وأقام تعالى الأدلة على تلك الدار وأذاق العباد نموذجا من الثواب والعقاب العاجل ليكون أدعى لهم إلى طلب المحبوب والهرب من المرهوب ، ولهذا قال هنا : { مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقّ } أي : لا عبثا ولا سدى بل ليعرف العباد عظمة خالقهما ويستدلوا على كماله ويعلموا أن الذي خلقهما على عظمهما قادر على أن يعيد العباد بعد موتهم للجزاء وأن خلقهما وبقاءهما مقدر إلى { أَجَلٍ مُسَمًّى }
فلما أخبر بذلك -وهو أصدق القائلين وأقام الدليل وأنار السبيل أخبر -مع ذلك- أن طائفة من الخلق قد أبوا إلا إعراضا عن الحق ، وصدوفا عن دعوة الرسل فقال : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ } وأما الذين آمنوا فلما علموا حقيقة الحال قبلوا وصايا ربهم ، وتلقوها بالقبول والتسليم وقابلوها بالانقياد والتعظيم ففازوا بكل خير ، واندفع عنهم كل شر .
وخلق السماوات والأرض وما بينهما متلبس بالحق : ( ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ) . . وبالتقدير الدقيق : ( وأجل مسمى )تتحقق فيه حكمة الله من خلقه ، ويتم فيه ما قدره له من غاية .
وكلا الكتابين مفتوح ، معروض على الأسماع والأنظار ، ينطق بقدرة الله ، ويشهد بحكمته ، ويشي بتدبيره وتقديره ، ويدل كتاب الكون على صدق الكتاب المتلو ، وما فيه من إنذار وتبشير . . ( والذين كفروا عما أنذروا معرضون ) . . وهذا هو العجب المستنكر في ظل تلك الإشارة إلى الكتاب المنزل والكتاب المنظور !
والكتاب المنزل المتلو يقرر أن الله واحد لا يتعدد ، وأنه رب كل شيء ، بما أنه خالق كل شيء ، ومدبر كل شيء ، ومقدر كل شيء . وكتاب الكون الحي ينطق بهذه الحقيقة ذاتها ؛ فنظامه وتنسيقه وتناسقه كلها تشهد بوحدانية الصانع المقدر المدبر ، الذي يصنع على علم ، ويبدع على معرفة ، وطابع الصنعة واحد في كل ما يصنع وما يبدع . فأنى يتخذ الناس آلهة من دونه ? وماذا صنع هؤلاء الآلهة وماذا أبدعوا ? وهذا هو الكون قائما معروضا على الأنظار والقلوب ؛ فماذا لهم فيه ? وأي قسم من أقسامه أنشأوه ?
ثم قال : { مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ } أي : لا على وجه العبث والباطل ، { وَأَجَلٌ مُسَمًّى } أي : إلى مدة معينة مضروبة لا تزيد ولا تنقص .
قوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ } أي : لاهون{[26374]} عما يراد بهم ، وقد أنزل إليهم كتابا وأرسل إليهم رسول ، وهم معرضون عن ذلك كله ، أي : وسيعلمون غبّ ذلك .
وقوله : { ما خلقنا السماوات } الآية موعظة وزجر ، أي فانتبهوا أيها الناس وانظروا ما يراد بكم ولم خلقتم . وقوله تعالى : { إلا بالحق } معناه بالواجب الحسن الذي قد حق أن يكون ، وب { أجل مسمى } : وقتناه وجعلناه موعداً لفساد هذه البنية وذلك هو يوم القيامة . وقوله تعالى : { عما أُنذروا } «ما » مصدرية ، والمعنى عن الإنذار ، ويحتمل أن تكون «ما » بمعنى الذي ، والتقدير : عن ذكر الذي أنذروا به والتحفظ منه أو نحو هذا .
لما كان من أهم ما جاء به القرآن إثباتُ وحدانية الله تعالى ، وإثباتُ البعث والجزاء ، لتوقف حصول فائدة الإنذار على إثباتهما ، جُعِل قوله : { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } [ الأحقاف : 2 ] تمهيداً للاستدلال على إثبات الوحدانية والبعث والجزاء ، فجُعل خلق السماوات والأرض محل اتفاق ، ورتب عليه أنه ما كان ذلك الخَلق إلا ملابساً للحق ، وتقتضي ملابسته للحق أنه لا يكون خلْقاً عبثاً بل هو دال على أنه يعقبه جزاء على ما يفعله المخلوقون . واستثناءُ { بالحق } من أحوال عامة ، أي ما خلقناهما إلا في حالة المصاحبة للحق .
وقوله : { والذين كفروا عما أنذروا معرضون } في موضع الحال من الضمير المقدر في متعلّق الجار والمجرور من قوله : { بالحق } ، فيكون المقصود من الحال التعجيب منهم وليس ذلك عطفاً لأن الإخبار عن الذين كفروا بالإعراض مستغنى عنه إذ هو معلوم ، والتقدير : إلا خلقاً كائناً بملابسة الحق في حال إعراض الذين كفروا عما أنذروا به مما دل عليه الخلق بالحق .
وصاحب الحال هو { السماوات والأرض } ، والمعنى : ما خلقناهما إلا في حالة ملابسة الحق لهما وتعيين أجل لهما . وإعراض الذين كفروا عما أنذروا به من آيات القرآن التي تذكرهم بما في خلق السماوات والأرض من ملابسة الحق .
وعطف { وأجل مسمى } على { بالحق } ، عطفُ الخاص على العام للاهتمام به كعطف جبريل وميكائيل على ملائكته في قوله تعالى : { وملائِكتهِ ورسله وجبريل وميكائيل } في سورة البقرة ( 98 ) لأن دلالة الحدوث على قبول الفناء دلالة عقلية فهي ممّا يقتضيه الحق ، وأن تعرض السماوات والأرض للفناء دليل على وقوع البعث لأن انعدام هذا العالم يقتضي بمقتضى الحكمة أن يخلفه عالم آخر أعظم منه ، على سنة تدرج المخلوقات في الكمال ، وقد كان ظن الدهريين قدمَ هذا العالم وبقاءَه أكبر شبهة لهم في إنكارهم البعث { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيَا وما يُهلكنا إلا الدهر } [ الجاثية : 24 ] . فالدهر عندهم متصرف وهو باق غير فان ، فلو جوزوا فناء هذا العالم لأمكن نزولهم إلى النظر في الأدلة التي تقتضي حياة ثانية . فجملة { والذين كفروا عما أنذروا معرضون } مرتبطة بالاستثناء في قوله : { إلا بالحق } ، أي هم معرضون عما أنذروا به من وعيد يوم البعث .
وحذف العائد من الصلة لأنه ضمير منصوب ب { أنذروا } . والتقدير : عما أنذروه معرضون . ويجوز أن تكون { ما } مصدرية فلا يقدر بعدها ضمير . والتقدير عن إنذارهم معرضون فشمل كل إنذار أنذروه .
وتقديم { عما أنذروا } على متعلقه وهو { معرضون } للاهتمام بما أنذروا ويتبع ذلك رعاية الفاصلة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.