ثم ذكر أنه قد سبق لهم سوابق في الشر فقال : { لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ } أي : حين هاجرتم إلى المدينة ، بذلوا الجهد ، { وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ } أي : أداروا الأفكار ، وأعملوا الحيل في إبطال دعوتكم وخذلان دينكم ، ولم يقصروا في ذلك ، { حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ } فبطل كيدهم واضمحل باطلهم ، فحقيق بمثل هؤلاء أن يحذر اللّه عباده المؤمنين منهم ، وأن لا يبالي المؤمنين ، بتخلفهم عنهم .
يقول تعالى محرضا لنبيه عليه السلام على المنافقين : { لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأمُورَ } أي : لقد أعملوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك وخذلان دينك وإخماله مدة طويلة ، وذلك أول مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة رمته العرب عن قوس واحدة ، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها ، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته ، قال عبد الله بن أبي وأصحابه : هذا أمر قد تَوَجَّه . فدخلوا في الإسلام ظاهرًا ، ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم{[13548]} ذلك وساءهم ؛ ولهذا قال تعالى : { حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلّبُواْ لَكَ الاُمُورَ حَتّىَ جَآءَ الْحَقّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ } .
يقول تعالى ذكره : لقد التمس هؤلاء المنافقون الفتنة لأصحابك يا محمد ، التمسوا صدّهم عن دينهم ، وحرصوا على ردّهم إلى الكفر بالتخذيل عنه ، كفعل عبد الله بن أبيّ بك وبأصحابك يوم أُحد حين انصرف عنك بمن تبعه من قومه ، وذلك كان ابتغاءهم ما كانوا ابتغوا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتنة من قبل . ويعني بقوله : مِنْ قَبْلُ : من قبل هذا . وَقَلّبُوا لَكَ الأُمُورَ يقول : وأجالوا فيك وفي إبطال الدين الذي بعثك به الله الرأي بالتخذيل عنك ، وإنكار ما تأتيهم به ، وردّه عليك . حَتّى جاءَ الحَقّ يقول : حتى جاء نصر الله ، وَظَهَرَ أمْرُ اللّهِ يقول : وظهر دين الله الذي أمر به وافترضه على خلقه وهو الإسلام . وَهُمْ كارِهُونَ يقول : والمنافقون لظهور أمر الله ونصره إياك كارهون ، وكذلك الاَن يظهرك الله ويظهر دينه على الذين كفروا من الروم وغيرهم من أهل الكفر به وهم كارهون .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَقَلّبُوا لَكَ الأُمُورَ : أي ليخذلوا عنك أصحابك ، ويردّوا عليك أمرك . حتى جاءَ الحَقّ وظَهَرَ أمْرُ اللّهِ .
وذُكر أن هذه الآية نزلت في نفر مُسَمّيْن بأعيانهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عمرو ، عن الحسن ، قوله : وَقَلّبُوا لَكَ الأُمُورَ قال : منهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، وعبد الله بن نبتل أخو بني عمرو بن عوف ، ورفاعة بن رافع ، وزيد بن التابوت القينقاعي .
وكان تخذيل عبد الله بن أبيّ أصحابه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزاة ، كالذي :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهريّ ، ويزيد بن رومان ، وعبد الله بن أبي بكر ، وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم ، كلّ قد حدّث في غزوة تبوك ما بلغه عنها ، وبعض القوم يحدّث ما لم يحدّث بعض ، وكلّ قد اجتمع حديثه في هذا الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم ، وذلك في زمان عسرة من الناس وشدّة من الحرّ وجدب من البلاد ، وحين طاب الثمار وأُحِبّت الظلال ، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ، ويكرهون الشخوص عنها على الحال من الزمان الذي هم عليه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يخرج في غزوة إلا كني عنها وأخبر أنه يريد غير الذي يصمد له ، إلا ما كان من غزوة تبوك ، فإنه بينها للناس لبعد الشقة وشدة الزمان وكثرة العدوّ الذي صمد له ليتأهب الناس لذلك أهبته . فأم الناس بالجهاد ، وأخبرهم أنه يريد الروم ، فتجهز الناس على ما في أنفسهم من الكره لذلك الوجه لما فيه ، مع ما عظموا من ذكر الروم وغزوهم . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جدّ في سفره ، فأمر الناس بالجهاز والانكماش ، وحضّ أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله . فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع ، وضرب عبد الله بن أبيّ ابن سلول عسكره على ذي حدة أسفل منه نحو ذباب جبلّ بالجبانة أسفل من ثنية الوداع وكان فيما يزعمون ليس بأقلّ العسكرين فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبيّ فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب ، وكان عبد الله بن أبيّ أخا بني عوف بن الخزرج ، عبد الله بن نبتل أخا بني عمرو بن عوف ، ورفاعة بن زيد بن التابوت أخا بني قينقاع ، وكانوا من عظماء المنافقين ، وكانوا ممن يكيد للإسلام وأهله . قال : وفيهم كما حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن البصريّ أنزل الله : لَقَدِ ابْتَغَوُا الفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ . . . الآية .
في هذه الآية تحقير شأنهم ، وذلك أنه أخبر أنهم قد لما سعوا على الإسلام فأبطل الله سعيهم ، ومعنى قوله : { من قبل } ما كان من حالهم من وقت هجرة رسول الله صلى الله عليه سلم ورجوعهم عنه في أحد وغيرها ، ومعنى { وقلبوا لك الأمور } دبروها ظهراً لبطن ونظروا في نواحيها وأقسامها وسعوا بكل حيلة ، وقرأ مسلمة بن محارب «وقلَبوا لك » بالتخفيف في اللام ، و { أمر الله } الإسلام ودعوته .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.