{ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالآيات الواضحات{[2176]} والدلائل القاطعة{[2177]} على أنه رسول الله ، وأنه لا إله إلا الله . والبينات هي : الطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والعصا ، واليد ، وفَلْق البحر ، وتظليلهم بالغمام ، والمن والسلوى ، والحجر ، وغير ذلك من الآيات التي شاهدوها { ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ } أي : معبودًا من دون الله في زمان موسى وآياته . وقوله { مِنْ بَعْدِهِ } أي : من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله كما قال تعالى : { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ } [ الأعراف : 148 ] ، { وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } [ أي وأنتم ظالمون ] {[2178]} في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل ، وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا الله ، كما قال تعالى : { وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 149 ] .
{ وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مّوسَىَ بِالْبَيّنَاتِ ثُمّ اتّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ }
يعني جل ثناؤه بقوله : { وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسَى بالبَيّناتِ } أي جاءكم بالبينات الدالّة على صدقه وحقية نبوّته كالعصا التي تحوّلت ثعبانا مبينا ، ويده التي أخرجها بيضاء للناظرين ، وفَلْق البحر ، ومصير أرضه له طريقا يبسا ، والجراد والقمّل والضفادع ، وسائر الاَيات التي بينت صدقه وحقية نبوّته . وإنما سماها الله بينات لتبينها للناظرين إليها أنها معجزة لا يقدر على أن يأتي بها بشر إلا بتسخير الله ذلك له ، وإنما هي جمع بيّنة مثل طيبة وطيبات .
قال أبو جعفر : ومعنى الكلام : ولقد جاءكم يا معشر يهود بني إسرائيل موسى بالاَيات البينات على أمره وصدقه وحقية نبوّته . وقوله : { ثُمّ اتّخَذْتُم العجْلَ مِن بَعْدِهِ وأنْتُمْ ظالِمُونَ } يقول جل ثناؤه لهم : ثم اتخذتم العجل من بعد موسى إلها ، فالهاء التي في قوله : «من بعده » من ذكر موسى . وإنما قال : «من بعد موسى » ، لأنهم اتخذوا العجل من بعد أن فارقهم موسى ماضيا إلى ربه لموعده ، على ما قد بيّنا فيما مضى من كتابنا هذا . وقد يجوز أن تكون «الهاء » التي في «بعده » إلى ذكر المجيء ، فيكون تأويل الكلام حينئذ : ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعد مجيء البينات وأنتم ظالمون ، كما تقول : جئتني فكرهته يعني كرهت مجيئك .
وأما قوله : { وأنْتُمْ ظالِمُون } فإنه يعني بذلك أنكم فعلتم ما فعلتم من عبادة العجل ، وليس ذلك لكم وعبدتم غير الذي كان ينبغي لكم أن تعبدوه لأن العبادة لا تنبغي لغير الله . وهذا توبيخ من الله لليهود ، وتعيير منه لهم ، وإخبار منه لهم أنهم إذا كانوا فعلوا ما فعلوا من اتخاذ العجل إلها وهو لا يملك لهم ضرّا ولا نفعا ، بعد الذي علموا أن ربهم هو الربّ الذي يفعل من الأعاجيب وبدائع الأفعال ما أجراه على يدي موسى صلوات الله عليه من الأمور التي لا يقدر عليها أحد من خلق الله ، ولم يقدر عليها فرعون وجنده مع بطشه وكثرة أتباعه ، وقرب عهدهم بما عاينوا من عجائب حكم الله ، فهم إلى تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وجحوده ما في كتبهم التي زعموا أنهم بها مؤمنون من صفته ونعته مع بعد ما بينهم وبين عهد موسى من المدة أسرع ، وإلى التكذيب بما جاءهم به موسى من ذلك أقرب .
{ ولقد جاءكم موسى بالبينات } يعني الآيات التسع المذكورة في قوله تعالى : { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } { ثم اتخذتم العجل } أي إلها { من بعده } من بعد مجيء موسى ، أو ذهابه إلى الطور { وأنتم ظالمون } حال ، بمعنى اتخذتم العجل ظالمين بعبادته ، أو بالإخلال بآيات الله تعالى ، أو اعتراض بمعنى وأنتم قوم عادتكم الظلم . ومساق الآية أيضا لإبطال قولهم { نؤمن بما أنزل علينا } والتنبيه على أن طريقتهم مع الرسول طريقة أسلافهم مع موسى عليهما الصلاة والسلام ، لا لتكرير القصة وكذا ما بعده .
{ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ }( 92 )
البينات التوراة والعصا وفرق البحر وغير ذلك من آيات موسى عليه السلام وقوله تعالى : { ثم اتخذتم } تدل ثم على أنهم فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر في الآيات ، وذلك أعظم في دينهم ، وقد تقدمت قصة اتخاذهم العجل ، والضمير في قوله { من بعده } عائد على موسى عليه السلام ، أي من بعده حين غاب عنكم في المناجاة ، ويحتمل أن يعود الضمير في { بعده } على المجيء . وهذه الآية رد عليهم في أن من آمن بما نزل عليه لا يتخذ العجل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل لليهود: {ولقد جاءكم موسى بالبينات}، يعني: بالآيات التسع. {ثم اتخذتم العجل} إلها. {من بعده}، يعني: من بعد انطلاق موسى إلى الجبل. {وأنتم ظالمون} لأنفسكم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسَى بالبَيّناتِ}: أي جاءكم بالبينات الدالّة على صدقه وحقية نبوّته كالعصا التي تحوّلت ثعبانا مبينا، ويده التي أخرجها بيضاء للناظرين، وفَلْق البحر ومصير أرضه له طريقا يبسا، والجراد والقمّل والضفادع، وسائر الاَيات التي بينت صدقه وحقية نبوّته. وإنما سماها الله بينات لتبينها للناظرين إليها أنها معجزة لا يقدر على أن يأتي بها بشر إلا بتسخير الله ذلك له، وإنما هي جمع بيّنة مثل طيبة وطيبات.
ومعنى الكلام: ولقد جاءكم يا معشر يهود بني إسرائيل موسى بالاَيات البينات على أمره وصدقه وحقية نبوّته.
{ثُمّ اتّخَذْتُم العجْلَ مِن بَعْدِهِ وأنْتُمْ ظالِمُونَ}: ثم اتخذتم العجل من بعد موسى إلها، فالهاء التي في قوله: «من بعده» من ذكر موسى. وإنما قال: «من بعد موسى»، لأنهم اتخذوا العجل من بعد أن فارقهم موسى ماضيا إلى ربه لموعده، على ما قد بيّنا فيما مضى من كتابنا هذا. وقد يجوز أن تكون «الهاء» التي في «بعده» إلى ذكر المجيء، فيكون تأويل الكلام حينئذ: ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعد مجيء البينات وأنتم ظالمون، كما تقول: جئتني فكرهته يعني كرهت مجيئك.
{وأنْتُمْ ظالِمُون} فإنه يعني بذلك أنكم فعلتم ما فعلتم من عبادة العجل، وليس ذلك لكم وعبدتم غير الذي كان ينبغي لكم أن تعبدوه لأن العبادة لا تنبغي لغير الله. وهذا توبيخ من الله لليهود، وتعيير منه لهم، وإخبار منه لهم أنهم إذا كانوا فعلوا ما فعلوا من اتخاذ العجل إلها وهو لا يملك لهم ضرّا ولا نفعا، بعد الذي علموا أن ربهم هو الربّ الذي يفعل من الأعاجيب وبدائع الأفعال ما أجراه على يدي موسى صلوات الله عليه من الأمور التي لا يقدر عليها أحد من خلق الله، ولم يقدر عليها فرعون وجنده مع بطشه وكثرة أتباعه، وقرب عهدهم بما عاينوا من عجائب حكم الله، فهم إلى تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وجحوده ما في كتبهم التي زعموا أنهم بها مؤمنون من صفته ونعته مع بعد ما بينهم وبين عهد موسى من المدة أسرع، وإلى التكذيب بما جاءهم به موسى من ذلك أقرب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يعزي نبيه عليه السلام لئلا يظن أنه أول مكذب من الرسل، وأول من كفر به، حتى لا يضيق صدره بما يقولون، ويستقبلونه بما يكره، وبالله التوفيق، كقوله: {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} [هود: 120]...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وليس المراد بثم هاهنا النسق، وانما المراد بها التوبيخ، والتعجب والاستعظام لكفرهم مع ما رأوا من الآيات.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي دعاكم إلى التوحيد، وإفراد المعبود عن كل معبود ومحدود، ولكنكم لم تجنحوا إلا إلى عبادة ما يليق بكم من عِجْلٍ اتخذتموه، وصنمٍ تمنيتموه. فرفع ذلك من بين أيديهم، ولكن بقيت آثاره في قلوبهم وقلوب أعقابهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَأَنتُمْ ظالمون} يجوز أن يكون حالاً، أي عبدتم العجل وأنتم واضعون العبادة غير موضعها، وأن يكون اعتراضاً بمعنى: وأنتم قوم عادتكم الظلم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ثم اتخذتم} تدل ثم على أنهم فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر في الآيات، وذلك أعظم في دينهم...
اعلم أن تكرير هذه الآية يغني عن تفسيرها، والسبب في تكريرها أنه تعالى لما حكى طريقة اليهود في زمان محمد صلى الله عليه وسلم ووصفهم بالعناد والتكذيب ومثلهم بسلفهم في قتلهم الأنبياء الذي يناسب التكذيب لهم بل يزيد عليه، أعاد ذكر موسى عليه السلام وما جاء به من البينات وأنهم مع وضوح ذلك أجازوا أن يتخذوا العجل إلها وهو مع ذلك صابر ثابت على الدعاء إلى ربه والتمسك بدينه وشرعه فكذلك القول في حالي معكم وإن بالغتم في التكذيب والإنكار...
إن قلت: لِم أقسم على مجِيئه لهم بالبينات، وهم موافقون عليه. وإنما يتوهم مخالفتهم في اتخاذهم العجل فقط؟ فهلاَ قيل: ولقد اتخذتم العجل من بعد ما جَاءكم موسى بالبينات؟ فالجواب: أنه ظهرت عليه مخائل الإنكار لمجيئه لهم بالبيّنات بسبب اتخاذهم العجل، فلذلك عطفه عليه بيانا لسببه الموجب للقسم...
وذمهم أولا بكفرهم فيما يرجع إلى النّبوة بقوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ الله مِن قَبْلُ} ثم ذمهم بكفرهم فيما يرجع إلى الألوهية باتخاذهم العجل إلها فهو ترق في الذم.
قال: ومفعول « اتّخَذْتُمُ» محذوف أي العجل إلها، وحذفه مناسب، لأنه مستكره مذموم، فحذفه إذا دل السياق عليه أحسن من ذكره...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{وَأَنتُمْ ظالمون} أي واضعون الشيء في غير محله اللائق به أو مخلون بآيات الله تعالى،
والجملة حال مؤكدة للتوبيخ والتهديد، وهي جارية مجرى القرينة على إرادة العبادة من الاتخاذ، وفيها تعريض بأنهم صرفوا العبادة عن موضعها الأصلي إلى غير موضعها، وإيهام المبالغة من حيث إن إطلاق الظلم يشعر بأن عبادة العجل كل الظلم وأن من ارتكبها لم يترك شيئاً من الظلم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
سبق التذكير باتخاذ العجل في قوله تعالى {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة} ثم أعاده هنا بعبارة وأسلوب آخرين في سياق آخر.
أما اختلاف العبارة والأسلوب فظاهر، وأما السياق فقد كان أولا في تعداد النعم على بني إسرائيل وبيان ما قابلوها به من الكفران وهو هنا في ذكر الآيات ورد شبهاتهم المانعة بزعمهم من الإيمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم،
فهناك يقول إن النعم التي أسبغها الله عليكم لم يكن لها من شكر عندكم إلا اتخاذ عجل تعبدونه من دونه. وهاهنا يقول إن الآيات البينات على النبوة والوحدانية، لم تزدكم إلا إيغالا في الشرك وإنهما كان في الوثنية، فكيف تعتذرون عن الإيمان بمحمد بأنكم لا تؤمنون إلا بما أنزل إليكم وهذا شأنكم فيه ومجموع الآيتين ينبئ بفساد قلوب القوم وفساد عقولهم حتى لا مطمع في هداية أكثرهم من جهة الوجدان، ولا من ناحية العقل والجنان.
وهذه البينات التي ذكرها هاهنا قد كانت في مصر قبل الميعاد الذي نزلت فيه التوراة وأما النعم التي ذكرها هناك فقد كانت في أرض الميعاد كما تقدم. ووجه الاتصال بين هذه الآية وما قبلها قد علم مما قلناه في السياق وفيه المقابلة بين معاملتهم لموسى عليه السلام ومعاملتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ قالوا: قلوبنا غلف وادعوا أنهم مأمورون بأن لا يؤمنوا إلا بما أنزل عليهم خاصة. وقد علم من هذه الحجج كلها بطلان شبههم وكذبهم في دعواهم وأنه لا عذر لهم في ترك الإيمان...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لا، بل إنكم كفرتم بما جاءكم به موسى -نبيكم الأول ومنقذكم الأكبر -: (ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون).. فهل اتخاذكم العجل من بعدما جاءكم موسى بالبينات، وفي حياة موسى نفسه، كان من وحي الإيمان؟ وهل يتفق هذا مع دعواكم أنكم تؤمنون بما أنزل إليكم؟...
... واتخاذ العجل في ذاته ليس معصية إذا اتخذته للحرث أو للذبح لتأكل لحمه... ولكن المعصية هي اتخاذ العجل معبودا...
{اتخذتم العجل}... أي أن ذلك أمر مشهود لم تعبدوا العجل سرا بل عبدتموه جهرا، ولذلك فهو أمر ليس محتاجا إلى شهود ولا إلى شهادة لأنه حدث علنا وأمام الناس كلهم...
وذكر حكاية العجل هذه ليشعروا بذنبهم في حق الله... كأن يرتكب الإنسان خطأ ثم يمر عليه وقت... وكلما أردنا أن نؤنبه ذكرناه بما فعل...
{وأنتم ظالمون}... أي ظالمون في إيمانكم... ظالمون في حق الله بكفركم به...