يقول تعالى : { ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } أي : إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، لئلا يعاقب أحد بظلمه ، وهو لم تبلغه دعوة ، ولكن أعذرنا إلى الأمم ، وما عذبنا أحدًا إلا بعد إرسال الرسل إليهم ، كما قال تعالى : { وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] ، وقال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [ الإسراء : 15 ] ، وقال تعالى : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا } [ الملك : 8 ، 9 ] والآيات في هذا كثيرة .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : ويحتمل قوله تعالى : { بِظُلْمٍ } وجهين :
أحدهما : ذلك من أجل أن ربك مهلك القرى بظلم أهلها بالشرك ونحوه ، وهم غافلون ، يقول : لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم مَنْ{[11233]} ينبههم على حجج الله عليهم ، وينذرهم عذاب الله يوم معادهم ، ولم يكن بالذي يؤاخذهم غفلة فيقولوا : { مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ } [ المائدة : 19 ] .
والوجه الثاني : أن { ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ } يقول : لم يكن [ ربك ]{[11234]} ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل والآيات والعبر ، فيظلمهم بذلك ، والله غير ظلام{[11235]} لعبيده .
ثم شرع يرجح الوجه الأول ، ولا شك أنه أقوى ، والله أعلم{[11236]} .
{ ذلك } إشارة إلى إرسال الرسل ، وهو خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك . { أن لم يكن ربكم مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون } تعليل للحكم وأن مصدرية أو مخففة من الثقيلة أي : الأمر لانتفاء كون ربك أو لأن الشأن لم يكن ربك مهلك أهل القرى بسبب ظلم فعلوه ، أو ملتبسين يظلم أو ظالما وهم غافلون لم ينبهوا برسول أو بدل من ذلك .
وقوله تعالى : { ذلك أن لم يكن } الآية ، { ذلك } يصح أن يكون في موضع رفع على الابتداء والخبر محذوف تقديره ذلك الأمر ، ويصح أن يكون في موضع نصب بتقدير فعلنا و { أن } مفعول من أجله و { القرى } المدن ، والمراد أهل القرى ، و { بظلم } يتوجه فيه معنيان ، أحدهما أن الله عز وجل لم يكن ليهلك المدن دون نذارة{[5100]} ، فيكون ظلماً لهم إذا لم ينذرهم ، والله ليس بظلام للعبيد ، والآخر أن الله عز وجل لم يهلك أهل القرى بظلم إذ ظلموا دون أن ينذرهم{[5101]} ، وهذا هو البين القويّ ، وذكر الطبري رحمه الله التأويلين .
استئناف ابتدائي ، تهديد وموعظة ، وعبرة بتفريط أهل الضّلالة في فائدة دعوة الرّسل ، وتنبيه لجدوى إرسال الرّسل إلى الأمم ليعيد المشركون نظراً في أمرهم ، ما داموا في هذه الدار ، قبل يوم الحشر ، ويعلموا أنّ عاقبة الإعراض عن دعوة الرّسول صلى الله عليه وسلم خسرى ، فيتداركوا أمرهم خشية الفوات ، وإنذار باقتراب نزول العذاب بهم ، وإيقاظٌ للمشركين بأنّ حالهم كحال المتحدّث عنهم إذا ماتوا على شركهم .
والإشارة بقوله : { ذلك } إلى مذكور في الكلام السّابق ، وهو أقرب مذكور ، كما هو شأن الإشارة إلى غير مَحسوس ، فالمشار إليه هو المذكور قبلُ ، أو هو إتيان الرّسل الّذي جَرى الكلام عليه في حكاية تقرير المشركين في يوم الحشر عن إتيان رسلهم إليهم ، وهو المصدر المأخوذ من قوله : { ألَم يَأتكم رسلٌ منكم } [ الأنعام : 130 ] فإنَّه لمّا حكى ذلك القول للنّاس السّامعين ، صار ذلك القول المحكي كالحاضر ، فصحّ أن يشار إلى شيء يؤخذ منه . واسم الإشارة إمّا مبتدأ أو خبر لمحذوف تقديره : ذلك الأمر أو الأمر ذلك ، كما يدلّ عليه ضمير الشأن المقدّر بعد ( أنْ ) .
و { أن } مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف ، كما هو استعمالها عند التّخفيف ، وذلك لأنّ هذا الخبر له شأن يجدر أن يُعرَف والجملة خبر { أن } ، وحذفت لام التّعليل الداخلة على { أن } : لأنّ حذف جارّ { أن } كثير شائع ، والتّقدير : ذلك الأمر ، أو الأمر ذلك ، لأنَّه أي الشأن لم يكن ربّك مُهلك القرى .
وجملة : { لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون } هو شأن عظيم من شؤون الله تعالى ، وهو شأن عَدله ورحمته ، ورضاه لعباده الخير والصّلاح ، وكراهيته سوء أعمالهم ، وإظهاره أثر ربوبيته إياهم بهدايتهم إلى سبل الخير ، وعدم مباغتتهم بالهلاك قبل التقدّم إليهم بالإنذار والتنبيه .
وفي الكلام إيجاز إذ عُلم منه : أنّ الله يهلك القرى المسترسِلَ أهلُها على الشّرك إذا أعرضوا عن دعوة الرّسل ، وأنّه لا يهلكهم إلاّ بعد أن يرسل إليهم رسلاً منذرين ، وأنّه أراد حمل تَبعَة هلاكهم عليهم ، حتى لا يبقى في نفوسهم أن يقولوا : لولا رحمنا ربّنا فانبأنا وأعذر إلينا ، كما قال تعالى : { ولو أنَّا أهلكناهم بعذاب من قبله } ( أي قبل محمّد صلى الله عليه وسلم أو قبل القرآن ) { لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى } [ طه : 134 ] فاقتصر من هذا المعنى على معنى أنّ علّة الإرسال هي عدم إهلاك القرى على غفلة ، فدلّ على المعنى المحذوف .
والإهلاك : إعدام ذات الموجود وإماتةُ الحيّ . قال تعالى : { ليَهْلِك من هلك عن بيّنة ويَحْيَى من حَيِيَ عن بيّنة } [ الأنفال : 42 ] فإهلاك القرى إبادة أهلها وتخريبها ، وإحياؤها إعادةُ عُمرانها بالسكّان والبناء ، قال تعالى : { أنَّى يحيي هذه ( أي القريةَ ) الله بعد موتها } [ البقرة : 259 ] . وإهلاك النّاس : إبادتهم ، وإحياؤهم إبقاؤهم ، فمعنى إهلاك القرى هنا شامل لإبادة سكّانها . لأنّ الإهلاك تعلّق بذات القرى ، فلا حاجة إلى التمجّز في إطلاق القرى على أهل القرى كما في : و { اسأل القرية } [ يوسف : 82 ] لصحّة الحقيقة هنا ، ولأنَّه يمنع منه قوله : { وأهلُها غافلون } . ألا ترى إلى قوله تعالى : { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمّرناها تدميراً } [ الإسراء : 16 ] فجعل إهلاكها تدميرها ، وإلى قوله : { ولقد أتَوْا على القرية التي أُمطرت مَطَر السَّوْء أفلم يكونوا يرونها } [ الفرقان : 40 ] .
والباء في : { بِظلم } للسّببيّة ، والظلم : الشّرك ، أي مهلكهم بسبب شرك يَقع فيها فيهلكها ويهلك أهلها الّذين أوقعوه ، ولذلك لم يقل : بظلم أهلها ، لأنَّه أريد أن وجود الظلم فيها سببُ هلاكها ، وهلاكُ أهلها بالأحرى لأنَّهم المقصود بالهلاك .
وجملة : { وأهلها غافلون } حال من { القرى } . وصرح هنا ب { أهلها } تنبيها على أنّ هلاك القُرى من جراء أفعال سكّانها ، { فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا } [ النمل : 52 ] .