تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزۡقُهَا وَيَعۡلَمُ مُسۡتَقَرَّهَا وَمُسۡتَوۡدَعَهَاۚ كُلّٞ فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} (6)

{ 6 } { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }

أي : جميع ما دب على وجه الأرض ، من آدمي ، أو حيوان بري أو بحري ، فالله تعالى قد تكفل بأرزاقهم وأقواتهم ، فرزقها{[423]}  على الله .

{ وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } أي : يعلم مستقر هذه الدواب ، وهو : المكان الذي تقيم فيه وتستقر فيه ، وتأوي إليه ، ومستودعها : المكان الذي تنتقل إليه في ذهابها ومجيئها ، وعوارض أحوالها .

{ كُلِّ } من تفاصيل أحوالها { فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } أي : في اللوح المحفوظ المحتوي على جميع الحوادث الواقعة ، والتي تقع في السماوات والأرض . الجميع قد أحاط بها علم الله ، وجرى بها قلمه ، ونفذت فيها مشيئته ، ووسعها رزقه ، فلتطمئن القلوب إلى كفاية من تكفل بأرزاقها ، وأحاط علما بذواتها ، وصفاتها .


[423]:- في ب: فرزقهم.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزۡقُهَا وَيَعۡلَمُ مُسۡتَقَرَّهَا وَمُسۡتَوۡدَعَهَاۚ كُلّٞ فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} (6)

1

( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها ؛ كل في كتاب مبين )

وهذه صورة أخرى من صور العلم الشامل المرهوب . . هذه الدواب - وكل ما تحرك على الأرض فهو دابة من إنسان وحيوان وزاحفة وهامة . ما من دابة من هذه الدواب التي تملأ وجه البسيطة ، وتكمن في باطنها ، وتخفى في دروبها ومساربها . ما من دابة من هذه الدواب التي لا يحيط بها حصر ولا يكاد يلم بها إحصاء . . إلا وعند الله علمها . وعليه رزقها ، وهو يعلم أين تستقر وأين تكمن . من أين تجيء وأين تذهب . . وكل منها . كل من أفرادها مقيد في هذا العلم الدقيق .

إنها صورة مفصلة للعلم الإلهي في حالة تعلقه بالمخلوقات ، يرتجف لها كيان الإنسان حين يحاول تصورها بخياله الإنساني فلا يطيق .

ويزيد على مجرد العلم ، تقدير الرزق لكل فرد من أفراد هذا الحشد الذي يعجز عن تصوره الخيال . وهذه درجة أخرى ، الخيال البشري عنها أعجز إلا بإلهام من الله . .

وقد أوجب الله - سبحانه - على نفسه مختارا أن يرزق هذا الحشد الهائل الذي يدب على هذه الأرض . فأودع هذه الأرض القدرة على تلبية حاجات هذه المخلوقات جميعا ، وأودع هذه المخلوقات القدرة على الحصول على رزقها من هذا المودع في الأرض في صورة من صوره . ساذجا خامة ، أو منتجا بالزرع ، أو مصنوعا ، أو مركبا . . إلى آخر الصور المتجددة لإنتاج الرزق وإعداده . حتى إن بعضها ليتناول رزقه دما حيا مهضوما ممثلا كالبعوضة والبرغوث

وهذه هي الصورة اللائقة بحكمة الله ورحمته في خلق الكون على الصورة التي خلقه بها ؛ وخلق هذه المخلوقات بالاستعدادات والمقدرات التي أوتيتها . وبخاصة الإنسان . الذي استخلف في الأرض ، وأوتي القدرة على التحليل والتركيب ، وعلى الإنتاج والإنماء ، وعلى تعديل وجه الأرض ، وعلى تطوير أوضاع الحياة ؛ بينما هو يسعى لتحصيل الرزق ، الذي لا يخلقه هو خلقا ، وإنما ينشئه مما هو مذخور في هذا الكون من قوى وطاقات أودعها الله ؛ بمساعدة النواميس الكونية الإلهية التي تجعل هذا الكون يعطي مدخراته وأقواته لكافة الأحياء !

وليس المقصود أن هناك رزقا فرديا مقدرا لا يأتي بالسعي ، ولا يتأخر بالقعود ، ولا يضيع بالسلبية والكسل ، كما يعتقد بعض الناس ! وإلا فأين الأسباب التي أمر الله بالأخذ بها ، وجعلها جزءا من نواميسه ؟ وأين حكمة الله في إعطاء المخلوقات هذه المقدرات والطاقات ؟ وكيف تترقى الحياة في مدارج الكمال المقدر لها في علم الله ، وقد استخلف عليها الإنسان ليؤدي دوره في هذا المجال ؟

إن لكل مخلوق رزقا . هذا حق . وهذا الرزق مذخور في هذا الكون . مقدر من الله في سننه التي ترتب النتاج على الجهد . فلا يقعدن أحد عن السعي وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة . ولكن السماء والأرض تزخران بالأرزاق الكافية لجميع المخلوقات . حين تطلبها هذه المخلوقات حسب سنة الله التي لا تحابي أحدا ، ولا تتخلف أو تحيد .

إنما هو كسب طيب وكسب خبيث ، وكلاهما يحصل من عمل وجهد . إلا أنه يختلف في النوع والوصف . وتختلف عاقبة المتاع بهذا وذاك .

ولا ننسى المقابلة بين ذكر الدواب ورزقها هنا ؛ وبين المتاع الحسن الذي ذكر في التبليغ الأول . والسياق القرآني المحكم المتناسق لا تفوته هذه اللفتات الأسلوبية والموضوعية ، التي تشارك في رسم الجو في السياق وهاتان الآيتان الكريمتان هما بدء تعريف الناس بربهم الحق الذي عليهم أن يدينوا له وحده . أي أن يعبدوه وحده . فهو العالم المحيط علمه بكل خلقه ، وهو الرازق الذي لا يترك أحدا من رزقه . وهذه المعرفة ضرورية لعقد الصلة بين البشر وخالقهم ؛ ولتعبيد البشر للخالق الرازق العليم المحيط .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزۡقُهَا وَيَعۡلَمُ مُسۡتَقَرَّهَا وَمُسۡتَوۡدَعَهَاۚ كُلّٞ فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} (6)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَمَا مِن دَآبّةٍ فِي الأرْضِ إِلاّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ } .

يعني تعالى ذكره بقوله : وَما مِنْ دَابّةٍ فِي الأرْضِ إلاّ على اللّهِ رِزْقُها وما تدبّ دابة في الأرض . والدابة : الفاعلة من دبّ فهو يدبّ ، وهو دابّ ، وهي دابة . إلا على اللّهِ رِزْقُها يقول : إلا ومن الله رزقها الذي يصل إليها هو به متكفل ، وذلك قُوُتها وغذاؤها وما به عيشها .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : مجاهد ، في قوله : وَما مِنْ دَابّةٍ فِي الأرْضِ إلاّ على اللّهِ رِزْقُها قال : ما جاءها من رزق فمن الله ، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعا ، ولكن ما كان من رزق فمن الله .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَما مِنْ دَابّةٍ فِي الأرْضِ إلاّ على اللّهِ رِزْقُها قال : كلّ دابة .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَما مِنْ دَابّةٍ فِي الأرْضِ إلاّ على اللّهِ رِزْقُها يعني : كلّ دابة والناس منهم .

وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يزعم أن كل ماش فهو دابة ، وأن معنى الكلام : وما دابة في الأرض ، وأنّ «من » زائدة .

وقوله : وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرّها حيث تستقرّ فيه ، وذلك مأواها الذي تأوي إليه ليلاً أو نهارا . وَمُسْتَوْدَعَها : الموضع الذي يُودِعها ، إما بموتها فيه أو دفنها .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن التيمي ، عن ليث ، عن الحكم ، عن مِقْسم ، عن ابن عباس ، قال : مُسْتَقَرّها ، حيث تأوي ، وَمُسْتَوْدَعَها حيث تموت .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرّها يقول ، حيث تأوى ، وَمُسْتَوْدَعَها يقول ، إذا ماتت .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربيّ ، عن ليث ، عن الحكم ، عن مِقْسم ، عن ابن عباس : وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرّها وَمُسْتَوْدَعُها قال ، المستقرّ : حيث تأوي ، والمستودع ، حيث تموت .

وقال آخرون : مُسَتَقَرّها في الرحم ، وَمُسْتَوْدَعَها : في الصلب . ذكر من قال ذلك :

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرّها : في الرحم ، وَمُسْتَوْدَعَها : في الصلب ، مثل التي في الأنعام .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس ، قوله : وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرّها وَمُسْتَوْدَعَها فالمستقرّ : ما كان في الرحم ، والمستودع : ما كان في الصلب .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرّها يقول : في الرحم ، وَمُسْتَوْدَعَها في الصلب .

وقال آخرون : المستقرّ : في الرحم ، والمستودع : حيث تموت . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ويعلى بن فضيل ، عن إسماعيل ، عن إبراهيم ، عن عبد الله : وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرّها وَمُسْتَوْدَعَها قال : مستقرّها : الأرحام ، ومستودعها : الأرض التي تموت فيها .

قال : حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن مرّة ، عن عبد الله : وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرّها وَمُسْتَوْدَعَها المستقرّ : الرحم ، والمستودع . المكان الذي تموت فيه .

وقال آخرون مُسْتَقَرّها : أيام حياتها وَمُسْتَوْدَعَها : حيث تموت فيه . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، قال : أخبرنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، قوله : وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرّها وَمُسْتَوْدَعَها قال : مستقرّها : أيام حياتها ، ومستودعها : حيث تموت ومن حيث تبعث .

وإنما اخترنا القول الذي اخترناه فيه ، لأن الله جلّ ثناؤه أخبر أن ما رزقت الدوابّ من رزق فمنه ، فأولى أن يتبع ذلك أن يعلم مثواها ومستقرّها دون الخبر عن علمه بما تضمنته الأصلاب والأرحام .

ويعني بقوله : كُلّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ عدد كل دابة ، ومبلغ أرزاقها وقدر قرارها في مستقرّها ، ومدة لبثها في مستودعها ، كلّ ذلك في كتاب عند الله مثبت مكتوب مبين ، يبين لمن قرأه أن ذلك مثبت مكتوب قبل أن يخلقها ويوجدها . وهذا إخبار من الله جلّ ثناؤه الذين كانوا يثنون صدورهم ليستخفوا منه أنه قد علم الأشياء كلها ، وأثبتها في كتاب عنده قبل أن يخلقها ويوجدها يقول لهم تعالى ذكره : فمن كان قد علم ذلك منهم قبل أن يوجدهم ، فكيف يخفي عليه ما تنطوي عليه نفوسهم إذا ثَنَوْا به صدورهم واستغشوا عليه ثيابهم ؟

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزۡقُهَا وَيَعۡلَمُ مُسۡتَقَرَّهَا وَمُسۡتَوۡدَعَهَاۚ كُلّٞ فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} (6)

وقوله تعالى : { وما من دابة*** . . } الآية ، تماد في وصف الله تعالى بنحو قوله { يعلم ما يسرون وما يعلنون } . و «الدابة » ما دب من الحيوان ، والمراد جميع الحيوان الذي يحتاج إلى رزق ويدخل في ذلك الطائر والهوام وغير ذلك كلها دواب ، وقد قال الأعشى : [ الطويل ]

نياف كغصن البان ترتج إن مشت*** دبيب قطا البطحاء في كل منهل{[6265]}

وقال علقمة بن عبيدة :

. . . . . . . . . *** لطيرهن دبيب{[6266]}

وفي حديث أبي عبيدة : فإذا دابة مثل الظرب{[6267]} يريد من حيوان البحر ، وتخصيصه بقول { في الأرض } إنما هو لأنه الأقرب لحسهم : والطائر والعائم إنما هو في الأرض ، وما مات من الحيوان قبل أن يتغذى فقد اغتذى في بطن أمه بوجه ما .

وهذه الآية تعطي أن الرزق كل ما صح الانتفاع به خلافاً للمعتزلة في قولهم إنه الحلال المتملك .

وقوله تعالى : { على الله } إيجاب لأنه تعالى لا يجب عليه شيء عقلاً . و «المستقر » : صلب الأب : و «المستودع » بطن الأم ، وقيل «المستقر » : المأوى ، و «المستودع » القبر ، وهما على هذا الطرفان ، وقيل «المستقر » ، ما حصل موجوداً من الحيوان ، والمستودع ما يوجد بعد . قال القاضي أبو محمد : و «المستقر » على هذا - مصدر استقر وليس بمفعول كمستودع لأن استقر لا يتعدى . وقوله : { في كتاب } إشارة إلى اللوح المحفوظ . وقال بعض الناس : هذا مجاز وهي إشارة إلى علم الله .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف وحمله على الظاهر أولى .


[6265]:- من قصيدة له يقول في مطلعها: صحا القلب من ذكرى قُتيلة بعد ما يكون لها مثل الأسير المكبّل والنياف: الطويلة التامة الحسن. والقطا: جمع قطاة، وهو نوع من اليمام يؤثر الحياة في الصحراء، ويتخذ أفحوصة في الأرض، ويطير في جماعات، ويقطع مسافات شاسعة، وبيضه مرقّط، ومشيته رشيقة، والمنهل: المورد، أي الموضع الذي فيه المشرب.
[6266]:-هو علقمة بن عبدة الفحل، أحد كبار الشعراء المعاصرين لامرئ القيس، والجملة جزء من بيت قاله ضمن قصيدته: طحا بك قلب في الحسان طروب، وهو بتمامه: كأنهم صابت عليهم سحابة صواعقها لطيرهن دبيب وصابت: أمطرت، والدبيب: المشي الضعيف الخفيف. والمعنى: إن الممدوح إذا هجم على أعدائه كان كالسحابة التي تتفجر بالصواعق وتتهاطل كالطير عجزت عن التحليق فدبت تطلب النجاة، وفي البيت حركة تصور الجيش في كرّه، والطبيعة في صواعقها، والطير في دبيبها على الأرض.
[6267]:-الحديث في البخاري "شركة ومغازي" وفي الموطأ "صفة النبي"، وفي مسند الإمام أحمد 3/ 306، ولفظه كما جاء في المسند عن جابر: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية ثلاثمائة، وأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، فنفذ زادنا، فجمع أبو عبيدة زادهم فجعله في مزود، فكان يقيتنا حتى كان يصيبنا كل يوم تمرة، فقال له رجل: يا أبا عبد الله، وما كانت تغني عنكم تمرة؟ قال: قد وجدنا فقدها حين ذهبت حتى انتهينا إلى الساحل، فإذا حوت مثل الظرب العظيم، قال: فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة، ثم أخذ أبو عبيدة ضلعين من أضلاعه فنصبهما ثم أمر براحلته فرحلت فمر تحتهما فلم يصبها شيء). والظرب: الجبل المنبسط، أو الجُبيل (بالتصغير) كما قال في أساس البلاغة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزۡقُهَا وَيَعۡلَمُ مُسۡتَقَرَّهَا وَمُسۡتَوۡدَعَهَاۚ كُلّٞ فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} (6)

عطف على جملة : { يعلم ما يُسرّون وما يعلنون } [ هود : 5 ] . والتقدير : وما من دابّة إلاّ يعلم مُستقرها ومُستودعها ، وإنما نُظم الكلام على هذا الأسلوب تفنناً لإفادة التنصيص على العموم بالنفي المؤكد ب ( من ) ، ولإدماج تعميم رزق الله كل دابّة في الأرض في أثناء إفادة عموم علمه بأحوال كل دابة ، فلأجل ذلك أخّرَ الفعل المعطوف لأن في التذكير بأن الله رازق الدواب التي لا حيلة لها في الاكتساب استدلالاً على أنّه عليم بأحوالها ، فإن كونه رازقاً للدواب قضية من الأصول الموضوعة المقبولة عند عموم البشر ، فمن أجل ذلك جعل رزق الله إياها دليلاً على علمه بما تحتاجه .

والدابة في اللغة : اسم لما يدب أي يمشي على الأرض غير الإنسان .

وزيادة { في الأرض } تأكيد لمعنى { دابة } في التنصيص على أن العموم مستعمل في حقيقته .

والرزق : الطعام ، وتقدم في قوله تعالى : { وجد عندها رزقاً } [ آل عمران : 37 ] .

والاستثناء من عموم الأحوال التابع لعموم الذوات والمدلول عليه بذكر رزقها الذي هو من أحوالها .

وتقديم { على الله } قبل متعلقه وهو { رزقها } لإفادة القصر ، أي على الله لا على غيره ، ولإفادة تركيب { على الله رزقها } معنى أن الله تكفّل برزقها ولم يهمله ، لأن ( على ) تدل على اللزوم والمحقوقية ، ومعلوم أن الله لاَ يُلْزمُهُ أحدٌ شيئاً ، فما أفاد معنى اللزوم فإنّما هو التزامه بنفسه بمقتضى صفاته المقتضية ذلك له كما أشار إليه قوله تعالى : { وعداً علينا } [ الأنبياء : 104 ] وقوله : { حقاً علينا } [ يونس : 103 ] .

والاستثناء من عموم ما يسند إليه رزق الدواب في ظاهر ما يبدو للناس أنّه رزق من أصحاب الدواب ومن يربونها ، أي رزْقها على الله لا على غيره . فالمستثنى هو الكون على الله ، والمستثنى منه مطلق الكون مما يُتخيّل أنه رزاق فحصر الرزق في الكون على الله مجاز عقلي في العرف باعتبار أن الله مسبب ذلك الرزق ومُقدره .

وجملة { ويعلم مُستقرّها ومُستودَعَها } عطف على جملة الاستثناء لا على المستثنى ، أي والله يعلم مستقر كلّ دابة ومستودَعها . فليس حكم هذه الجملة بداخل في حيّز الحصر .

والمستقَرّ : محلّ استقرارها . والمستودع : محلّ الإيداع ، والإيداع : الوضع والدخر . والمراد به مستودعها في الرحم قبل بروزها إلى الأرض كقوله : { وهو الذي أنشأكم من نفس واحدةٍ فمستقرً ومستودعً } في سورة [ الأنعام : 98 ] .

وتنوين { كلّ } تنوين عوض عن المضاف إليه اختصار ، أي كلّ رزقها ومستقرها ومستودعها في كتاب مبين ، أي كتابة ، فالكتاب هنا مصدر كقوله : { كتابَ الله عليكم } [ النساء : 24 ] . وهو مستعمل في تقدير العلم وتحقيقه بحيث لا يقبل زيادة ولا نقصاناً ولا تخلفاً . كما أن الكتابة يقصد منها أن لا يزاد في الأمر ولا ينقص ولا يبطل . قال الحارث بن حلزة :

حذر الجور والتطاخي وهل ينق *** ض ما في المهارق الأهواء

والمُبين : اسم فاعل أبان بمعنى : أظهر ، وهو تخييل لاستعارة الكتاب للتقدير . وليس المراد أنّه موضح لمن يطَالعه لأن علم الله وقدره لا يطلع عليه أحد .