وليس الأعراب كلهم مذمومين ، بل منهم { مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } فيسلم بذلك من الكفر والنفاق ويعمل بمقتضى الإيمان .
{ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ } أي : يحتسب نفقته ، ويقصد بها وجه اللّه تعالى والقرب منه و يجعلها وسيلة ل { صَلَوَاتِ الرَّسُولِ ْ } أي : دعائه لهم ، وتبريكه عليهم ، قال تعالى مبينا لنفع صلوات الرسول : { أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ } تقربهم إلى اللّه ، وتنمي أموالهم وتحل فيها البركة .
{ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ } في جملة عباده الصالحين إنه غفور رحيم ، فيغفر السيئات العظيمة لمن تاب إليه ، ويعم عباده برحمته ، التي وسعت كل شيء ، ويخص عباده المؤمنين برحمة يوفقهم فيها إلى الخيرات ، ويحميهم فيها من المخالفات ، ويجزل لهم فيها أنواع المثوبات .
وفي هذه الآية دليل على أن الأعراب كأهل الحاضرة ، منهم الممدوح ومنهم المذموم ، فلم يذمهم اللّه على مجرد تعربهم وباديتهم ، إنما ذمهم على ترك أوامر اللّه ، وأنهم في مظنة ذلك .
ومنها : أن الكفر والنفاق يزيد وينقص ويغلظ ويخف بحسب الأحوال .
ومنها : فضيلة العلم ، وأن فاقده أقرب إلى الشر ممن يعرفه ، لأن اللّه ذم الأعراب ، وأخبر أنهم أشد كفرا ونفاقا ، وذكر السبب الموجب لذلك ، وأنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله .
ومنها : أن العلم النافع الذي هو أنفع العلوم ، معرفة حدود ما أنزل اللّه على رسوله ، من أصول الدين وفروعه ، كمعرفة حدود الإيمان ، والإسلام ، والإحسان ، والتقوى ، والفلاح ، والطاعة ، والبر ، والصلة ، والإحسان ، والكفر ، والنفاق ، والفسوق ، والعصيان ، والزنا ، والخمر ، والربا ، ونحو ذلك . فإن في معرفتها يتمكن من فعلها -إن كانت مأمور بها ، أو تركها إن كانت محظورة- ومن الأمر بها أو النهي عنها .
ومنها : أنه ينبغي للمؤمن أن يؤدي ما عليه من الحقوق ، منشرح الصدر ، مطمئن النفس ، ويحرص أن تكون مغنما ، ولا تكون مغرما .
وقوله : { وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ } هذا هو القسم الممدوح من الأعراب ، وهم الذين يتخذون ما ينفقون في سبيل الله قربة يتقربون بها عند الله ، ويبتغون بذلك دعاء الرسول لهم ، { أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ } أي : ألا إن ذلك حاصل لهم ، { سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ الأعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَيَتّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرّسُولِ أَلآ إِنّهَا قُرْبَةٌ لّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ومن الأعراب من يصدق الله ويقرّ بوحدانيته وبالبعث بعد الموت والثواب والعقاب ، وينوي بما ينفق من نفقة في جهاد المشركين وفي سفره مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قُرُباتٍ عِنْدَ اللّهِ القربات : جمع قُرْبة ، وهو ما قربه من رضا الله ومحبته . وَصَلوَاتِ الرّسُولِ ، يعني بذلك : ويبتغي بنفقة ما ينفق مع طلب قربته من الله دعاء الرسول واستغفاره له .
وقد دللنا فيما مضى من كتابنا على أن من معاني الصلاة الدعاء بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَصَلوَاتِ الرّسُولِ يعني استغفار النبيّ عليه الصلاة والسلام .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ومِنَ الأعْرَابِ مَنْ يَتّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرّسُولِ قال : دعاء الرسول ، قال : هذه ثنية الله من الأعراب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ باللّهِ واليَوْمِ الاَخِرِ قال : هم بنو مقرن من مزينة ، وهم الذين قال الله فيهم : وَلا على الّذِينَ إذَا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أجِدُ ما أحْمِلُكُمْ علَيْهِ تَوَلّوْا وأعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْع حَزَنا قال : هم بنو مُقَرن من مزينة .
قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قوله : الأعْرَابُ أشَدّ كُفْرا وَنِفاقا ثم استثنى فقال : وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ . . . الآية .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا جعفر ، عن البختري بن المختار العبدي ، قال : سمعت عبد الله بن مُغَفّل قال : كنا عشرة ولد مُقَرّن ، فنزلت فينا : وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ باللّهِ واليَوْمِ الاَخِرِ . . . إلى آخر الآية .
قال الله : أَلاَ إنهَا قُرْبةٌ لَهُمْ ، يقول تعالى ذكره : ألا إن صلوات الرسول قربة لهم من الله ، وقد يحتمل أن يكون معناه : ألا إن نفقته التي ينفقها كذلك قربة لهم عند الله . سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ في رحْمَتِهِ يقول : سيدخلهم الله فيمن رحمه فأدخله برحمته الجنة ، إن الله غفور لما اجترموا ، رحيم بهم مع توبتهم وإصلاحهم أن يعذبهم .
{ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قُربات عند الله } سبب { قربات } وهي ثاني مفعولي { يتخذ } ، وعند الله صفتها أو ظرف ل { يتخذ } . { وصلوات الرسول } وسبب صلواته لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمتصدقين ويستغفر لهم ، ولذلك سن للمصدق عليه أن يدعو للمتصدق عند أخذ صدقته لكن ليس له أن يصلي عليه كما قال صلى الله عليه وسلم " اللهم صل على آل أبي أوفى " ، لأنه منصبه فله أن يتفضل به على غيره . { إلا إنها قُربة لهم } شهادة من الله بصحة معتقدهم وتصديق لرجائهم على الاستئناف مع حرف التنبيه وإن المحققة للنسبة والضمير لنفقتهم وقرأ ورش { قربة } بضم الراء . { سيدخلهم الله في رحمته } وعدلهم بإحاطة الرحمة عليهم والسين لتحقيقه وقوله : { إن الله غفور رحيم } لتقريره . وقيل الأولى في أسد وغطفان وبني تميم والثانية في عبد الله ذي البجادين وقومه .
وقوله تعالى : { ومن الأعراب من يؤمن بالله } الآية ، قال قتادة : هذه ثنية الله تعالى من الأعراب{[5851]} ، و { يتخذ } في هذه الآية أيضاً هي بمعنى يجعله مقصداً ، والمعنى ينوي بنفقته في سبيل الله القربة عند الله عز وجل واستغنام دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ، ففي دعائه لهم خير الآخرة في النجاة من النار وخير الدنيا في أرزاقهم ومنح الله لهم ، ف { صلوات } على هذا عطف على { قربات } ، ويحتمل أن يكون عطفاً على ما ينفق ، أي ويتخذ بالأعمال الصالحة صلوات الرسول قربة ، والأولى أبين ، و { قربات } جمع قرْبة أو قرُبه بسكون الراء وضمها وهما لغتان و «الصلاة » في هذه الآية الدعاء إجماعاً .
وقال بعض العلماء : الصلاة من الله رحمة ومن النبي والملائكة دعاء ، ومن الناس عبادة ، والضمير في قوله { إنها } يحتمل أن يعود على النفقة وهذا في انعطاف { الصلوات } على { القربات } ، ويحتمل أن يعود على { الصلوات } وهذا في انعطافه على ما ينفق ، وقرأ نافع «قرُبة » بضم الراء ، واختلف عنه وعن عاصم والأعمش ، وقرأ الباقون «قرْبة » بسكون الراء ولم يختلف { قربات } ، ثم وعد تعالى بقوله { سيدخلهم الله في رحمته } الآية ، وروي أن هذه الآية نزلت في بني مقرن من مزينة وقاله مجاهد ، وأسند الطبري إلى عبد الرحمن بن مغفل بن مقرن أنه قال : كنا عشرة ولد مقرن ، فنزلت فينا { ومن الأعراب من يؤمن بالله } إلى آخر الآية .
قال القاضي أبو محمد : وقوله عشرة ولد مقرن يريد الستة أولاد مقرن لصلبة أو السبعة على ما في الاستيعاب من قول سويد بن مقرن ، وبنيهم لأن هذا هو الذي في مشهور دواوين أهل العلم .