وقيض اللّه ذلك الرجل الناصح ، وبادرهم إلى الإخبار لموسى بما اجتمع عليه رَأْيُ ملئهم . فقال : { وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى } أي : ركضا على قدميه من نصحه لموسى ، وخوفه أن يوقعوا به ، قبل أن يشعر ، ف { قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُون } أي : يتشاورون فيك { لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ } عن المدينة { إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ } فامتثل نصحه .
ثم إذا مشهد جديد . رجل يجيء إلى موسى من أقصى المدينة ، يحذره ائتمار الملأ من قوم فرعون به ، وينصح بالهرب من المدينة إبقاء على حياته :
( وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى . قال : يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك . فاخرج إني لك من الناصحين ) . .
إنها يد القدرة تسفر في اللحظة المطلوبة ، لتتم مشيئتها !
لقد عرف الملأ من قوم فرعون ، وهم رجال حاشيته وحكومته والمقربون إليه أنها فعلة موسى . وما من شك أنهم أحسوا فيها بشبح الخطر . فهي فعلة طابعها الثورة والتمرد ، والانتصار لبني إسرائيل . وإذن فهي ظاهرة خطيرة تستحق التآمر . ولو كانت جريمة قتل عادية ما استحقت أن يشتغل بها فرعون والملأ والكبراء . فانتدبت يد القدرة واحدا من الملأ . الأرجح أنه الرجل المؤمن من آل فرعون الذي يكتم إيمانه ، والذي جاء ذكره في سورة [ غافر ] انتدبته ليسعى إلى موسى ( من أقصى المدينة )في جد واهتمام ومسارعة ، ليبلغه قبل أن يبلغه رجال الملك : ( إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ، فاخرج إني لك من الناصحين ) . .
ولما اشتهر أن موسى قتل القتيل وكان قول الإسرائيلي يغلب على النفوس تصديقه على موسى مع ما كان لموسى من المقدمات أتى رأي فرعون وملئه على قتل موسى وذبحه ، غلب على نفس فرعون أنه المشار إليه بفساد المملكة فأنفذ فيه من يطلبه من جنده ويأتي به للقتل فخرج على الطريق الأعظم ، وأخذ رجل يقال إنه مؤمن آل فرعون ويقال إنه غير في بنيات الطريق{[1]} قصد إلى موضع موسى فبلغه قولهم له { إن الملأ } الآية ، و { يسعى } معناه يسرع في مشيه قال الزجاج وغيره وهو دون الجري ، وقال ابن جريج : معناه يعمل وليس بالشد .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذه نزعة مالك رحمه الله في سعي الجمعة ، والأول عندي أظهر في هذه الآية : و { يأتمرون } وزنه يفتعلون ويفتعلون يأتي كثيراً بمعنى يتفاعلون ، ومنه ازدوج بمعنى تزاوج ، وذهب ابن قتيبة إلى أنه بمعنى يأمر بعضهم بعضاً وقال : لو كان ذلك لكان يتآمرون .
قال الفقيه الإمام القاضي : وذهب عنه أن يفتعل بمعنى يتفاعل وفي القرآن { وأتمروا بينكم بمعروف }{[2]} [ الطلاق : 6 ] ، وقد قال النمر بن تولب : [ المتقارب ]
أرى الناس قد أحدثوا شيمة . . . وفي كل حادثة يؤتمر{[3]}
ما تأتمر فينا فأمرك في . . . يمينك أو شمالك{[4]}
ومنه قول ربيعة بن جشم : [ المقارب ]
أجار بن كعب كأني خمر . . . ويعدو على المرء ما يأتمر{[5]}
ظاهر النظم أن الرجل جاء على حين محاورة القبطي مع موسى فلذلك انطوى أمر محاورتهما إذ حدث في خلاله ما هو أهم منه وأجدى في القصة .
والظاهر أن أقصى المدينة هو ناحية قصور فرعون وقومه فإن عادة الملوك السكنى في أطراف المدن توقياً من الثورات والغارات لتكون مساكنهم أسعد بخروجهم عند الخوف . وقد قيل : الأطراف منازل الأشراف . وأما قول أبي تمام :
كانت هي الوسط المحمي فاتصلت *** بها الحوادث حتى أصبحت طرفا
فذلك معنى آخر راجع إلى انتقاص العمران كقوله تعالى { يقولون إن بيوتنا عورة } ( الأحزاب : 13 .
وبهذا يظهر وجه ذكر المكان الذي جاء منه الرجل وأن الرجل كان يعرف موسى .
و { الملأ } : الجماعة أولو الشأن ، وتقدم عند قوله تعالى { قال الملأ من قومه } أي نوح في [ الأعراف : 60 ] ، وأراد بهم أهل دولة فرعون : فالمعنى : أن أولي الأمر يأتمرون بك ، أي يتشاورون في قتلك . وهذا يقتضي أن القضية رفعت إلى فرعون وفي سفر الخروج في الإصحاح الثاني : « فسمع فرعون هذا الأمر فطلب أن يُقتل موسى » . ولما علم هذا الرجل بذلك أسرع بالخبر لموسى لأنه كان معجباً بموسى واستقامته . وقد قيل : كان هذا الرجل من بني إسرائيل . وقيل : كان من القبط ولكنه كان مؤمناً يكتم إيمانه ، لعل الله ألهمه معرفة فساد الشرك بسلامة فطرته وهيأه لإنقاذ موسى من يد فرعون .
والسعي : السير السريع ، وقد تقدم عند قوله { فإذا هي حية تسعى } في سورة [ طه : 20 ] . وتقدم بيان حقيقته ومجازه في قوله { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها } في سورة [ الإسراء : 19 ] . وجملة { يسعى } في موضع الحال من { رجل } الموصوف بأنه من { أقصى المدينة } . و { يأتمرون بك } يتشاورون . وضمن معنى ( يهمون ) فعدي بالباء فكأنه قيل : يأتمرون ويهمّون بقتلك .
وأصل الائتمار : قبول أمر الآمر فهو مطاوع أمره ، قال امرؤ القيس :
أي يضره ما يطيع فيه أمر نفسه . ثم شاع إطلاق الائتمار على التشاور لأن المتشاورين يأخذ بعضهم أمر بعض فيأتمر به الجميع ، قال تعالى { وائتمروا بينكم بمعروف } [ الطلاق : 6 ] .
وجملة { قال يا موسى } بدل اشتمال من جملة { جاء رجل } لأن مجيئه يشتمل على قوله ذلك .
ومتعلق الخروج محذوف لدلالة المقام ، أي فاخرج من المدينة .
وجملة { إني لك من الناصحين } تعليل لأمره بالخروج . واللام في قوله { لك من الناصحين } صلة ، لأن أكثر ما يستعمل فعل النصح معدى باللام . يقال : نصحت لك قال تعالى { إذا نصحوا لله ورسوله } في سورة [ التوبة : 91 ] ووهماً قالوا : نصحتك . وتقديم المجرور للرعاية على الفاصلة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.