استجاب الله دعوة خليله إبراهيم ، وهو يتوجه إليه عقب بناء البيت وتطهيره : ( رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات ) . . فجعل هذا البيت آمنا ، وجعله عتيقا من سلطة المتسلطين وجبروت الجبارين ؛ وجعل من يأوي إليه آمنا والمخافة من حوله في كل مكان . . حتى حين انحرف الناس وأشركوا بربهم وعبدوا معه الأصنام . . لأمر يريده سبحانه بهذا البيت الحرام .
ولما توجه أصحاب الفيل لهدمه كان من أمرهم ما كان ، مما فصلته سورة الفيل . وحفظ الله للبيت أمنه ، وصان حرمته ؛ وكان من حوله كما قال الله فيهم : ( أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ? ) .
وقد كان لحادث الفيل أثر مضاعف في زيادة حرمة البيت عند العرب في جميع أنحاء الجزيرة ، وزيادة مكانة أهله وسدنته من قريش ، مما ساعدهم على أن يسيروا في الأرض آمنين ، حيثما حلوا وجدوا الكرامة والرعاية ، وشجعهم على إنشاء خطين عظيمين من خطوط التجارة - عن طريق القوافل - إلى اليمن في الجنوب ، وإلى الشام في الشمال . وإلى تنظيم رحلتين تجاريتين ضخمتين : إحداهما إلى اليمن في الشتاء ، والثانية إلى الشام في الصيف .
ومع ما كانت عليه حالة الأمن في شعاب الجزيرة من سوء ؛ وعلى ما كان شائعا من غارات السلب والنهب ، فإن حرمة البيت في أنحاء الجزيرة قد كفلت لجيرته الأمن والسلامة في هذه التجارة المغرية ، وجعلت لقريش بصفة خاصة ميزة ظاهرة ؛ وفتحت أمامها أبواب الرزق الواسع المكفول ، في أمان وسلام وطمأنينة . وألفت نفوسهم هاتين الرحلتين الآمنتين الرابحتين ، فصارتا لهم عادة وإلفا !
هذه هي المنة التي يذكرهم الله بها - بعد البعثة - كما ذكرهم منة حادث الفيل في السورة السابقة ، منة إيلافهم رحلتي الشتاء والصيف ، ومنة الرزق الذي أفاضه عليهم بهاتين الرحلتين - وبلادهم قفرة جفرة وهم طاعمون هانئون من فضل الله . ومنة أمنهم الخوف . سواء في عقر دارهم بجوار بيت الله ، أم في أسفارهم وترحالهم في رعاية حرمة البيت التي فرضها الله وحرسها من كل اعتداء .
يذكرهم بهذه المنن ليستحيوا مما هم فيه من عبادة غير الله معه ؛ وهو رب هذا البيت الذي يعيشون في جواره آمنين طاعمين ؛ ويسيرون باسمه مرعيين ويعودون سالمين . .
يقول لهم : من أجل إيلاف قريش : رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي كفل لهم الأمن فجعل نفوسهم تألف الرحلة ، وتنال من ورائها ما تنال ( فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع ) . . وكان الأصل - بحسب حالة أرضهم - أن يجوعوا ، فأطعمهم الله وأشبعهم من هذا الجوع ( وآمنهم من خوف ) . . وكان الأصل - بحسب ما هم فيه من ضعف وبحسب حالة البيئة من حولهم - أن يكونوا في خوف فآمنهم من هذا الخوف !
وهو تذكير يستجيش الحياء في النفوس . ويثير الخجل في القلوب . وما كانت قريش تجهل قيمة البيت وأثر حرمته في حياتها . وما كانت في ساعة الشدة والكربة تلجأ إلا إلى رب هذا البيت وحده . وها هو ذا عبد المطلب لا يواجه أبرهة بجيش ولا قوة . إنما يواجهه برب هذا البيت الذي يتولى حماية بيته ! لم يواجهه بصنم ولا وثن ، ولم يقل له . . إن الآلهة ستحمي بيتها . إنما قال له : " أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه " . . ولكن انحراف الجاهلية لا يقف عند منطق ، ولا يثوب إلى حق ، ولا يرجع إلى معقول .
ثم أرشدهم إلى شكر هذه النعمة العظيمة فقال : { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ } أي : فليوحدوه بالعبادة ، كما جعل لهم حرما آمنا وبيتا محرما ، كما قال تعالى : { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [ النمل : 91 ]
وقوله : { فَلْيَعْبُدُوا رَبّ هَذَا الْبَيْتِ } يقول : فليقيموا بموضعهم ووطنهم من مكة ، وليعبدوا ربّ هذا البيت ، يعني بالبيت : الكعبة ، كما :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مُغيرة ، عن إبراهيم ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلى المغرب بمكة ، فقرأ : { لإيلافِ قُرَيْشٍ } فلما انتهى إلى قوله : { فَلْيَعْبُدُوا رَبّ هَذَا الْبَيْتِ } أشار بيده إلى البيت .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عامر بن إبراهيم الأصبهانيّ ، قال : حدثنا خطاب بن جعفر بن أبي المغيرة ، قال : ثني أبي ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، في قوله { فَلْيَعْبُدُوا رَبّ هَذَا الْبَيْتِ } قال : الكعبة .
وقال بعضهم : أُمِروا أن يألفوا عبادة ربّ مكة كإلفهم الرحلتين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الاَمُلِيّ ، قال : حدثنا مروان ، عن عاصم الأحول ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، في قول الله : { لإيلافِ قُرَيْشٍ } قال : أُمروا أن يألفوا عبادة ربّ هذا البيت ، كإلفهم رحلة الشتاء والصيف .
ثم أمرهم بالعبادة بعد ، وأعلمهم أن الله تعالى هو الذي { أطعمهم } { وآمنهم } لا سفرهم ، المعنى : فليعبدوا الذي أطعمهم بدعوة إبراهيم حيث قال : { وارزقهم من الثمرات }{[1]} ، وآمنهم بدعوته حيث قال : { رب اجعل هذا البلد آمناً }{[2]} [ إبراهيم : 35 ] ولا يشتغلوا بالأسفار التي إنما هي طلب كسب وعرض دنيا ، وقال النقاش : كانت لهم أربع رحل ، وهذا قول مردود . وقال عكرمة : معنى الآية كما ألفوا هاتين الرحلتين لدنياهم { فليعبدوا رب هذا البيت } لآخرتهم ، وقال قتادة : إنما عددت عليهم الرحلتان ؛ لأنهم كانوا يأمنون الناس في سفرتهم ، والناس بغير بعضهم على بعض ، ولا يمكن قبيلاً من العرب أن يرحل آمناً ، كما تفعل قريش ، فالمعنى فليعبدوا الذي خصهم بهذه الحال فأطعمهم وآمنهم ، وقوله تعالى : { من جوع } معناه أن أهل مكة قاطنون بواد غير ذي زرع عرضة للجوع والجدب لولا لطف الله تعالى ، وأن جعلها بدعوة إبراهيم تجبى إليها ثمرات كل شيء ، وقوله تعالى : { من خوف } أي جعلهم لحرمة البيت مفضلين عند العرب يأمنون والناس خائفون ، ولولا فضل الله تعالى في ذلك لكانوا بمدارج المخاوف ، وقال ابن عباس والضحاك : { من خوف } معناه من الجذام فلا ترى بمكة مجذوماً .
وقد تقدم آنفاً الكلام على معنى الفاء من قوله : { فليعبدوا رب هذا البيت } على الوجوه كلها .
والعبادة التي أُمروا بها عبادة الله وحده دون إشراك الشركاء معه في العبادة لأن إشراك من لا يستحق العبادة مع الله الذي هو الحقيق بها ليس بعبادة أو لأنهم شُغلوا بعبادة الأصنام عن عبادة الله فلا يذكرون الله إلا في أيام الحج في التلبية على أنهم قد زاد بعضهم فيها بعد قولهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تَملِكُه ومَا مَلَك .
وتعريف { رب } بالإضافة إلى { هذا البيت } دون أن يقال : فليعبدوا الله لما يومىء إليه لفظ { رب } من استحقاقه الإِفراد بالعبادة دون شريك .
وأوثر إضافة { رب } إلى { هذا البيت } دون أن يقال : ربهم للإِيماء إلى أن البيت هو أصل نعمة الإِيلاف بأن أمر إبراهيم ببناء البيت الحرام فكان سبباً لرفعة شأنهم بين العرب قال تعالى : { جعل اللَّه الكعبة البيت الحرام قياماً للناس } [ المائدة : 97 ] وذلك إدماج للتنويه بشأن البيت الحرام وفضله .
والإِشارة إليه لأنه بذلك العهد كان كالحاضر في مقام الكلام على أن البيت بهذا التعريف باللام صار علماً بالغلبة على الكعبة ، و« رب البيت » هو الله والعرب يعترفون بذلك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال :{ فليعبدوا رب هذا البيت } لأن رب هذا البيت كفاهم مؤنة الخوف والجوع ، فليألفوا العبادة له ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{ فَلْيَعْبُدُوا رَبّ هَذَا الْبَيْتِ } يقول : فليقيموا بموضعهم ووطنهم من مكة ، وليعبدوا ربّ هذا البيت ، يعني بالبيت : الكعبة ، وقال بعضهم : أُمِروا أن يألفوا عبادة ربّ مكة كإلفهم الرحلتين .
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{ فَلْيَعْبدوا ربَّ هذا البَيْتِ } أمرهم الله تعالى بعبادته ، وفي تعريف نفسه لهم بأنه رب هذا البيت وجهان :
أحدهما : لأنه كانت لهم أوثان ، فميز نفسه عنها .
الثاني : لأنهم بالبيت شرفوا على سائر العرب ، فذكر لهم ذلك تذكيراً بنعمته .
وفي معنى هذا الأمر والضمير في دخول الفاء على قوله " فليعبدوا " أربعة أوجه : أحدها : فليعبدوا رب هذا البيت بأنه أنعم عليهم برحلة الشتاء والصيف .
الثاني : فليألفوا عبادة رب هذا البيت كما ألفوا رحلة الشتاء والصيف .
الثالث : فليعبدوا رب هذا البيت ؛ لأنه أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف .
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أمرهم بالعبادة بعد ، وأعلمهم أن الله تعالى هو الذي { أطعمهم } { وآمنهم } لا سفرهم ، المعنى : فليعبدوا الذي أطعمهم بدعوة إبراهيم حيث قال : { وارزقهم من الثمرات } ، وآمنهم بدعوته حيث قال : { رب اجعل هذا البلد آمناً } [ إبراهيم : 35 ] ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ فليعبدوا } أي قريش على سبيل الوجوب شكراً على هذه النعمة ، خاصة إن لم يشكروه على جميع نعمه التي لا تحصى ؛ لأنهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان ، وأبعدهم عن الكفران { رب هذا البيت } أي الموجد له ، والمحسن إلى أهله بتربيتهم به ، وبحفظه من كل طاغ ....والمراد به الكعبة ، عبر عنها بالإشارة تعظيماً إشارة إلى أن ما تقدم في السورة الماضية من المدافعة عنهم معروف أنه بسببه لا يحتاج إلى تصريح ، وأن ذلك جعله متصوراً في كل ذهن حاضراً مشاهداً لكل مخاطب ، وفي هذا التلويح من التعظيم ما ليس للتصريح . ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وتعريف { رب } بالإضافة إلى { هذا البيت } دون أن يقال : فليعبدوا الله لما يومئ إليه لفظ { رب } من استحقاقه الإِفراد بالعبادة دون شريك . وأوثر إضافة { رب } إلى { هذا البيت } دون أن يقال : ربهم للإِيماء إلى أن البيت هو أصل نعمة الإِيلاف بأن أمر إبراهيم ببناء البيت الحرام فكان سبباً لرفعة شأنهم بين العرب قال تعالى : { جعل اللَّه الكعبة البيت الحرام قياماً للناس } [ المائدة : 97 ] وذلك إدماج للتنويه بشأن البيت الحرام وفضله . والبيت معهود عند المخاطبين . والإِشارة إليه لأنه بذلك العهد كان كالحاضر في مقام الكلام على أن البيت بهذا التعريف باللام صار علماً بالغلبة على الكعبة ، و« رب البيت » هو الله والعرب يعترفون بذلك . ...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
دعوة من الله لقريش أن يشكروا نعمته عليهم ، وأن يطهروا بيته الحرام من الأصنام والأوثان ، إذ " البيت الحرام " بيت الله ، ولا رب للبيت يستحق العبادة سواه ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ هذه النعم الإلهية التي أغدقت على قريش ببركة الكعبة يجب أن تدفعهم إلى عبادة ربّ البيت لا الأوثان .