تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ} (15)

{ 15 - 18 } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ }

يخاطب تعالى جميع الناس ، ويخبرهم بحالهم ووصفهم ، وأنهم فقراء إلى اللّه من جميع الوجوه :

فقراء في إيجادهم ، فلولا إيجاده إياهم ، لم يوجدوا .

فقراء في إعدادهم بالقوى والأعضاء والجوارح ، التي لولا إعداده إياهم [ بها ] ، لما استعدوا لأي عمل كان .

فقراء في إمدادهم بالأقوات والأرزاق والنعم الظاهرة والباطنة ، فلولا فضله وإحسانه وتيسيره الأمور ، لما حصل [ لهم ] من الرزق والنعم شيء .

فقراء في صرف النقم عنهم ، ودفع المكاره ، وإزالة الكروب والشدائد . فلولا دفعه عنهم ، وتفريجه لكرباتهم ، وإزالته لعسرهم ، لاستمرت عليهم المكاره والشدائد .

فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية ، وأجناس التدبير .

فقراء إليه ، في تألههم له ، وحبهم له ، وتعبدهم ، وإخلاص العبادة له تعالى ، فلو لم يوفقهم لذلك ، لهلكوا ، وفسدت أرواحهم ، وقلوبهم وأحوالهم .

فقراء إليه ، في تعليمهم ما لا يعلمون ، وعملهم بما يصلحهم ، فلولا تعليمه ، لم يتعلموا ، ولولا توفيقه ، لم يصلحوا .

فهم فقراء بالذات إليه ، بكل معنى ، وبكل اعتبار ، سواء شعروا ببعض أنواع الفقر أم لم يشعروا ، ولكن الموفق منهم ، الذي لا يزال يشاهد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه ، ويتضرع له ، ويسأله أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين ، وأن يعينه على جميع أموره ، ويستصحب هذا المعنى في كل وقت ، فهذا أحرى بالإعانة التامة من ربه وإلهه ، الذي هو أرحم به من الوالدة بولدها .

{ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } أي : الذي له الغنى التام من جميع الوجوه ، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه ، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق ، وذلك لكمال صفاته ، وكونها كلها ، صفات كمال ، ونعوت وجلال .

ومن غناه تعالى ، أن أغنى الخلق في الدنيا والآخرة ، الحميد في ذاته ، وأسمائه ، لأنها حسنى ، وأوصافه ، لكونها عليا ، وأفعاله لأنها فضل وإحسان وعدل وحكمة ورحمة ، وفي أوامره ونواهيه ، فهو الحميد على ما فيه ، وعلى ما منه ، وهو الحميد في غناه [ الغني في حمده ] .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ} (15)

قوله تعالى : " يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله " أي المحتاجون إليه في بقائكم وكل أحوالكم . الزمخشري : " فإن قلت لم عرف الفقراء ؟ قلت : قصد بذلك أن يريهم أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء ، وإن كانت الخلائق كلهم مفتقرين إليه من الناس وغيرهم لأن الفقر مما يتبع الضعف ، وكلما كان الفقير أضعف كان أفقر كلهم وقد شهد الله سبحانه على الإنسان بالضعف في قوله : " وخلق الإنسان ضعيفا " {[13131]} [ النساء : 28 ] ، وقال : " الله الذي خلقكم من ضعف " {[13132]} [ الروم : 54 ] ولو نكر لكان المعنى : أنتم بعض الفقراء . فإن قلت : قد قوبل " الفقراء " ب " الغني " فما فائدة " الحميد " ؟ قلت : لما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم ، وليس كل غني نافعا بغناه إلا إذا كان الغني جوادا منعما ، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم واستحق عليهم الحج ذكر " الحميد " ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه ، الجواد المنعم عليهم ، المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه " . وتخفيف الهمزة الثانية أجود الوجوه عند الخليل ، ويجوز تخفيف الأولى وحدها وتخفيفهما وتحقيقهما جميعا . " والله هو الغني الحميد " تكون " هو " زائدة ، فيكون لها موضع من الإعراب ، وتكون مبتدأة فيكون موضعها رفعا .


[13131]:راجع ج 5 ص 168.
[13132]:راجع ج 46 من هذا الجزء.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ} (15)

ولما اختص سبحانه بالملك ونفى عن شركائهم النفع ، أنتج ذلك قوله : { يا أيها الناس } أي كافة { أنتم } أي خاصة { الفقراء } أي لأنكم لاتساع معارفكم وسريان أفكاركم وانتشار عقولكم تكثر نوازعكم وتتفرق دواعيكم فيعظم احتياجكم لشدة ضعفكم وعجزكم عظماً يعد معه احتياج غيركم عدماً ، ولو نكر الخبر لم يفد هذا المعنى { إلى الله } أي الذي له جميع الملك ؛ قال القشيري : والفقر على ضربين : فقر خلقة ، وفقر صفة ، فالأول عام فكل حادث مفتقر إلى خالقه في أول حال وجوده ليبديه وينشيه ، وفي ثانية ليديمه ويبقيه ، وأما فقر الصفة فهو التجرد ، ففقر العوام التجرد من المال ، وفقر الخواص التجرد من الإعلال ، فحقيقة الفقر المحمود تجرد السر عن المعلولات .

ولما ذكر العبد بوصفه الحقيقي ، أتبعه ذكر الخالق باسمه الأعظم على قرب العهد بذكر الإشارة إلى الجهة التي بها وصف بما يذكر ، وهي الإحاطة بأوصاف الكمال فقال : { والله هو } أي وحده { الغني } أي الذي لا يتصور أن يحتاج لا إليكم ولا إلى عبادتكم ولا إلى شيء أصلاً . ولما كان الغنى من الخلق لا يسع غناه من يقصده ، وإن وسعهم لم يسعهم عطاؤه لخوف الفقر أو لغير ذلك من العوارض ، ولا يمكنه عموم النعمة في شيء من الأشياء فلا ينفك عن نوع ذم ، وكان الحمد كما قال الحرالي في شرح الأسماء : حسن الكلية بانتهاء كل أمر وجزء ، وبعض منها إلى غاية تمامه ، فمتى نقص جزء من كل عن غاية تمامه لم يكن ذلك الكل محموداً ، ولم يكن قائمه حميداً ، وكان الله قد خلق كل شيء كما ينبغي ، لم يعجل شيئاً عن إناه وقدره ، وكان الذم استنقاضاً يلحق بعض الأجزاء عند من لم يرها في كلها ولا رأى كلها ، فكان الذم لذلك لا يقع إلا متقيداً متى أخذ مقتطعاً من كل ، والحمد لا يقع إلا في كل لم يخرج عنه شيء ، فلا حمد في بعض ولا ذم في كل ، ولا حمد إلا في كل ، ولذلك قال الغزالي : الحميد من العباد من حمدت عوائده وأخلاقه وأعماله كلها من غير مثنوية .

وكان سبحانه قد أفاض نعمه على خلقه ، وأسبغها ظاهرة وباطنة ، وجعل لهم قدرة على تناولها . لا يعوق عنه إلا قدرته { وما كان عطاء ربك محظوراً } وكان لا ينقص ما عنده ، كان إعطاؤه حمداً ومنعه حمداً ، لأنه لا يكون مانعاً لغرض بل لحكمة تدق عن الأفكار فقال : { الحميد * } أي كل شيء بنعمته عنده والمستحق للحمد بذاته ،