأنهم سيغلبون الكافرين . .
ويجاب عن الثاني : أن المقصود بتقييد ذلك بالصابرين ، أنه حث على الصبر ، وأنه ينبغي منكم أن تفعلوا الأسباب الموجبة لذلك[ فإذا فعلوها صارت الأسباب الإيمانية والأسباب المادية مبشرة بحصول ما أخبر اللّه به من النصر لهذا العدد القليل ]{[356]}
ثم جاء التخفيف ، فقال : { الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ } إلى قوله : { يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } قال : خفف الله عنهم من العدة ، ونقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم .
وروى البخاري من حديث ابن المبارك ، نحوه{[13145]}
وقال سعيد بن منصور : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس في هذه الآية قال : كتب عليهم ألا يفر عشرون من مائتين ، ثم خفف الله عنهم ، فقال : { الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا } فلا ينبغي لمائة أن يفروا من مائتين .
وروى البخاري ، عن علي بن عبد الله ، عن سفيان ، به ونحوه{[13146]}
وقال محمد بن إسحاق : حدثني ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت هذه الآية ثقلت على المسلمين ، وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين ، ومائة ألفًا ، فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى فقال : { الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا } الآية ، فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدو لهم{[13147]} لم ينبغ لهم أن يفروا من عدوهم ، وإذا كانوا دون ذلك ، لم يجب عليهم قتالهم ، وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم .
وروى علي بن أبي طلحة والعوفي ، عن ابن عباس ، نحو ذلك . قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، والحسن ، وزيد بن أسلم ، وعطاء الخراساني ، والضحاك نحو ذلك .
وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه ، من حديث المسيب بن شريك ، عن ابن عون ، عن نافع ، عن ابن عمر ، رضي الله عنهما : { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } قال : نزلت فينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
وروى الحاكم في مستدركه ، من حديث أبي عمرو بن العلاء ، عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : { الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا } رفع ، ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه{[13148]}
وروى المفضل عن عاصم «وعُلِمَ » بضم العين وكسر اللام على البناء للمفعول ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي وابن عمرو والحسن والأعرج وابن القعقاع وقتادة وابن أبي إسحاق «ضُعْفاً » بضم الضاد وسكون العين ، وقرأ عاصم وحمزة وشيبة وطلحة «ضَعْفاً » بفتح الضاد وسكون العين ، وكذلك اختلافهم في سورة الروم{[5470]} ، وقرأ عيسى بن عمر «ضُعُفاً » بضم الضاد والعين وذكره النقاش ، وهي مصادر بمعنى واحد ، قال أبو حاتم : من ضم الضاد جاز له ضم العين وهي لغة ، وحكى سيبويه الضَّعْف والضُّعْف لغتان بمنزلة الفَقْر والفُقر ، حكى الزهراوي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال : ضم الضاد لغة أهل الحجاز وفتحها لغة تميم ولا فرق بينهما في المعنى ، وقال الثعالبي في كتاب فقه اللغة له : الضَّعف بفتح الضاد في العقل والرأي ، والضُّعف بضمها في الجسم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ترده القراءة وذكره أبو غالب بن التياني غير منسوب ، وقرأ أبو جعفر ابن القعقاع أيضاً «ضعفاء » بالجمع كظريف وظرفاء ، وحكاها النقاش عن ابن عباس ، وقوله { والله مع الصابرين } لفظ خبر في ضمنه وعد وحض على الصبر ، ويلحظ منه وعيد لمن لم يصبر بأنه يغلب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.