{ 97 - 99 ْ } { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ْ }
يقول تعالى : { الْأَعْرَابِ ْ } وهم سكان البادية والبراري { أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا ْ } من الحاضرة الذين فيهم كفر ونفاق ، وذلك لأسباب كثيرة : منها : أنهم بعيدون عن معرفة الشرائع الدينية والأعمال والأحكام ، فهم أحرى { وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } من أصول الإيمان وأحكام الأوامر والنواهي ، بخلاف الحاضرة ، فإنهم أقرب لأن يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله ، فيحدث لهم -بسبب هذا العلم- تصورات حسنة ، وإرادات للخير ، الذي يعلمون ، ما لا يكون في البادية .
وفيهم من لطافة الطبع والانقياد للداعي ما ليس في البادية ، ويجالسون أهل الإيمان ، ويخالطونهم أكثر من أهل البادية ، فلذلك كانوا أحرى للخير من أهل البادية ، وإن كان في البادية والحاضرة ، كفار ومنافقون ، ففي البادية أشد وأغلظ مما في الحاضرة . ومن ذلك أن الأعراب أحرص على الأموال ، وأشح فيها .
أخبر تعالى أن في الأعراب كفارا ومنافقين ومؤمنين ، وأن كفرهم ونفاقهم أعظم من غيرهم وأشد ، وأجدر ، أي : أحرى ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ، كما قال الأعمش عن إبراهيم قال : جلس أعرابي إلى زيد بن صَوْحان وهو يحدث أصحابه ، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوَند ، فقال الأعرابي : والله إن حديثك ليعجبني ، وإن يدك لتريبني فقال زيد : ما يُريبك من يدي ؟ إنها الشمال . فقال الأعرابي : والله ما أدري ، اليمين يقطعون أو الشمالَ ؟ فقال زيد بن صوحان{[13792]} صدق الله : { الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي ، حدثنا سفيان ، عن أبي موسى ، عن وهب بن مُنَبِّه ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من سكن البادية جفا ، ومن اتبع الصيد غَفَل ، ومن أتى السلطان افتتن " .
ورواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي من طرق ، عن سفيان الثوري ، به{[13793]} وقال الترمذي : حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث الثوري .
ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي لم يبعث الله منهم رسولا وإنما كانت البعثة من أهل القرى ، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [ يوسف : 109 ] ولما أهدى ذلك الأعرابي تلك الهدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فردَّ عليه أضعافها حتى رضي ، قال : " لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قُرشي ، أو ثَقَفي أو أنصاري ، أو دَوْسِيّ " {[13794]} ؛ لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن : مكة ، والطائف ، والمدينة ، واليمن ، فهم ألطف أخلاقًا من الأعراب : لما في طباع الأعراب من الجفاء .
حديث [ الأعرابي ]{[13795]} في تقبيل الولد : قال مسلم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كُرَيْب قالا حدثنا أبو أسامة وابن نُمَيْر ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أتقبِّلون صبيانكم ؟ قالوا : نعم . قالوا : ولكنا والله ما نقبِّل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وَأمْلكُ أن كان الله نزع منكم الرحمة ؟ " . وقال ابن نمير : " من قلبك الرحمة " {[13796]} وقوله : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : عليم بمن يستحق أن يعلمه الإيمان والعلم ، { حَكِيمٌ } فيما قسم بين عباده من العلم والجهل والإيمان والكفر والنفاق ، لا يسأل عما يفعل ، لعلمه وحكمته .
القول في تأويل قوله تعالى : { الأعْرَابُ أَشَدّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللّهُ عَلَىَ رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : الأعراب أشدّ جحودا لتوحيد الله وأشدّ نفاقا من أهل الحضر في القرى والأمصار . وإنما وصفهم جلّ ثناؤه بذلك لجفائهم وقسوة قلوبهم وقلة مشاهدتهم لأهل الخير ، فهم لذلك أقسى قلوبا وأقلّ علما بحقوق الله . وقوله : وأجْدَرُ أنْ لا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أنْزَلَ اللّهُ على رَسُولِهِ يقول : وأخلق أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله وذلك فيما قال قتادة : السّنَن .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأجّدَرُ ألاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أنْزَلَ اللّهُ على رَسُولِهِ قال : هم أقلّ علما بالسّنن .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مُقَرّن عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال جلس أعرابي إلى زيد بن صُوْحان وهو يحدّث أصحابه ، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند ، فقال : والله إن حديثك ليعجبني ، وإن يدك لتريبني فقال زيد : وما يريبك من يدي ، إنها الشّمال ؟ فقال الأعرابي : والله ما أدري أليمينَ يقطعون أم الشمال ؟ فقال زيد بن صُوحان : صدق الله : الأعْرَابُ أشَدّ كُفْرا وَنِفاقا وأجْدَرُ أنْ لا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أنْزَلَ اللّهُ على رَسُولِهِ .
وقوله : وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يقول : والله عليم بمن يعلم حدود ما أنزل على رسوله ، والمنافق من خلقه والكافر منهم ، لا يخفى عليه منهم أحد ، حكيم في تدبيره إياهم ، وفي حلمه عن عقابهم مع علمه بسرائرهم وخداعهم أولياءه .
{ الأعراب } أهل البدو . { أشد كفرا ونفاقا } من أهل الحضر لتوحشهم وقساوتهم وعدم مخالطتهم لأهل العلم وقلة استماعهم للكتاب والسنة . { وأجدر أن لا يعلموا } وأحق بأن لا يعلموا . { حدود ما أنزل الله على رسوله } من الشرائع فرائضها وسنتها . { والله عليم } بعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر . { حكيم } فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم عقابا وثوابا .
وقوله { الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله } الآية ، { الأعراب } لفظة عامة ومعناها الخصوص فيمن استثناه الله عز وجل ، وهذا معلوم بالوجود وكيف كان الأمر ، وإنما انطلق عليهم هذا الوصف بحسب بعدهم عن الحواضر ومواضع العلم والأحكام والشرع ، وهذه الآية إنما نزلت في منافقين كانوا في البوادي ، ولا محالة أن خوفهم هناك أقل من خوف منافقي المدينة ، فألسنتهم لذلك مطلقة ونفاقهم أنجم{[5841]} ، وأسند الطبري أن زيد بن صوحان{[5842]} كان يحدث أصحابه بالعلم وعنده أعرابي وكان زيد قد أصيبت يده اليسرى يوم نهاوند{[5843]} فقال الأعرابي والله إن حديثك ليعجبني وإن يدك لتريبني وقال زيد : وما يريبك من يدي وهي الشمال ؟ فقال الأعرابي : والله ما أدري اليمين تقطعون أم الشمال ؟ فقال زيد صدق الله { الأعراب أشد كفارً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله } ، { و أجدر } معناه أحرى وأقمن ، و «الحدود » هنا السنن والأحكام ومعالم الشريعة .