تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (106)

{ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ } مما صدر منك إن صدر .

{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } أي : يغفر الذنب العظيم لمن استغفره ، وتاب إليه وأناب ويوفقه للعمل الصالح بعد ذلك الموجِب لثوابه وزوال عقابه .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (106)

يقول تعالى مخاطبا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : { إِنّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } أي : هو حق من الله ، وهو يتضمن الحق في خبره وطلبه .

وقوله : { لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان ، عليه السلام ، له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية ، وبما ثبت في الصحيحين من رواية هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أم سلمة ، عن أم سلمة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع حَلَبَةَ خصم بباب حجرته ، فخرج إليهم فقال : " ألا إنما أنا بشر ، وإنما أقضي بنحو مما أسمع ، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له ، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها{[8249]} أو ليذرها " {[8250]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا أسامة بن زيد ، عن عبد الله بن رافع ، عن أم سلمة قالت : جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد دَرَسَتْ ، ليس عندهما{[8251]} بينة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنكم تختصمون إلي ، وإنما أنا بشر ، ولعل بعضكم ألْحَن بحُجَّتِه من بعض ، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار ، يأتي بها إسطامًا في عنقه يوم القيامة " . فبكى الرجلان وقال كل منهما : حقي لأخي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما ، ثم توخيا الحق ، ثم استهما ، ثم ليُحْللْ كل واحد منكما{[8252]} صاحبه " .

وقد رواه أبو داود من حديث أسامة بن زيد ، به . وزاد : " إني إنما أقضي بينكما برأي فيما لم ينزل عليّ فيه " {[8253]} .

وقد روى ابن مَرْدُويه ، من طريق العوفي ، عن ابن عباس قال : إن نفرا من الأنصار غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته ، فسرقت درع لأحدهم ، فأظن بها رجل من الأنصار ، فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن طُعْمةَ بن أُبَيْرق سرق درعي ، فلما رأى السارق{[8254]} ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء ، وقال لنفر من عشيرته : إني غَيَّبْتُ الدرع وألقيتها في بيت فلان ، وستوجد عنده . فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلا فقالوا : يا نبي الله ، إن صاحبنا بريء . وإن صاحب الدرع فلان ، وقد أحطنا بذلك علما ، فاعذُرْ صاحبنا على رءوس الناس وجادل عنه . فإنه إلا{[8255]} يعصمه الله بك يهلك ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذرَه على رءوس الناس ، فأنزل الله : { إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا{[8256]} } [ يقول : احكم بما أنزل الله إليك في الكتاب ]{[8257]} { وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا . وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ [ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ]{[8258]} } ثم قال للذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مُسْتَخْفين بالكذب : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ [ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا . هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا ]{[8259]} } يعني : الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين يجادلون عن الخائنين ثم قال : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ]{[8260]} } يعني : الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب ، ثم قال : { وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } يعني : السارق والذين جادلوا عن السارق . وهذا سياق غريب{[8261]} وكذا{[8262]} ذكر مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد وغيرهم في هذه الآية أنها أنزلت{[8263]} في سارق بني أبيرق على اختلاف سياقاتهم ، وهي متقاربة .

وقد روى هذه القصة محمد بن إسحاق مطولة ، فقال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية من جامعه ، وابن جرير في تفسيره :

حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحرَّاني ، حدثنا محمد بن سلمة الحرَّاني ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عُمَر بن قتادة ، عن أبيه ، عن جده قَتَادة بن النعمان ، رضي الله عنه ، قال : كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أُبَيْرق : بِشْر وبشير ومُبَشّر ، وكان بُشَير رجلا منافقًا ، يقول{[8264]} الشعر يهجو به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ينحله بعض العرب ، ثم يقول : قال فلان كذا وكذا ، وقال فلان كذا وكذا ، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث ؟ - أو كما قال الرجل - وقالوا{[8265]} ابن الأبيرق قالها . قالوا : وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام ، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير ، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة{[8266]} من الشام من الدَّرْمَك ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه ، وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير ، فقدمت ضَافطة{[8267]} من الشام ، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فحطه في مَشْربة له ، وفي المشربة سلاح : درع وسيف ، فَعُدي عليه من تحت البيت ، فَنقّبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح . فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ، إنه قد عدى علينا في ليلتنا هذه . فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا . قال : فتجسسنا في الدار وسألنا ، فقيل لنا : قد رأينا بني أُبَيْرق استوقدوا في هذه الليلة ، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم .

قال : وكان بنو أبيرق قالوا - ونحن نسأل في الدار - : والله ما نرى صاحبكم إلا لَبِيد بن سهل رجلا منا له صلاح وإسلام . فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال : أنا أسرق ؟ والله{[8268]} ليخالطنكم هذا السيف ، أو لتبينن هذه السرقة . قالوا : إليك عنا أيها الرجل ، فما أنت بصاحبها . فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها .

فقال لي عمي : يا ابن أخي ، لو أتيتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له . قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد ، فنَقَبوا مشربة له ، وأخذوا سلاحه وطعامه . فَلْيردوا علينا سلاحنا ، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه . فقال النبي{[8269]} صلى الله عليه وسلم " سآمُرُ في ذلك " .

فلما سمع بنو أُبَيْرق أتوا رجلا منهم يقال له : أُسَير بن عمْرو{[8270]} فكلموه في ذلك ، فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا : يا رسول الله ، إن قتادة{[8271]} بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح ، يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت . قال قتادة : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته ، فقال : " عمدت إلى أهل بيت ذُكر منهم إسلام وصلاح ، ترميهم بالسرقة على غير ثَبَت ولا بينة ؟{[8272]}

قال : فرجعت ولَوَدِدت أني خرجت من بعض مالي ، ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فأتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ، ما صنعت ؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : الله المستعان . فلم نلبث أن نزل القرآن : { إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } بني أبيرق { وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ } مما قلت لقتادة { إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا . وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ [ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا . يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ ] {[8273]} } إلى قوله : { رَحِيمًا } أي : لو استغفروا الله لغفر لهم { وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ } إلى قوله : { إِثْمًا مُبِينًا } قولهم للبيد : { وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ } إلى قوله : { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا }

فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فردَّه إلى رفاعة .

فقال قتادة : لما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخًا ، قد عشا أو عسا - الشك من أبي عيسى - في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولا فلما أتيته بالسلاح قال : يا ابن أخي ، هو في سبيل الله . فعرفت أن إسلامه كان صحيحًا ، فلما نزل القرآن لحق بُشَيرٌ بالمشركين ، فنزل على سُلافةَ بنت سعد بن سُمَية ، فأنزل الله تعالى : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا . إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا } فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من{[8274]} شعره ، فأخذت رَحْلَهُ فوضعته على رأسها ، ثم خرجت به فَرَمَتْ به في الأبطح ، ثم قالت : أهديتَ لي شِعْر حسان ؟ ما كنتَ تأتيني بخير .

لفظ الترمذي ، ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني : وروى يونس بن بُكَير وغير واحد ، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عُمَر بن قتادة مرسلا لم يذكروا فيه عن{[8275]} أبيه عن جده .

ورواه ابن حاتم عن هاشم بن القاسم الحراني ، عن محمد بن سلمة ، به ببعضه .

ورواه ابن المنذر في تفسيره : حدثنا محمد بن إسماعيل - يعني الصائغ - حدثنا الحسن بن أحمد ابن أبي شعيب الحراني ، حدثنا محمد بن سلمة - فذكره بطوله .

ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في تفسيره عن محمد بن العباس بن أيوب والحسن بن يعقوب ، كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني ، عن محمد بن سلمة ، به . ثم قال في آخره : قال محمد بن سلمة : سمع مني هذا الحديث يحيى بن معين ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن إسرائيل{[8276]} .

وقد روى الحاكم أبو عبد الله النيسابوري هذا الحديث في كتابه " المستدرك " عن أبي العباس الأصم ، عن أحمد بن عبد الجبار العُطاردي ، عن يونس بن بُكَير ، عن محمد بن إسحاق - بمعناه أتم منه ، وفيه الشعر ، ثم قال : وهذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه{[8277]} .


[8249]:في أ: "فليأخذها".
[8250]:صحيح البخاري برقم (2458) وصحيح مسلم برقم (1713).
[8251]:في أ: "بينهما".
[8252]:في أ: "كل منهما".
[8253]:المسند (6/320) وسنن أبي داود برقم (3584).
[8254]:في ر: "البارق".
[8255]:في د: "إن لم".
[8256]:في ر: "وأنزل الله الذكر في الكتاب".
[8257]:زيادة من أ.
[8258]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
[8259]:زيادة من ر، أ، و، وفي هـ: "الآيتين".
[8260]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
[8261]:ورواه الطبري في تفسيره (9/183) وإسناده مسلسل بالضعفاء كما تقدم.
[8262]:في أ: "وهكذا".
[8263]:في ر: "أن هذه الآية نزلت".
[8264]:في أ: "منافقا فكان يقول".
[8265]:في أ: "وقال".
[8266]:في د: "غير"، وفي ر: "صافطة".
[8267]:في د: "غير"، وفي ر: "صافطة".
[8268]:في أ: "فوالله".
[8269]:في د: "رسول الله".
[8270]:في د، أ: "ابن عروة".
[8271]:في أ: "قدادة".
[8272]:في أ: "ثبت وبينة".
[8273]:زيادة من ر، أ.
[8274]:في ر: "في".
[8275]:في أ: "غير".
[8276]:سنن الترمذي برقم (3036) وتفسير الطبري (9/177) وانظر: حاشية الشيخ أحمد شاكر في كلامه على هذا الحديث (9/181).
[8277]:المستدرك (4/385 - 388) ووافقه الذهبي.

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَٱسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (106)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{واستغفر الله} يا محمد عن جدالك عن طعمة حين كذّبت عنه، فأبرأته من السرقة، {إن الله كان غفورا رحيما}، فاستغفر النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك،...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

قوله تعالى: {واستغفر الله} ليس هو قول الناس: نستغفر الله. ولكن كأنه قال: كونوا على الحال التي تكون أعمالكم مكفرة للذنوب...

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

ابن عباس قال: واستغفر الله مما هممت به من قطع يد زيد...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وقوله تعالى: {واستغفر الله} ذهب الطبري إلى أن المعنى استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين. وهذا ليس بذنب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دافع عن الظاهر، وهو يعتقد براءتهم، والمعنى: استغفر للمذنبين من أمتك والمتخاصمين في الباطل، لا أن تكون ذا جدال عنهم، فهذا حدك، ومحلك من الناس أن تسمع من المتداعيين وتقضي بنحو ما تسمع، وتستغفر للمذنب...

زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :

قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ} في الذي أمر بالاستغفار منه قولان: أحدهما: أنه القيام بعذره. والثاني: أنه العزم على ذلك...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

قال الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام: دلت هذه الآية على صدور الذنب من الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنه لولا أن الرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يخاصم لأجل الخائن ويذب عنه وإلا لما ورد النهي عنه.

والجواب: أن النهي عن الشيء لا يقتضي كون المنهي فاعلا للمنهى عنه، بل ثبت في الرواية أن قوم طعمة لما التمسوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يذب عن طعمة وأن يلحق السرقة باليهودي توقف وانتظر الوحي فنزلت هذه الآية، وكان الغرض من هذا النهي تنبيه النبي عليه الصلاة والسلام على أن طعمة كذاب، وأن اليهودي بريء عن ذلك الجرم.

فإن قيل: الدليل على أن ذلك الجرم قد وقع من النبي عليه الصلاة والسلام قوله بعد هذه الآية {واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما} فلما أمره الله بالاستغفار دل على سبق الذنب.

والجواب من وجوه: الأول: لعله مال طبعه إلى نصرة طعمة بسبب أنه كان في الظاهر من المسلمين فأمر بالاستغفار لهذا القدر، وحسنات الأبرار سيئات المقربين. والثاني: لعل القوم لما شهدوا على سرقة اليهودي وعلى براءة طعمة من تلك السرقة ولم يظهر للرسول عليه الصلاة والسلام ما يوجب القدح في شهادتهم هم بأن يقضي بالسرقة على اليهودي، ثم لما أطلعه الله تعالى على كذب أولئك الشهود عرف أن ذلك القضاء لو وقع لكان خطأ، فكان استغفاره بسبب أنه هم بذلك الحكم الذي لو وقع لكان خطأ في نفسه وإن كان معذورا عند الله فيه. الثالث: قوله {واستغفر الله} يحتمل أن يكون المراد: واستغفر الله لأولئك الذين يذبون عن طعمة ويريدون أن يظهروا براءته عن السرقة.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

وأتبع ذلك قوله: {واستغفر الله} أي الذي له الإحاطة التامة والغنى المطلق {كان} أي أزلاً وأبداً {غفوراً رحيماً} وهذا الاستغفار لا عن ذنب إذ هو منزه عن ذلك، معصوم. منه، ولكن عن مقام عال تام للارتقاء إلى أعلى منه وأتم...

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

أمره بالاستغفار لزيادة الثواب وإرشاده إلى التثبت وأن ما ليس بذنب مما يكاد يعدّ حسنة من غيره إذا صدر منه عليه الصلاة والسلام بالنسبة لعظمته ومقامه المحمود يوشك أن يكون كالذنب...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

قال الأستاذ الإمام:

واستغفر الله مما يعرض لك من شؤون البشر من نحو ميل إلى من تراه ألحن بحجته. أو الركون إلى مسلم لأجل إسلامه تحسينا للظن به، فإن ذلك قد يوقع الاشتباه، وتكون صورة صاحبه صورة من أتى الذنب الذي يوجب له الاستغفار، وإن لم يكن متعمدا للزيغ عن العدل، والتحيز إلى الخصم، فهذا من زيادة الحرص على الحق، كأن مجرد الالتفات إلى قول المخادع كاف في وجوب الاحتراس منه، وناهيك بما في ذلك من التشديد فيه.

أقول: ظاهر الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم مال إلى تصديق المسلمين وإدانة اليهودي لما كان يغلب على المسلمين في ذلك العهد من الصدق والأمانة، وعلى اليهود من الكذب والخيانة، ولذلك قال العلماء في القديم والحديث إن أولئك المسلمين، لم يكونوا إلا منافقين، لأن مثل عمل طعمة وتأييد من أيده فيه لا يصدر عمدا إلا من منافق، وتبع ذلك أنه صلى الله عليه وسلم ود لو يكون الفلج بالحق في الخصومة للمسلمين الذين يرجح صدقهم فأراد أن يساعدهم على ذلك ولكنه لم يفعل انتظارا لوحي الله تعالى، فعلمه الله تعالى بهذه الآيات وعلمنا أن الاعتقاد الشخصي، والميل الفطري والديني، لا ينبغي أن يظهر لهما أثر ما في مجلس القضاء، ولا أن يساعد القاضي من يظن أنه هو صاحب الحق، بل عليه أن يساوي بين الخصمين في كل شيء، وإذا كان هذا هو الواجب وكان ذلك الميل إلى تأييد من غلب على الظن صدقه يفضي إلى مساعدته في الخصومة فيكون الحاكم خصيما عنه لو فعل، وإذا كان طلب الانتصار لهم من الخائنين في الواقع ونفس الأمر في هذه القضية فقد وجب الاستغفار من هذا الاجتهاد وحسن الظن فهذا أحسن ما يوجه به ما ذهب إليه الرازي على تقدير صحة الرواية في سبب نزول الآيات. وما قاله الأستاذ الإمام أبلغ في تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم مما لا يليق به، أما العصمة فلا ينقضها شيء مما ورد ولا الأمر بالاستغفار، لأن الأنبياء معصومون من الحكم أو العمل بغير ما أوحاه الله تعالى إليهم أو ما يرون باجتهادهم أنه الصواب، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم في هذه القضية قبل نزول الآيات بشيء، ولم يعمل بغير ما يعتقد أنه تأييد للحق، ولكنه أحسن الظن في أمر بين له علام الغيوب حقيقة الواقع فيه وما ينبغي له في معاملة ذويه، {وكان الله غفورا رحيما} أي كان شأنه ذلك وتقدم شرح مثل هذه الجملة مرارا.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

الأمرُ باستغفار الله جرى على أسلوب توجيه الخطاب إلى الرسول، فالمراد بالأمر غيره، أرشدهم إلى ما هو أنفع لهم وهو استغفار الله ممّا اقترفوه، أو أراد: واستغفر الله للخائنين ليلهمهم إلى التوبة ببركة استغفارك لهم فذلك أجدر من دفاع المدافعين عنهم. وهذا نظير قوله: {ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله} [النساء: 64] وليس المراد بالأمر استغفار النبي لنفسه، كما أخطأ فيه مَن تَوهَّم ذلك، فركَّب عليه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خَطر بباله مَا أوجب أمره بالاستغفار، وهو هَمُّه أن يجادل عن بني أبيرق، مع علمه بأنّهم سرقوا، خشية أن يفتضحوا، وهذا من أفهام الضعفاء وسوء وضعهم الأخبار لتأييد سقيم أفهامهم.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

وطلب الاستغفار دائم يوجهه الله تعالى إلى النبي، وإلى كل مؤمن تقي، لأن الاستغفار إنابة، وعبادة، وهي مطلوبة.. لأنه سبحانه قد ثبت واستقر له أن المغفرة بأقصى درجاتها، والرحمة بأوسع معانيها صفتان له سبحانه، وهذا معنى قوله تعالى: {إن الله كان غفورا رحيما}. وقد أكد سبحانه اتصافه تعالى بهاتين الصفتين بأربعة مؤكدات: أولها (إن) التي تفيد التوكيد وثانيها (كان) التي تفيد الاستمرار، وثالثها صيغة المبالغة في غفور ورحيم، ورابعها الجملة الإسمية...

.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

والأمر بالاستغفار يجيء على مجرد وجود خاطر التردد بين نصرة المسلم أو نصرة اليهودي فلم يكن الرسول قد نصر أحدا على أحد بعد، ولكن مجرد هذا الخاطر يتطلب الاستغفار والذي يصدر الأمر بذلك هو الحق سبحانه لرسوله، ولا اعتراض ولا غضاضة أن يعدل لنا ربنا أمرا ما.

أو أن كل خطاب من هذا اللون موجه لمن جعل المسألة موضع مساومة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كقول "بني ظفر "عندما أرادوا ألا يحكم الرسول على اللص الذي بينهم، وتمحكوا في الإسلام لذلك يأمر الحق الذين حدثوا رسول الله عن هذا الموضوع بالاستغفار أو أن يستغفر الرسول لهم الله لأنهم لم يقولوا ذلك إلا رغبة في ألا ينفضح أمر المسلمين.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} الاستغفار من وسائل التربية الروحية التي يريد الإسلام من الإنسان أن يمارسها بوعي المؤمن الذي قد يرتكب المعصية، أو وقد يهمّ بها، أو قد تطوف بخاطره، أو يعيش في مناخها... من أجل تحقيق هدفين: الأول: القرب من الله بعد أن أبعدته تلك الأجواء والمشاعر والأفكار عنه، لأنه يمثل الإحساس بالذنب في عملية اعتراف وندم وتراجع. الثاني: الحصول على المناعة الداخلية من خلال الإيحاء بالتأنيب الداخلي للذات وهو في موقع الابتهال إلى الله...

[و] الأسلوب القرآني يوحي بالخطاب للأمة من خلال خطاب النبيصلى الله عليه وسلم إمعاناً في تأكيد الأهمية للموضوع...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

...

إِنّ الاستغفار هو لترك الأولى الذي حصل بسبب الاستعجال في الحكم في القضية التي نزلت بسببها الآيتان، أي مع أنّ ذلك القدر من الاعتراف، وشهادة الطرفين كان كافياً لإِصدار الحكم من قبل النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إِلاّ أنّه كان الأحرى أن يجري تحقيقا أكثر في ذلك المجال.

والثّاني: هو أنّ النّبي قد حكم في تلك القضية وفقاً لقوانين القضاء الإِسلامي، وبما أنّ الأدلة التي جاء بها الخائنون كانت بحسب الظاهر أقوى، لذلك أعطى الحق لهم، وبعد انكشاف الحقيقة ووصول الحق إِلى صاحبه يأتي الأمر بطلب المغفرة من الله، ليس لذنب مرتكب، بل لتعرض حق فرد مسلم إِلى خطر الزوال بسبب خيانة البعض من الأشخاص، أي أن الاستغفار بحسب الاصطلاح لأجل الحكم الحقيقي لا الحكم الظاهري...