فإن شككتم في ذلك ، أو ارتبتم ، فسيروا في الأرض ، ثم انظروا ، كيف كان عاقبة المكذبين ، فلن تجدوا إلا قوما مهلكين ، وأمما في المثلات تالفين ، قد أوحشت منهم المنازل ، وعدم من تلك الربوع كل متمتع بالسرور نازل ، أبادهم الملك الجبار ، وكان بناؤهم عبرة لأولي الأبصار . وهذا السير المأمور به ، سير القلوب والأبدان ، الذي يتولد منه الاعتبار . وأما مجرد النظر من غير اعتبار ، فإن ذلك لا يفيد شيئا .
ومما يستدعي الانتباه ذلك التوجيه القرآني :
( قل : سيروا في الأرض ، ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) . .
والسير في الأرض للاستطلاع والتدبر والاعتبار ؛ ولمعرفة سنن الله مرتسمة في الأحداث ، والوقائع ؛ مسجلة في الآثار الشاخصة ، وفي التاريخ المروي في الأحاديث المتداولة حول هذه الآثار في أرضها وقومها . . السير على هذا النحو ، لمثل هذا الهدف ، وبمثل هذا الوعي . . أمور كلها كانت جديدة على العرب ؛ تصور مدى النقلة التي كان المنهج الإسلامي الرباني ينقلهم إليها من جاهليتهم إلى هذا المستوى من الوعي والفكر والنظر والمعرفة .
لقد كانوا يسيرون في الأرض ، ويتنقلون في أرجائها للتجارة والعيش ، وما يتعلق بالعيش من صيد ورعي . . أما أن يسيروا وفق منهج معرفي تربوي . . فهذا كان جديدا عليهم . وكان هذا المنهج الجديد يأخذهم به ؛ وهو يأخذ بأيديهم من سفح الجاهلية ، في الطريق الصاعد ، إلى القمة السامقة التي بلغوا إليها في النهاية .
ولقد كان تفسير التاريخ الإنساني وفق قواعد منهجية كهذة التي كان القرآن يوجه إليها العرب ؛ ووفق سنن مطردة تتحقق آثارها كلما تحققت أسبابها - بإذن الله - ويستطيع الناس ملاحظتها ؛ وبناء تصوراتهم للمقدمات والنتائج عليها ؛ ومعرفة مراحلها وأطوارها . . كان هذا المنهج برمته في تفسير التاريخ شيئا جديدا على العقل البشري كله في ذلك الزمان . إذ كان قصارى ما يروى من التاريخ وما يدون من الأخبار ، مجرد مشاهدات أو روايات عن الأحداث والعادات والناس ؛ لا يربط بينها منهج تحليلي أو تكويني يحدد الترابط بين الأحداث ، كما يحدد الترابط بين المقدمات والنتائج ، وبين المراحل والأطوار . . فجاء المنهج القرآني ينقل البشرية إلى هذا الأفق ؛ ويشرع لهم منهج النظر في أحداث التاريخ الإنساني . وهذا المنهج ليس مرحلة في طرائق الفكر والمعرفة . إنما هو " المنهج " . . هو الذي يملك وحده إعطاء التفسير الصحيح للتاريخ الإنساني .
والذين يأخذهم الدهش والعجب للنقلة الهائلة التي انتقل إليها العرب في خلال ربع قرن من الزمان على عهد الرسالة المحمدية ، وهي فترة لا تكفي إطلاقا لحدوث تطور فجائي في الأوضاع الاقتصادية ، سيرتفع عنهم الدهش ويزول العجب ، لو أنهم حولوا انتباههم من البحث في العوامل الاقتصادية ؛ ليبحثوا عن السر في هذا المنهج الرباني الجديد ، الذي جاءهم به محمد [ ص ] من عند الله العليم الخبير . . ففي هذا المنهج تكمن المعجزة ، وفي هذا المنهج يكمن السر الذي يبحثون عنه طويلا عند الإله الزائف الذي أقامته المادية حديثا . . إله الاقتصاد . .
وإلا فأين هو التحول الاقتصادي المفاجئ في الجزيرة العربية ؛ الذي ينشى ء من التصورات الاعتقادية ونظام الحكم ، ومناهج الفكر ، وقيم الأخلاق ، وآماد المعرفة ، وأوضاع المجتمع ، كل هذا الذي نشأ في ربع قرن من الزمان ؟ !
( قل روا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) .
إلى جانب اللفتة التي جاءت في صدر هذه الموجة من قوله تعالى : ( ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ، وأرسلنا السماء عليهم مدرارا ، وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم ، فأهلكناهم بذنوبهم ، وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ) . .
إلى جانب أمثالها في هذه السورة وفي القرآن كله لتؤلف جانبا من منهج جديد جدة كاملة على الفكر البشري . وهو منهج باق . ومنهج كذلك فريد . .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.