تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ} (51)

{ 51 - 56 } { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ }

هذا أمر منه تعالى لرسله بأكل الطيبات ، التي هي الرزق الطيب الحلال ، وشكر الله ، بالعمل الصالح ، الذي به يصلح القلب والبدن ، والدنيا والآخرة . ويخبرهم أنه بما يعملون عليم ، فكل عمل عملوه ، وكل سعي اكتسبوه ، فإن الله يعلمه ، وسيجازيهم عليه أتم الجزاء وأفضله ، فدل هذا على أن الرسل كلهم ، متفقون على إباحة الطيبات من المآكل ، وتحريم الخبائث منها ، وأنهم متفقون على كل عمل صالح وإن تنوعت بعض أجناس المأمورات ، واختلفت بها الشرائع ، فإنها كلها عمل صالح ، ولكن تتفاوت بتفاوت الأزمنة .

ولهذا ، الأعمال الصالحة ، التي هي صلاح في جميع الأزمنة ، قد اتفقت عليها الأنبياء والشرائع ، كالأمر بتوحيد الله ، وإخلاص الدين له ، ومحبته ، وخوفه ، ورجائه ، والبر ، والصدق ، والوفاء بالعهد ، وصلة الأرحام ، وبر الوالدين ، والإحسان إلى الضعفاء والمساكين واليتامى ، والحنو والإحسان إلى الخلق ، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة ، ولهذا كان أهل العلم ، والكتب السابقة ، والعقل ، حين بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، يستدلون على نبوته بأجناس ما يأمر به ، وينهى عنه ، كما جرى لهرقل وغيره ، فإنه إذا أمر بما أمر به الأنبياء ، الذين من قبله ، ونهى عما نهوا عنه ، دل على أنه من جنسهم ، بخلاف الكذاب ، فلا بد أن يأمر بالشر ، وينهى عن الخير .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ} (51)

يأمر تعالى عباده المرسلين ، عليهم الصلاة والسلام أجمعين ، بالأكل من الحلال ، والقيام بالصالح من الأعمال ، فدل هذا على أن الحلال عَون على العمل الصالح ، فقام الأنبياء ، عليهم السلام ، بهذا أتم القيام . وجمعوا بين كل خير ، قولا وعملا ودلالة ونصحًا ، فجزاهم الله عن العباد خيرًا .

قال الحسن البصري في قوله : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ } قال : أما والله ما أُمِرُوا بأصفركم ولا أحمركم ، ولا حلوكم ولا حامضكم ، ولكن قال : انتهوا إلى الحلال منه .

وقال سعيد بن جبير ، والضحاك : { كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ } يعني : الحلال .

وقال أبو إسحاق السَّبِيعي ، عن أبي مَيْسَرَةَ بن شُرَحْبِيل : كان عيسى ابن مريم يأكل من غزل أمه .

وفي الصحيح : " ما من نبي إلا رعى الغنم " . قالوا : وأنت يا رسول الله ؟ قال : " نعم ، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة " {[20557]} .

وفي الصحيح : أن داود ، عليه السلام ، كان يأكل من كسب يده{[20558]} .

وفي الصحيحين : " إن أحب الصيام إلى الله صيام داود ، وأحب القيام إلى الله قيام داود ، كان{[20559]} ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه وينام سُدسَه ، وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا ، ولا يَفر إذا لاقى " . {[20560]}

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع ، حدثنا أبو بكر بن أبي مريم ، عن ضَمْرَة بن حبيب ، أن أم عبد الله ، أخت{[20561]} شداد بن{[20562]} أوس بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم ، وذلك في أول النهار وشدة الحر ، فرد إليها رسولها : أنَّى كانت لك الشاة ؟ فقالت : اشتريتها من مالي ، فشرب منه ، فلما كان الغد أتته أم عبد الله أخت{[20563]} شداد فقالت : يا رسول الله{[20564]} ، بعثتُ إليك بلبن مَرثيةً{[20565]} لك من طول النهار وشدة الحر ، فرددت إليَّ الرسول فيه ؟ . فقال لها : " بذلك أمرت الرسل ، ألا تأكل إلا طيبا ، ولا تعمل إلا صالحا " {[20566]} .

وقد ثبت في صحيح مسلم ، وجامع الترمذي ، ومسند الإمام أحمد - واللفظ له - من حديث فُضَيْل بن مرزوق ، عن عَدِيّ بن ثابت ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أيها الناس ، إنَّ الله طَيِّبٌ لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } . وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [ البقرة : 172 ] . ثم ذكر الرجل يطيل السفر أَشْعَثَ أَغْبَرَ ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغُذِّي بالحرام ، يمد يديه إلى السماء : يا رب ، يا رب ، فأنَّى يستجاب لذلك " {[20567]} .

وقال الترمذي : حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث فُضيل بن مرزوق .


[20557]:- في ف : "وكان".
[20558]:- صحيح البخاري برقم (2262) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[20559]:- صحيح البخاري برقم (2073) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[20560]:- صحيح البخاري برقم (1131) وصحيح مسلم برقم (1159) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[20561]:- في أ : "بنت".
[20562]:- في ف : "بنت".
[20563]:- في ف ، أ : "بنت".
[20564]:- في ف : "يا رسول الله صلى الله عليك" ، وفي أ : "يا رسول الله صلى الله عليه وسلم".
[20565]:- في ف : "مرئته".
[20566]:- ورواه الحاكم في المستدرك (4/125) من طريق المعافى بن عمران عن أبي بكر بن أبي مريم به نحوه ، وقال : "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وتعقبه الذهبي : "قلت : وابن أبي مريم واه".
[20567]:- صحيح مسلم برقم (1015) وسنن الترمذي برقم (2989) والمسند (6/159).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ} (51)

{ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات } نداء وخطاب لجميع الأنبياء لا على أنهم خوطبوا بذلك دفعه لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة بل على معنى أ كلا منهم خوطب به في زمانه ، فيدخل تحته عيسى دخولا أوليا ويكون ابتداء كلام تنبيها على أن تهيئة أسباب التنعم لم تكن له خاصة ، وأن إباحة الطيبات للأنبياء شرع قديم واحتجاجا على الرهبانية في رفض الطيبات ، أو حكاية لما ذكر لعيسى وأمه عند إيوائهما إلى الربوة ليقتديا بالرسل في تناول ما رزقا . وقيل النداء له ولفظ الجمع للتعظيم والطيبات ما يستلذ به من المباحات . وقيل الحلال الصافي القوام فالحلال ما لا يعصى الله فيه والصافي ما لا ينسى الله فيه والقوام ما يمسك النفس ويحفظ العقل . { واعملوا صالحا } فإنه المقصود منكم والنافع عند ربكم . { إني بما تعملون عليم } فأجازيكم عليه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ} (51)

وقوله { يا أيها الرسل } ، يحتمل أن يكون معناه وقلنا يا أيها الرسل فتكون هذه بعض القصص التي ذكر وكيفما حول المعنى{[8496]} فلم يخاطبوا قط مجتمعين ، وإنما خوطب كل واحد في عصره ، وقالت فرقة : الخطاب بقوله { يا أيها الرسل } لمحمد عليه السلام ، ثم اختلفت فقال بعضها : أقامه مقام الرسل كما قال : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم{[8497]} ، وقيل غير هذا مما لا يثبت مع النظر ، والوجه في هذا أن يكون الخطاب لمحمد وخرج بهذه الصيغة ليفهم وجيزاً أن هذه المقالة قد خوطب بها كل نبي أو هي طريقتهم التي ينبغي لهم الكون عليها وهذا كما تقول لتاجر يا تجار ينبغي أن تجتنبوا الربا فأنت تخاطبه بالمعنى ، وقد اقترن بذلك أَن هذه المقالة تصلح لجميع صنفه ، وقال الطبري : الخطاب بقوله { يا أيها الرسل } لعيسى ، وروي أنه كان يأكل من غزل أمه ، والمشهور عنه أَنه كان يأكل من بقل البرية ، ووجه خطابه لعيسى ما ذكرناه من تقدير لمحمد صلى الله عليه وسلم ، و { الطيبات } هنا الحلال ملذة وغير ذلك{[8498]} ، وفي قوله { إني بما تعلمون عليم } تنبيه ما على التحفظ وضرب من الوعيد بالمباحثة صلى الله على جميع رسله وأنبيائه وإذا كان هذا معهم فما ظن كل الناس بأنفسهم .


[8496]:اختلفت النسخ الأصلية في هذه الجملة، ففي بعضها: "فكيف بأمور من المعنى"، وفي بعضها: "وكيف ما تحول المعنى".
[8497]:من الآية (173) من سورة (آل عمران).
[8498]:كذلك اختلفت الأصول في كتابة هذه الجملة، ففي بعضها "الحلال ملذة وغير ذلك".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ} (51)

يتعيَّن تقدير قول محذوف اكتفاء بالمقول ، وهو استئناف ابتدائي ، أي قلنا : يا أيها الرسل كلوا . والمحكي هنا حكي بالمعنى لأن الخطاب المذكور هنا لم يكن موجهاً للرسل في وقت واحد بضرورة اختلاف عصورهم . فالتقدير : قلنا لكل رسول مِمَّنْ مضَى ذكرُهم كُلْ من الطيبات واعمل صالحاً إني بما تعمل عليم .

وذلك على طريقة التوزيع لمدلول الكلام وهي شائعة في خطاب الجماعات . ومنه : ركب القوم دوابَّهم .

والغرض من هذا بيان كرامة الرسل عند الله ونزاهتهم في أمورهم الجسمانيَّة والروحانيَّة ، فالأكل من الطيبات نزاهة جسميَّة والعمل الصالح نزاهة نفسانيَّة .

والمناسبة لهذا الاستئناف هي قوله : { وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين } [ المؤمنون : 50 ] وليحصل من ذلك الرد على اعتقاد الأقوام المعلّلين تكذيبهم رسلهم بعلة أنهم يأكلون الطعام كما قال تعالى في الآية السابقة { ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون } [ المؤمنون : 33 ] ، وقال : { وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } [ الفرقان : 7 ] ، وليبطل بذلك ما ابتدعه النصارى من الرهبانيَّة . وهذه فوائد من الاستدلال والتعليم كان لها في هذا المكان الوقع العظيم .

والأمر في قوله : { كلوا } للإباحة ، وإن كان الأكل أمراً جبلِّياً للبشر إلا أن المراد به هنا لازمه وهو إعلام المكذبين بأن الأكل لا ينافي الرسالة وأن الذي أرسل الرسل أباح لهم الأكل .

وتعليق { من الطيبات } بكسب الإباحة المستفادة من الأمر شرط أن يكون المباح من الطيبات ، أي أن يكون المأكول طيّباً . ويزيد في الرد على المكذبين بأن الرسل إنما يجتنبون الخبائث ولا يجتنبون ما أحل الله لهم من الطيبات . والطيبات : ما ليس بحرام ولا مكروه .

وعطف العمل الصالح على الأمر بأكل الطيبات إيماء إلى أن همة الرسل إنما تنصرف إلى الأعمال الصالحة ، وهذا كقوله تعالى { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناحٌ فيما طَعمُوا إذا ما اتَّقَوْا وآمنوا وعملوا الصّالحات } [ المائدة : 93 ] المراد به ما تناولوه من الخمر قبل تحريمها .

وقوله : { إني بما تعملون عليم } تحريض على الاستزادة من الأعمال الصالحة لأن ذلك يتضمن الوعد بالجزاء عنها وأنه لا يضيع منه شيء ، فالخبر مستعمل في التحريض .