{ 1 - 7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ }
يقول تعالى ذامًا لمن ترك حقوقه وحقوق عبادة : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ } أي : بالبعث والجزاء ، فلا يؤمن بما جاءت به الرسل .
هذه السورة مكية في بعض الروايات ، ومكية مدنية في بعض الروايات [ الثلاث الآيات الأولى مكية والباقيات مدنية ] وهذه الأخيرة هي الأرجح . وإن كانت السورة كلها وحدة متماسكة ، ذات اتجاه واحد ، لتقرير حقيقة كلية من حقائق هذه العقيدة ، مما يكاد يميل بنا إلى اعتبارها مدنية كلها ، إذ أن الموضوع التي تعالجه هو من موضوعات القرآن المدني - وهو في جملته يمت إلى النفاق والرياء مما لم يكن معروفا في الجماعة المسلمة في مكة . ولكن قبول الروايات القائلة بأنها مكية مدنية لا يمتنع لاحتمال تنزيل الآيات الأربع الأخيرة في المدينة وإلحاقها بالآيات الثلاث الأولى لمناسبة التشابه والاتصال في الموضوع . . وحسبنا هذا لنخلص إلى موضوع السورة وإلى الحقيقة الكبيرة التي تعالجها . .
إن هذه السورة الصغيرة ذات الآيات السبع القصيرة تعالج حقيقة ضخمة تكاد تبدل المفهوم السائد للإيمان والكفر تبديلا كاملا . فوق ما تطلع به على النفس من حقيقة باهرة لطبيعة هذه العقيدة ، وللخير الهائل العظيم المكنون فيها لهذه البشرية ، وللرحمة السابغة التي أرادها الله للبشر وهو يبعث إليهم بهذه الرسالة الأخيرة . .
إن هذا الدين ليس دين مظاهر وطقوس ؛ ولا تغني فيه مظاهر العبادات والشعائر ، ما لم تكن صادرة عن إخلاص لله وتجرد ، مؤدية بسبب هذا الإخلاص إلى آثار في القلب تدفع إلى العمل الصالح ، وتتمثل في سلوك تصلح به حياة الناس في هذه الأرض وترقى .
كذلك ليس هذا الدين أجزاء وتفاريق موزعة منفصلة ، يؤدي منها الإنسان ما يشاء ، ويدع منها ما يشاء . . إنما هو منهج متكامل ، تتعاون عباداته وشعائره ، وتكاليفه الفردية والاجتماعية ، حيث تنتهي كلها إلى غاية تعودكلها على البشر . . غاية تتطهر معها القلوب ، وتصلح للحياة ، ويتعاون الناس ويتكافلون في الخير والصلاح والنماء . . وتتمثل فيها رحمة الله السابغة بالعباد .
ولقد يقول الإنسان بلسانه : إنه مسلم وإنه مصدق بهذا الدين وقضاياه . وقد يصلي ، وقد يؤدي شعائر أخرى غير الصلاة ولكن حقيقة الإيمان وحقيقة التصديق بالدين تظل بعيدة عنه ويظل بعيدا عنها ، لأن لهذه الحقيقة علامات تدل على وجودها وتحققها . وما لم توجد هذه العلامات فلا إيمان ولا تصديق مهما قال اللسان ، ومهما تعبد الإنسان !
إن حقيقة الإيمان حين تستقر في القلب تتحرك من فورها [ كما قلنا في سورة العصر ] لكي تحقق ذاتها في عمل صالح . فإذا لم تتخذ هذه الحركة فهذا دليل على عدم وجودها أصلا . وهذا ما تقرره هذه السورة نصا . .
( أرأيت الذي يكذب بالدين ? فذلك الذي يدع اليتيم ، ولا يحض على طعام المسكين ) . .
إنها تبدأ بهذا الاستفهام الذي يوجه كل من تتأتى منه الرؤية ليرى : ( أرأيت الذي يكذب بالدين ? )وينتظر من يسمع هذا الاستفهام ليرى إلى أين تتجه الإشارة وإلى من تتجه
القول في تأويل قوله تعالى : { أَرَأَيْتَ الّذِي يُكَذّبُ بِالدّينِ * فَذَلِكَ الّذِي يَدُعّ الْيَتِيمَ * وَلاَ يَحُضّ عَلَىَ طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ * الّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ * الّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : { أرأَيْتَ الّذِي يُكَذّبُ بِالدّينِ } أرأيت يا محمد الذي يكذّب بثواب الله وعقابه ، فلا يطيعه في أمره ونهيه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : { أرأَيْتَ الّذِي يُكَذّبُ بِالدّينِ } قال : الذي يكذّب بحكم الله عزّ وجلّ .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن جُرَيج { يُكَذّبُ بِالدّينِ } قال : بالحساب .
وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله : «أرأَيْتَ الّذِي يُكَذّبُ الدّينَ » فالباء في قراءته صلة ، دخولها في الكلام وخروجها واحد .
وهي مكية بلا خلاف علمته ، وقال الثعلبي : هي مدنية{[1]} .
هذا توقيف وتنبيه لتتذكر نفس السامع كل من يعرفه بهذه الصفة ، وهمز أبو عمرو : «أرأيت » بخلاف عنه ، ولم يهمزها نافع وغيره ، و { الدين } الجزاء ثواباً وعقاباً ، والحساب هنا قريب من الجزاء .
سميت هذه السورة في كثير من المصاحف وكتب التفسير { سورة الماعون } لورود لفظ الماعون فيها دون غيرها .
وسميت في بعض التفاسير { سورة أرأيت } وكذلك في مصحف من مصاحف القيروان في القرن الخامس ، وكذلك عنونها في صحيح البخاري .
وعنونها ابن عطية ب{ سورة أرأيت الذي } . وقال الكواشي في التلخيص { سورة الماعون والدين وأرأيت } ، وفي الإتقان : وتسمى { سورة الدين } وفي حاشيتي الخفاجي وسعدي تسمى { سورة التكذيب } وقال البقاعي في نظم الدرر تسمى { سورة اليتيم } . وهذه ستة أسماء .
وهي مكية في قول الأكثر . وروي عن ابن عباس ، وقال القرطبي عن قتادة : هي مدنية . وروي عن ابن عباس أيضا . وفي الإتقان : قيل نزلت ثلاث أولها بمكة أي إلى قوله { المسكين } وبقيتها نزلت بالمدينة ، أي بناء على أن قوله { فويل للمصلين } إلى آخر السورة أريد بها المنافقون وهو مروي عن ابن عباس وقاله هبة الله الضرير وهو الأظهر .
وعدت السابعة عشرة في عداد نزول السور بناء على أنها مكية ، نزلت بعد سورة التكاثر وقبل سورة الكافرون .
وعدت آياتها ستا عند معظم العادين : وحكى الآلوسي : أن الذين عدوا آياتها ستا أهل العراق أي البصرة والكوفة وقال الشيخ علي النوري الصفاقسي في غيث النفع : وآيها سبع حمصي أي شامي وست في الباقي . وهذا يخالف ما قاله الآلوسي .
من مقاصد التعجيب من حال من كذبوا بالبعث وتفظيع أعمالهم من الاعتداء على الضعيف واحتقاره والإمساك عن إطعام المسكين ، والإعراض عن قواعد الإسلام من الصلاة والزكاة لأنه لا يخطر بباله أن يكون في فعله ذلك ما يجلب له غضب الله وعقابه .
الاستفهام مستعمل في التعجيب من حال المكذبين بالجزاء ، وما أورثهم التكذيب من سوء الصنيع . فالتعجيب من تكذيبهم بالدين وما تفرع عليه من دَعّ اليتيم وعدم الحضّ على طعام المسكين ، وقد صيغ هذا التعجيب في نظم مشوِّق لأن الاستفهام عن رؤية من ثبتت له صلة الموصول يذهب بذهن السامع مذاهب شتى من تعرف المقصد بهذا الاستفهام ، فإن التكذيب بالدين شائع فيهم فلا يكون مثاراً للتعجب فيترقب السامع ماذا يَرِد بعده وهو قوله : { فذلك الذي يدع اليتيم } .
وفي إقحام اسم الإِشارة واسم الموصول بعد الفاء زيادة تشويق حتى تقرع الصلة سمع السامع فتتمكن منه كَمَالَ تَمكُّن .
وأصل ظاهر الكلام أن يقال : أرأيت الذي يكذب بالدين فَيدُع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين .
والإِشارة إلى الذي يكذب بالدين باسم الإِشارة لتمييزه أكملَ تمييز حتى يتبصر السامع فيه وفي صفته ، أو لتنزيله منزلة الظاهر الواضح بحيث يشار إليه .
والفاء لعطف الصفة الثانية على الأولى لإفادة تسبب مجموع الصفتين في الحكم المقصود من الكلام ، وذلك شأنها في عطف الصفات إذا كان موصوفها واحداً مثل قوله تعالى : { والصافات صفاً فالزاجرات زجراً فالتاليات ذكراً } [ الصافات : 1 3 ] .
فمعنى الآية عطفُ صفتي : دَع اليتيم ، وعدم إطعام المسكين على جزم التكذيب بالدين .
وهذا يفيد تشويه إنكار البعث بما ينشأ عن إنكاره من المذام ومن مخالفة للحق ومنَافياً لما تقتضيه الحكمة من التكليف ، وفي ذلك كناية عن تحذير المسلمين من الاقتراب من إحدى هاتين الصفتين بأنهما من صفات الذين لا يؤمنون بالجزاء .
وجيء في { يكذب } ، و { يدُعّ } ، و { يَحُضّ } بصيغة المضارع لإفادة تكرر ذلك منه ودوامه .
وهذا إيذان بأن الإِيمان بالبعث والجزاء هو الوازع الحق الذي يغرس في النفس جذور الإقبال على الأعمال الصالحة حتى يصير ذلك لها خلقاً إذا شبت عليه ، فزكت وانساقت إلى الخير بدون كلفة ولا احتياج إلى آمر ولا إلى مخافة ممن يقيم عليه العقوبات حتى إذا اختلى بنفسه وآمن الرقباء جاء بالفحشاء والأعمال النَّكراء .
والرؤية بصرية يتعدى فعلها إلى مفعول واحد ، فإن المكذبين بالدين معروفون وأعمالهم مشهورة ، فنزّلت شهرتهم بذلك منزلة الأمر المبصَر المشاهد .
وقرأ نافع بتسهيل الهمزة التي بعد الراء من { أرأيت } ألفاً . وروى المصريون عن ورش عن نافع إبدالها ألفاً وهو الذي قرأنا به في تونس ، وهكذا في فعل ( رأى ) كلما وقع بعد همزة استفهام ، وذلك فرار من تحقيق الهمزتين ، وقرأه الجمهور بتحقيقهما .
وقرأه الكسائي بإسقاط الهمزة التي بعد الراء في كل فعل من هذا القبيل . واسم الموصول وصلتُه مراد بهما جنس من اتصف بذلك . وأكثر المفسرين درجوا على ذلك .
وقيل : نزلت في العاص بن وائل السهمي ، وقيل : في الوليد بن المغيرة المخزومي ، وقيل : في عمرو بن عائذ المخزومي ، وقيل : في أبي سفيان بن حرب قبل إسلامه بسبب أنه كان يَنحر كل أسبوع جَزوراً فجاءه مرة يتيم فسأله من لحمها فقرعه بعصا .
وقيل : في أبي جهل : كان وصياً على يتيم فأتاه عرياناً يسأله من مال نفسه فدفعه دفعاً شنيعاً .
والذين جعلوا السورة مدنية قالوا : نزلت في منافق لم يسموه ، وهذه أقوال معزو بعضها إلى بعض التابعين ولو تعينت لشخص معين لم يكن سبب نزولها مخصِّصاً حكمَها بمن نزلتْ بسببه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
سورة الماعون مكية في قول عطاء وجابر، ومدنية في قول ابن عباس وقتادة .
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وهي مكية بلا خلاف علمته ، وقال الثعلبي : هي مدنية .
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة مكية في بعض الروايات ، ومكية مدنية في بعض الروايات [ الثلاث الآيات الأولى مكية والباقيات مدنية ] وهذه الأخيرة هي الأرجح . وإن كانت السورة كلها وحدة متماسكة ، ذات اتجاه واحد ، لتقرير حقيقة كلية من حقائق هذه العقيدة ، مما يكاد يميل بنا إلى اعتبارها مدنية كلها ، إذ أن الموضوع التي تعالجه هو من موضوعات القرآن المدني - وهو في جملته يمت إلى النفاق والرياء مما لم يكن معروفا في الجماعة المسلمة في مكة . ولكن قبول الروايات القائلة بأنها مكية مدنية لا يمتنع لاحتمال تنزيل الآيات الأربع الأخيرة في المدينة وإلحاقها بالآيات الثلاث الأولى لمناسبة التشابه والاتصال في الموضوع . . وحسبنا هذا لنخلص إلى موضوع السورة وإلى الحقيقة الكبيرة التي تعالجها . .
إن هذه السورة الصغيرة ذات الآيات السبع القصيرة تعالج حقيقة ضخمة تكاد تبدل المفهوم السائد للإيمان والكفر تبديلا كاملا . فوق ما تطلع به على النفس من حقيقة باهرة لطبيعة هذه العقيدة ، وللخير الهائل العظيم المكنون فيها لهذه البشرية ، وللرحمة السابغة التي أرادها الله للبشر وهو يبعث إليهم بهذه الرسالة الأخيرة . .
إن هذا الدين ليس دين مظاهر وطقوس ؛ ولا تغني فيه مظاهر العبادات والشعائر ، ما لم تكن صادرة عن إخلاص لله وتجرد ، مؤدية بسبب هذا الإخلاص إلى آثار في القلب تدفع إلى العمل الصالح ، وتتمثل في سلوك تصلح به حياة الناس في هذه الأرض وترقى .
كذلك ليس هذا الدين أجزاء وتفاريق موزعة منفصلة ، يؤدي منها الإنسان ما يشاء ، ويدع منها ما يشاء . . إنما هو منهج متكامل ، تتعاون عباداته وشعائره ، وتكاليفه الفردية والاجتماعية ، حيث تنتهي كلها إلى غاية تعود كلها على البشر . . غاية تتطهر معها القلوب ، وتصلح للحياة ، ويتعاون الناس ويتكافلون في الخير والصلاح والنماء . . وتتمثل فيها رحمة الله السابغة بالعباد .
ولقد يقول الإنسان بلسانه : إنه مسلم وإنه مصدق بهذا الدين وقضاياه . وقد يصلي ، وقد يؤدي شعائر أخرى غير الصلاة ولكن حقيقة الإيمان وحقيقة التصديق بالدين تظل بعيدة عنه ويظل بعيدا عنها ، لأن لهذه الحقيقة علامات تدل على وجودها وتحققها . وما لم توجد هذه العلامات فلا إيمان ولا تصديق مهما قال اللسان ، ومهما تعبد الإنسان !
إن حقيقة الإيمان حين تستقر في القلب تتحرك من فورها [ كما قلنا في سورة العصر ] لكي تحقق ذاتها في عمل صالح . فإذا لم تتخذ هذه الحركة فهذا دليل على عدم وجودها أصلا . وهذا ما تقرره هذه السورة نصا . .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت هذه السورة في كثير من المصاحف وكتب التفسير سورة الماعون، لورود لفظ الماعون فيها دون غيرها .
وسميت في بعض التفاسير سورة أرأيت، وكذلك في مصحف من مصاحف القيروان في القرن الخامس ، وكذلك عنونها في صحيح البخاري .
وعنونها ابن عطية بسورة أرأيت الذي . وقال الكواشي في التلخيص سورة الماعون والدين وأرأيت ، وفي الإتقان وتسمى سورة الدين، وفي حاشيتي الخفاجي وسعدي تسمى سورة التكذيب، وقال البقاعي في نظم الدرر تسمى سورة اليتيم . وهذه ستة أسماء .
وهي مكية في قول الأكثر . وروي عن ابن عباس ، وقال القرطبي عن قتادة : هي مدنية . وروي عن ابن عباس أيضا . وفي الإتقان : قيل نزلت ثلاث أولها بمكة أي إلى قوله { المسكين } وبقيتها نزلت بالمدينة ، أي بناء على أن قوله { فويل للمصلين } إلى آخر السورة أريد بها المنافقون وهو مروي عن ابن عباس، وقاله هبة الله الضرير وهو الأظهر ...
من مقاصد التعجيب من حال من كذبوا بالبعث وتفظيع أعمالهم من الاعتداء على الضعيف واحتقاره والإمساك عن إطعام المسكين ، والإعراض عن قواعد الإسلام من الصلاة والزكاة لأنه لا يخطر بباله أن يكون في فعله ذلك ما يجلب له غضب الله وعقابه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ أرأيت الذي يكذب بالدين } يعني بالحساب ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله : { أرأَيْتَ الّذِي يُكَذّبُ بِالدّينِ } أرأيت يا محمد الذي يكذّب بثواب الله وعقابه ، فلا يطيعه في أمره ونهيه .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ أرأيت } حرف يستعمل في موضع السؤال والاستفهام ، ويجوز أن يكون استعماله على وجه التقرير على السائل لما يراد إعلامه...
اعلم أن { الذي يدع اليتيم } { ولا يحض على طعام المسكين } هو الذي يكذب بالدين ، قال أهل التأويل جميعا : { يكذب بالدين } أي بالحساب والبعث . ... وجائز أن يكون { يكذب بالدين } الذي يظهر لك ، ولا يحقق . فإن كان في المنافقين } لأن أهل النفاق كانوا يكذبون فهو من يظهر الموافقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين . وإن كان في أهل الكفر ، فهو في الرؤساء منهم ، فتكذيبهم بالدين ، هو ما كانوا يظهرون لأتباعهم من الجهد والشدة ، يموّهون بذلك على أتباعهم ليقع عندهم أن الذي هم عليه حق ، وأن الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم باطل ، فيكذبون بالدين الذي يرون من أنفسهم ، ويظهرون بالتمويهات التي يموهون بها عليهم ، فكيف إن كانت نزلت في المنافقين ، أو في أهل الكفر ، أو في الذي كذب بالحساب والبعث ، أو في الذي ذكرنا أنه يظهر خلاف ما يضمر ؟ . فيه عظة وتنبيه للمؤمنين وزجر لهم عن مثل صنيعهم ؛ لأنه نعت الذي كذب بالدين ؛ إذ كان المراد به الحساب أو الدين نفسه حين قال : { فذلك الذي يدع اليتيم } { ولا يحض على طعام المسكين } كأنه قال : { الذي يكذب بالدين } هو { الذي يدع اليتيم } أي يظلم اليتيم ، وحقه يمنع { ولا يحض على طعام المسكين } يقول- والله أعلم- للمؤمنين : لا تظلموا اليتيم ، ولا تمنعوا حقه ، ولا تسيئوا صحبة اليتيم كما فعل من كذب بالدين ، وما حض على طعام المسكين ، يصف بخلهم واستهانتهم باليتيم والمساكين ، وسوء معاملتهم التي عاملوها ، يعظ المؤمنين ويزجرهم عن ذلك . وجائز أن يكون قوله تعالى : { ولا يحض على طعام المسكين } لما عندهم أن من أعطي المال ، ووسع عليه الدنيا ، إنما أعطي ذلك لكرامة له عند الله تعالى ، ومن ضيق عليه ، ومنع ذلك عنه ، لهوان له عنده وحقارة ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... والمعنى : هل عرفت الذي يكذب بالجزاء من هو ؟ إن لم تعرفه .
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
... قال ابن عباس : { بالدين } : بحكم الله . وقال مجاهد : بالحساب ، وقيل : بالجزاء ، وقيل : بالقرآن . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ أرأيت } أي أخبرني يا أكمل الخلق { الذي يكذب } أي يوقع التكذيب لمن يخبره كائناً من كان { بالدين } أي الجزائي الذي يكون يوم البعث الذي هو محط الحكمة وهو غاية الدين التكليفي الآمر بمعالي الأخلاق ، الناهي عن سيئها ، ومن كذب بأحدهما كذب بالآخر ، ولما كان فعل الرؤية بمعنى أخبرني ، المتعدي إلى مفعولين ، كان تقدير المفعول الثاني : أليس جديراً بالانتقام منه ....{ أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم } أي إن هذه الصفات من دفع اليتيم وبعد الشفقة عليه ، وعدم الحض على إطعامه ، والسهو عن الصلاة ، والمراءاة بالأعمال ، ومنع الحاجات ، إن هذه كلها من شأن المكذب بالحساب والجزاء ؛ لأن نفع البعد عنها إنما يكون إذ ذاك ، فمن صدق به جرى في هذه الخصال على السنن المشكور والسعي المبرور ، ومن كذب به لم يبال بها وتأبط جميعها ، فتنزهوا أيها المؤمنون عنها ، فليست من صفاتكم في أصل إيمانكم الذي بايعتم عليه ، فمن تشبه بقوم فهو منهم ، فاحذروا هذه الرذائل ، فإن دع اليتيم من الكبر الذي أهلك أصحاب الفيل ، وعدم الحض على إطعامه فإنما هو فعل البخيل الذي يحسب أن ماله أخلده ، والسهو عن الصلوات من ثمرات إلهاء التكاثر ، والشغل بالأموال والأولاد ، فنهى عباده عن هذه الرذائل التي يثمرها ما تقدم ، والتحمت السور . انتهى .
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{ أَرَأيْتَ الذي يُكَذّبُ بالدين } استفهامٌ أريدَ بهِ تشويقُ السامعِ إلى معرفةِ مَنْ سيقَ لَهُ الكلاَمُ ، والتعجيبُ منْهُ . والخطابُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم . وقيلَ : لكُلِّ عاقلٍ ، والرؤيةُ بمَعْنى المَعْرفةِ ، وقُرِئَ ( أرأيتَكَ ) بزيادةِ حَرْفِ الخطابِ . ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذا إيذان بأن الإِيمان بالبعث والجزاء هو الوازع الحق الذي يغرس في النفس جذور الإقبال على الأعمال الصالحة حتى يصير ذلك لها خلقاً إذا شبت عليه ، فزكت وانساقت إلى الخير بدون كلفة ولا احتياج إلى آمر ولا إلى مخافة ممن يقيم عليه العقوبات حتى إذا اختلى بنفسه وآمن الرقباء جاء بالفحشاء والأعمال النَّكراء . والرؤية بصرية يتعدى فعلها إلى مفعول واحد ، فإن المكذبين بالدين معروفون وأعمالهم مشهورة ، فنزّلت شهرتهم بذلك منزلة الأمر المبصَر المشاهد .
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
الدين : كناية عن يوم الآخرة والحساب . ... إنذار وسوء دعاء على الذين يصلون وقلوبهم لاهية عما هم فيه . والذين يصدرون في عبادتهم وأعمالهم أمام الله والناس عن رياء وخداع . والذين يمنعون عونهم وبرهم ، أو ماعونهم عن المحتاجين إليه . ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{ أَرَأيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ } من هؤلاء المنافقين الذين لا يؤمنون بالجزاء في يوم القيامة ، أو لا يؤمنون بالدين كله في عقيدته وفي شريعته التي تدعو إلى أن يحمل الإنسان مسؤوليّة الفئات المحرومة في الأمة ، ليمنحهم ، من جهده ، ومن ماله ، ....أرأيت يا محمد ، ويا كلَّ من يتحرك في الحياة على خط محمد( صلى الله عليه وسلم ) ، هذا الإنسان كيف يتحرك في المجتمع ، وكيف يعبّر عن واقعه الداخلي ، وكيف يكذّب عمله ما يدّعيه من الإيمان في الصورة الخارجية من حياته ؟ ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنكار المعاد وآثاره المشؤومة : هذه السّورة المباركة تبدأ بسؤال موجّه للنّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن الآثار المشؤومة لإنكار المعاد وتقول : { أرأيت الذي يكذب بالدين } .