وهي تتوسط صفوف الأعداء على غرة فتوقع بينهم الفوضى والاضطراب !
إنها خطوات المعركة على ما يألفه المخاطبون بالقرآن أول مرة . . . والقسم بالخيل في هذا الإطار فيه إيحاء قوي بحب هذه الحركة والنشاط لها ، بعد الشعور بقيمتها في ميزان الله والتفاته سبحانه إليها ?
وذلك فوق تناسق المشهد مع المشاهد المقسم عليها والمعقب بها كما أسلفنا . أما الذي يقسم الله - سبحانه - عليه ، فهو حقيقة في نفس الإنسان ، حين يخوى قلبه من دوافع الإيمان . حقيقة ينبهه القرآن إليها ، ليجند إرادته لكفاحها مذ كان الله يعلم عمق وشائجها في نفسه ، وثقل وقعها في كيانه :
وقوله : { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعا } يقول تعالى ذكره : فوسَطْن بركبانهنّ جمع القوم ، يقال : وسطت القوم بالتخفيف ، ووسّطته بالتشديد ، وتوسّطته : بمعنى واحد . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : حدثنا أبو رجاء ، قال : سُئل عكرِمة ، عن قوله : { فَوَسْطْنَ بِهِ جَمْعا } قال : جمع الكفار .
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرِمة { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعا } قال : جمع القوم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعا } قال : هو جمع القوم .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن واصل ، عن عطاء { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعا } قال : جمع العدوّ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعا } قال : جمع هؤلاء وهؤلاء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعا } فوسطن جمع القوم .
حدثنا ابن حميد قال : حدثنا مهران ، عن سعيد ، عن قتادة { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعا } فوسطن بالقوم جمعَ العدوّ .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعا } قال : وسطن جمع القوم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعا } : الجمع : الكتيبة .
وقال آخرون : بل عُنِي بذلك فَوَسَطْنَ بِهِ مزدلفة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مُغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعا } يعني : مزدلفة .
{ فوسطن به } فتوسطن بذلك الوقت أو بالعدو أو بالنقع ، أي ملتبسات به ، { جمعا } من جموع الأعداء . روي أنه صلى الله عليه وسلم بعث خيلا فمضت أشهر لم يأته منهم خبر ، فنزلت ، ويحتمل أن يكون القسم بالنفوس العادية أثر كما لهن الموريات بأفكارهن أنوار المعارف ، والمغيرات على الهوى والعادات ، إذا ظهر لهن مثل أنوار القدس فأثرن به شوقا ، فوسطن به جمعا من مجموع العليين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره : فوسَطْن بركبانهنّ جمع القوم ... عن قتادة { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعا }: فوسطن بالقوم جمعَ العدوّ ... وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل... وقال آخرون : بل عُنِي بذلك فَوَسَطْنَ بِهِ مزدلفة .
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ فوسطن به } أي بذلك النقع أو الفعل والوقت والموضع . { جمعاً } أي وهو المقصود بالإغارة ، فدخلت في وسط ذلك الجمع لشجاعتها وقوتها وطواعيتها وشجاعة فرسانها . ...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
فإنَّ توسطَ الجمعِ مترتبٌ عَلى الإثارةِ، المترتبةِ على الإغارةِ، المترتبةِ على الإيراءِ، المترتبِ على العدوِ . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهي تتوسط صفوف الأعداء على غرة فتوقع بينهم الفوضى والاضطراب ! إنها خطوات المعركة على ما يألفه المخاطبون بالقرآن أول مرة . . .
والقسم بالخيل في هذا الإطار فيه إيحاء قوي بحب هذه الحركة والنشاط لها ، بعد الشعور بقيمتها في ميزان الله والتفاته سبحانه إليها ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وإن أريد ب { العاديات } وما عطف عليها خيل الغزاة ، فالقسم بها لأجل التهويل والترويع لإِشعار المشركين بأنَّ غارة تترقبهم وهي غزوة بدر ، مع تسكين نفس النبي صلى الله عليه وسلم من التردد في مصير السرية التي بعث بها مع المُنذر بن عَمْرو إذا صحّ خبرها فيكون القسم بخصوص هذه الخيل إدماجاً للاطمئنان ...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
وقد وجدنا قرائن عديدة في الآية تمنع من إرادة المزدلفة بمعنى جمع ، وهي كالآتي : أولا : وصف الخيل أو الإبل على حد سواء بالعاديات ، حتى حد الضبح ، ووري النار بالحوافر وبالحصا ؛ لأنها أوصاف تدل على الجري السريع . ومعلوم أن الإفاضة من عرفات ثم من المزدلفة لا تحتمل هذا العدو ، وليس هو فيها بمحمود ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينادي " السكينة السكينة " ، فلو وجد لما كان موضع تعظيم وتفخيم . ثانياً : أن المشهور أن إثارة النقع من لوازم الحرب ... ثالثاً : قوله تعالى : { فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً 3 فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً 4 فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً } ، جاء مرتباً بالفاء ، وهي تدل على الترتيب والتعقيب . وقد تقدم المغيرات صبحاً ، وبعدها فوسطن به جمعاً . وجمع هي المزدلفة ، وإنما يؤتى إليها ليلاً ، فكيف يغرن صبحاً ، ويتوطن المزدلفة ليلاً ؟ وعلى ما حكاه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، أنهم يغيرون صبحاً من المزدلفة إلى منى ، تكون تلك الإغارة صبحاً بعد التوسط بجمع ، والسياق يؤخرها عن الإغارة ولم يقدمها عليها . فتبين بذلك أن إرادة المزدلفة غير متأتية في هذا السياق . ويبقى القول الآخر وهو الأصح ، واللَّه تعالى أعلم . ولو رجعنا إلى نظرية ترابط السور لكان فيها ترجيح لهذا المعنى ، وهو أنه في السورة السابقة ذكرت الزلزلة وصدور الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم . وهنا حث على أفضل الأعمال التي تورث الحياة الأبدية والسعادة الدائمة في صورة مماثلة ، وهي عدوهم أشتاتاً في سبيل الله لتحصيل ذاك العمل الذي يحبون رؤيته في ذلك الوقت ، وهو نصرة دين الله ، أو الشهادة في سبيل اللَّه ، والعلم عند الله تعالى . ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
نستخلص ممّا سبق أن القَسَم في الآيات بهذه الخيول التي هي أولا تسرع إلى ميدان الجهاد بنَفَس شديد ، ثمّ تزيد سرعتها حتى يتطاير الشرر من تحت حوافرها فيشقّ عتمة الليل . . . وبعدها تقترب من منطقة العدو ، فتباغته ، وعند انبلاج عتمة الليل تشنّ هجوماً شديداً يثير الغبار في كل جانب ، ثمّ تتوغل إلى قلب العدّو وتشتت صفوفه . القسم إذن بهذه الخيول المقتدرة ! . . . بفرسانها الشجعان ! . . . بأنفاس مركب المجاهدين ! . . . بشرارات النيران المتطايرة من تحت حوافرها ! . . . بذلك الهجوم المباغت ! . . . بذرات الغبار المنتشرة في الفضاء ! . . . بدخولها قلب صفوف الأعداء وتحقيق النصر الحاسم عليهم ! هذه التعابير وإن لم ترد كلها صراحة في الآيات فهي مجموعة كلها في الدلالات الضمنية للكلام . من هنا يتّضح أن الجهاد له منزلة عظيمة حتى أن أنفاس خيل المجاهدين استحقت أن يقسم بها . . . وهكذا الشرر المتطاير من حوافر هذه الخيول . . . والغبار الذي تثيره في الجو . . . نعم حتى غبار ساحة الجهاد له قيمة وعظمة . ...