( إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ، ويخرج أضغانكم ) . .
وهذا النص يوحي بحكمة اللطيف الخبير ، كما يوحي برحمته ولطفه بالنفوس . ويكشف عن التقدير الدقيق في تكاليف هذا الدين ، ومراعاته للفطرة ، وتناسقه مع بشرية البشر بكل استعداداتها ، وطاقاتها ، وأحوالها . فهو عقيدة ربانية لإنشاء نظام رباني إنساني . نظام رباني من ناحية أن الله هو الذي يقيم منهجه وقواعده ؛ وإنساني من ناحية أن الله يراعي في تكاليفه طاقة الإنسان وحاجته . والله هو الذي خلق ، وهو أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير .
{ إن يسألكموها فيحفكم } فيجهدكم بطلب الكل والإحفاء والإلحاف المبالغة وبلوغ الغاية يقال : أحفى شاربه إذ أستأصله . { تبخلوا } فلا تعطوا . { ويخرج أضغانكم } ويضغنكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم والضمير في يخرج لله تعالى ، ويؤيده القراءة بالنون أو البخل لأنه سبب الإضغان ، وقرئ " وتخرج " بالتاء والياء ورفع { أضغانكم } .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: حاضا عباده المؤمنين على جهاد أعدائه، والنفقة في سبيله، وبذل مهجتهم في قتال أهل الكفر به: قاتلوا أيها المؤمنون أعداء الله وأعداءكم من أهل الكفر، ولا تدعكم الرغبة في الحياة إلى ترك قتالهم، فإنما الحياة الدنيا لعب ولهو، إلا ما كان منها لله من عمل في سبيله، وطلب رضاه. فأما ما عدا ذلك فإنما هو لعب ولهو، يضمحلّ فيذهب ويندرس فيمرّ، أو إثم يبقى على صاحبه عاره وخزيه. "وَإنْ تُؤْمِنوا وَتَتّقُوا يُؤْتِكُمْ أجُورَكُمْ "يقول: وإن تعملوا في هذه الدنيا التي ما كان فيها مما هو لها، فلعب ولهو، فتؤمنوا به وتتقوه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، وهو الذي يبقى لكم منها، ولا يبطل بطول اللهو واللعب، ثم يؤتكم ربكم عليه أجوركم، فيعوّضكم منه ما هو خير لكم منه يوم فقركم، وحاجتكم إلى أعمالكم. "وَلا يَسألْكُمْ أمْوَالَكُمْ" يقول: ولا يسألكم ربكم أموالكم، ولكنه يكلفكم توحيده، وخلع ما سواه من الأنداد، وإفراد الألوهة والطاعة له.
"إن يسألكموها": يقول جلّ ثناؤه: إن يسألكم ربكم أموالكم "فيحفكم" يقول: فيجهدكم بالمسألة، ويلحّ عليكم بطلبها منكم فيلحف، "تبخلوا": يقول: تبخلوا بها وتمنعوها إياه، ضنا منكم بها، ولكنه علم ذلك منكم، ومن ضيق أنفسكم فلم يسألكموها.
وقوله: "ويُخْرِجْ أضْغانَكُمْ" يقول: ويخرج جلّ ثناؤه لو سألكم أموالكم بمسألته ذلك منكم أضغانكم، قال: قد علم الله أن في مسألته المال خروج الأضغان...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن يسألكموها فيُحفكم} لو يسألكم جميع أموالكم لحملكم ذلك على البخل وترك الإنفاق. فإن يسألكم الإنفاق من جزء من أموالكم فلماذا بخلتم، وتركتم الإنفاق؟ وقوله تعالى: {فيُحفكم تبخلوا} يخرّج على [وجهين:
أحدهما: أن يحملكم على البخل لو سألكم جميع أموالكم.
والثاني: {فيُحفكم} أي فيجعلكم حفاة، لا شيء يبقى عندكم. الإحفاء أن يُؤخذ كل شيء عنده، هو من الاستئصال، ومنه إحفاء الشوارب...
{ويُخرج أضغانكم} أي لو أمر بالإنفاق من جميع أموالكم أو من أموالكم حقيقة لظهر ذلك من أضغانكم التي في قلوبكم لأن ذلك الأمر إنما يجري على ألسن الرسل، فيوجب ذلك إظهار ما في قلوبهم من الضغائن للرسل عليهم السلام. فإن كان التأويل هذا فهو في المنافقين، فيكون الأمر بالإنفاق سبب إظهار نفاقهم وضغائنهم وعداوتهم، فكان كالأمر بالقتال، كأنه سبب إظهار نفاقهم. وإن كان في المسلمين فيحتمل أنه قال ذلك تحريصا لهم على الإنفاق والتصدُّق، كأنه سبب إخراج الضغائن والعداوة لما فيه من التحبّب والتودّد بإيصال ما هو محبوب إليه، والله أعلم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{إِن يَسْأَلكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الإحفاء أخذ الجميع...الثاني: أنه الإلحاح وإكثار السؤال، مأخوذ من الحفاء وهو المشي بغير حذاء...
. الثالث: أن معنى فيحفكم أي فيجدكم تبخلوا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِن يَسْألْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ} أي يجهدكم ويطلبه كله، والإحفاء: المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء، يقال: أحفاه في المسألة إذا لم يترك شيئاً من الإلحاح. وأحفى شاربه: إذا استأصله {تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أضغانكم} أي تضطغنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتضيق صدوركم لذلك، وأظهرتم كراهتكم ومقتكم لدين يذهب بأموالكم، والضمير في {يُخْرِجَ} لله عز وجل، أي يضغنكم بطلب أموالكم. أو للبخل؛ لأنه سبب الاضطغان،...
الفاء في قوله {فيحفكم} للإشارة إلى أن الإحفاء يتبع السؤال بيانا لشح الأنفس، وذلك لأن العطف بالواو قد يكون للمثلين وبالفاء لا يكون إلا للمتعاقبين أو متعلقين أحدهما بالآخر فكأنه تعالى بين أن الإحفاء يقع عقيب السؤال لأن الإنسان بمجرد السؤال لا يعطي شيئا وقوله {تبخلوا ويخرج أضغانكم} يعني ما طلبها ولو طلبها وألح عليكم في الطلب لبخلتم، كيف وأنتم تبخلون باليسير لا تبخلون بالكثير وقوله {ويخرج أضغانكم} يعني بسببه فإن الطالب وهو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يطلبونكم وأنتم لمحبة المال وشح الأنفس تمتنعون فيفضي إلى القتال وتظهر به الضغائن...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أن يسئلكموها} أي الأموال كلها، ولما كانت الأموال قد تطلق على معظمها، حقق المعنى بقوله: {فيحفكم} أي يبالغ في سؤالكم ويبلغ فيه الغاية حتى يستأصلها فيجهدكم بذلك {تبخلوا} فلا تعطوا شيئاً {ويخرج} أي الله أو المصدر المفهوم من "تبخلوا "بذلك السؤال {أضغانكم} أي ميلكم عنه حتى يكون آخر ذلك عداوة وحقداً، وقد دل إضافة الأضغان إلى ضميرهم أن كل إنسان ينطوي بما له من النقصان، على ما جبل عليه من الأضغان، إلا من عصم الرحيم الرحمن...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذا النص يوحي بحكمة اللطيف الخبير، كما يوحي برحمته ولطفه بالنفوس. ويكشف عن التقدير الدقيق في تكاليف هذا الدين، ومراعاته للفطرة، وتناسقه مع بشرية البشر بكل استعداداتها، وطاقاتها، وأحوالها. فهو عقيدة ربانية لإنشاء نظام رباني إنساني. نظام رباني من ناحية أن الله هو الذي يقيم منهجه وقواعده؛ وإنساني من ناحية أن الله يراعي في تكاليفه طاقة الإنسان وحاجته. والله هو الذي خلق، وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {إنْ يسألكموها} الخ تعليل لنفي سؤاله إياهم أموالهم، أي لأنه إن سألكم إعطاء جميع أموالكم وقد علم أن فيكم من يسمح بالمال لا تبْخلوا بالبذل وتجعلوا تكليفكم بذلك سبباً لإظهار ضغنكم على الذين لا يعطون فيَكثر الارتداد والنفاق وذلك يخالف مراد الله من تزكية نفوس الداخلين في الإيمان. وهذا مراعاة لحال كثير يومئذٍ بالمدينة كانوا حديثي عهد بالإسلام وكانوا قد بذلوا من أموالهم للمهاجرين فيسَّر الله عليهم بأن لم يسألهم زيادة على ذلك، وكان بينهم كثير من أهل النفاق يترصدون الفرص لفتنتهم...
. {ويُخرج أضغانكم} أي تحدث فيكم أضغان فيكون سؤاله أموالكم سبباً في ظهورها فكأنه أظهرها. وهذه الآية أصل في سد ذريعة الفساد...
الضغن: العداوة، وتقدم آنفاً عند قوله {أن لن يخرج الله أضغانهم} [محمد: 29]. والمعنى: يمنعوا المال ويظهروا العصيان والكراهية، فلطفُ الله بالكثير منهم اقتضى أن لا يسألهم مالاً على وجه الإلزام ثم زال ذلك شيئاً فشيئاً لما تمكن الإيمان من قلوبهم فأوجب الله عليهم الإنفاق في الجهاد...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وخلاصة القول: فإنّ الآية تبيّن التعلّق الشديد لكثير من الناس بالأُمور المالية، وهي في الحقيقة نوع من اللوم ولتوبيخ لهؤلاء، وفي نفس الوقت ترغيب في ترك هذا الارتباط، وتشويق إلى هذا المعنى، فإنّ تعلّقهم بلغ حدّاً أنّ الله سبحانه إذا سألهم شيئاً من أموالهم فإنّهم يغضبون ويحقدون عليه! وبذلك فإنّ الآية تريد أن توقظ أرواح البشر الغاطّة في نومها العميق بسوط التقريع والملامة والعتاب، ليرفعوا عن أعناقهم قيود الذل والعبودية للأموال، ويصبحوا في حال يضحّون عندها بكلّ ما لديهم في سبيل الله، ويقدّمون ما عندهم بين يديه، ولا يرجون في مقابل ما يعطون إلاّ الإيمان به وتقواه ورضاه عنهم...