{ 13 - 17 } { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ }
لما ذكر دعوة الرسل لقومهم ودوامهم على ذلك وعدم مللهم ، ذكر منتهى ما وصلت بهم الحال مع قومهم فقال : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ } متوعدين لهم { لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } وهذا أبلغ ما يكون من الرد ، وليس بعد هذا فيهم مطمع ، لأنه ما كفاهم أن أعرضوا عن الهدى بل توعدوهم بالإخراج من ديارهم ونسبوها إلى أنفسهم وزعموا أن الرسل لا حق لهم فيها ، وهذا من أعظم الظلم ، فإن الله أخرج عباده إلى الأرض ، وأمرهم بعبادته ، وسخر لهم الأرض وما عليها يستعينون بها على عبادته .
فمن استعان بذلك على عبادة الله حل له ذلك وخرج من التبعة ، ومن استعان بذلك على الكفر وأنواع المعاصي ، لم يكن ذلك خالصا له ، ولم يحل له ، فعلم أن أعداء الرسل في الحقيقة ليس لهم شيء من الأرض التي توعدوا الرسل بإخراجهم منها . وإن رجعنا إلى مجرد العادة فإن الرسل من جملة أهل بلادهم ، وأفراد منهم ، فلأي شيء يمنعونهم حقا لهم صريحا واضحا ؟ ! هل هذا إلا من عدم الدين والمروءة بالكلية ؟
ولهذا لما انتهى مكرهم بالرسل إلى هذه الحال ما بقي حينئذ إلا أن يمضي الله أمره ، وينصر أولياءه ، { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ } بأنواع العقوبات .
وهنا يسفر الطغيان عن وجهه . لا يجادل ولا يناقش ولايفكر ولا يتعقل ، لأنه يحس بهزيمته أمام انتصار العقيدة ، فيسفر بالقوة المادية الغليظة التي لا يملك غيرها المتجبرون :
( وقال الذين كفروا لرسلهم : لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا ) !
هنا تتجلى حقيقة المعركة وطبيعتها بين الإسلام والجاهلية . . إن الجاهلية لا ترضى من الإسلام أن يكون له كيان مستقل عنها . ولا تطيق أن يكون له وجود خارج عن وجودها . وهي لا تسالم الإسلام حتى لو سالمها . فالإسلام لا بد أن يبدو في صورة تجمع حركي مستقل بقيادة مستقلة وولاء مستقل ، وهذا ما لا تطيقه الجاهلية . لذلك لا يطلب الذين كفروا من رسلهم مجرد أن يكفوا عن دعوتهم ؛ ولكن يطلبون منهم أن يعودوا في ملتهم ، وأن يندمجوا في تجمعهم الجاهلي ، وأن يذوبوا في مجتمعهم فلا يبقى لهم كيان مستقل . وهذا ما تأباه طبيعة هذا الدين لأهله ، وما يرفضه الرسل من ثم ويأبونه ، فما ينبغي لمسلم أن يندمج في التجمع الجاهلي مرة أخرى . .
وعندما تسفر القوة الغاشمة عن وجهها الصلد لا يبقى مجال لدعوة ، ولا يبقى مجال لحجة ؛ ولا يسلم الله الرسل إلى الجاهلية . .
إن التجمع الجاهلي - بطبيعة تركيبه العضوي - لا يسمح لعنصر مسلم أن يعمل من داخله ، إلا أن يكون عمل المسلم وجهده وطاقته لحساب التجمع الجاهلي ، ولتوطيد جاهليته ! والذين يخيل إليهم أنهم قادرون على العمل لدينهم من خلال التسرب في المجتمع الجاهلي ، والتميع في تشكيلاته وأجهزته هم ناس لا يدركون الطبيعة العضوية للمجتمع . هذه الطبيعة التي ترغم كل فرد داخل المجتمع أن يعمل لحساب هذا المجتمع ولحساب منهجه وتصوره . . لذلك يرفض الرسل الكرام أن يعودوا في ملة قومهم بعد إذ نجاهم الله منها . .
وهنا تتدخل القوة الكبرى فتضرب ضربتها المدمرة القاضية التي لا تقف لها قوة البشر المهازيل ، وإن كانوا طغاة متجبرين :
( فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين . ولنسكننكم الأرض من بعدهم . ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ) .
ولا بد أن ندرك أن تدخل القوة الكبرى للفصل بين الرسل وقومهم إنما يكون دائما بعد مفاصلة الرسل لقومهم . . بعد أن يرفض المسلمون أن يعودوا إلى ملة قومهم بعد إذ نجاهم الله منها . . وبعد أن يصروا على تميزهم بدينهم وبتجمعهم الإسلامي الخاص بقيادته الخاصة . وبعد أن يفاصلوا قومهم على أساس العقيدة فينقسم القوم الواحد إلى أمتين مختلفتين عقيدة ومنهجا وقيادة وتجمعا . . عندئذ تتدخل القوة الكبرى لتضرب ضربتها الفاصلة ، ولتدمر على الطواغيت الذين يتهددون المؤمنين ، ولتمكن للمؤمنين في الأرض ، ولتحقق وعد الله لرسله بالنصر والتمكين . . . ولا يكون هذا التدخل أبدا والمسلمون متميعون في المجتمع الجاهلي ، عاملون من خلال أوضاعه وتشكيلاته ، غير منفصلين عنه ولا متميزين بتجمع حركي مستقل وقيادة إسلامية مستقلة . .
( فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ) . .
نون العظمة ونون التوكيد . . كلتاهما ذات ظل وإيقاع في هذا الموقف الشديد . لنهلكن المتجبرين المهددين ، المشركين الظالمين لأنفسهم وللحق وللرسل وللناس بهذا التهديد . .
{ وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنّكُمْ مّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنّ فِي مِلّتِنَا فَأَوْحَىَ إِلَيْهِمْ رَبّهُمْ لَنُهْلِكَنّ الظّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنّكُمُ الأرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } .
( شا يقول عزّ ذكره : وقال الذين كفروا بالله لرسلهم الذين أرسلوا إليهم حين دعوهم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له وفراق عبادة الاَلهة والأوثان : لَنُخْرِجَنّكُمْ مِنْ أرْضِنا يعنون : من بلادنا ، فنطردكم عنها . أوْ لَتَعُودُنّ في ملّتِنا يعنون : إلا أن تعودوا في ديننا الذي نحن عليه من عبادة الأصنام . وأدخلت في قوله : لَتَعُودُنّ لام ، وهو في معنى شرط ، كأنه جواب لليمين .
وإنما معنى الكلام : لنحرجنّكم من أرضنا أو تعودنّ في ملتنا ، ومعنى «أو » ههنا معنى «إلا » أو معنى «حتى » كما يقال في الكلام : لأضربنك أو تقرّ لي ، فمن العرب من يجعل ما بعد «أو » في مثل هذا الموضع عطفا على ما قبله ، إن كان ما قبله جزما جزموه ، وإن كان نصبا نصبوه ، وإن كان فيه لام جعلوا فيه لاما ، إذ كانت «أو » حرف نَسق . ومنهم من ينصب «ما » بعد «أو » بكل حال ، ليعلم بنصبه أنه عن الأوّل منقطع عما قبله ، كما قال امرؤ القيس :
بَكَى صَاحِبي لَمّا رأى الدّرْبَ دُونَهُ *** وأيْقَنَ أنّا لاحِقانِ بقَيْصَرَا
فَقُلْتُ لَهُ : لا تَبْكِ عَيْنُكَ إنّما *** نحاوِلُ مُلْكا أو نَمُوتَ فَنُعْذَرَا
فنصب «نموتَ فنعذرا » وقد رفع «نحاولُ » ، لأنه أراد معنى : إلا أن نموت ، أو حتى نموت ، ومنه قول الاَخر :
لا أسْتَطِيعُ نُزُوعا عَنْ مَوَدّتِها *** أو يَصْنَعُ الحُبّ بي غيرَ الّذِي صَنَعا
وقوله : فَأَوحَى إلَيْهِمْ رَبّهُمْ لَنُهْلِكَنّ الظّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم ، فأوجبوا لها عقاب الله بكُفرهم وقد يجوز أن يكون قيل لهم : الظالمون لعبادتهم ، مَنْ لا تجوز عبادته من الأوثان والاَلهة ، فيكون بوضعهم العبادة في غير موضعها إذ كان ظلما سُموا بذلك ظالمين .
{ وقال الذين كفروا لرسلهم لنُخرجنّكم من أرضنا أو لتعودنّ في ملّتنا } حلفوا على أن يكون أحد الأمرين ، إما إخراجهم للرسل أو عودهم إلى ملتهم ، وهو بمعنى الصيرورة لأنهم لم يكونوا على ملتهم قط ، ويجوز أن يكون الخطاب لكل رسول ومن آمن معه فغلبوا الجماعة على الواحد . { فأوحى إليهم ربهم } أي إلى رسلهم . { لنهلكنّ الظالمين } على إضمار القول ، أو إجراء الإيحاء مجراه لأنه نوع منه .
قوله : { أو لتعودن في ملتنا } قالت فرقة : { أو } هنا بمعنى : «إلا أن » كما هي في قول امرىء القيس : [ الطويل ]
فقلت له لا تبك عيناك إنما . . . نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا{[7027]}
قال القاضي أبو محمد : وتحمل { أو } في هذه الآية أن تكون على بابها لوقوع أحد الأمرين ، لأنهم حملوا رسلهم على أحد الوجهين ، ولا يحتمل بيت امرىء القيس ذلك ، لأنه لم يحاول أن يموت فيعذر ، فتخلصت بمعنى إلا أن ، ولذلك نصب الفعل بعدها . وقالت فرقة هي بمعنى «حتى » في الآية ، وهذا ضعيف ، وإنما تترتب كذلك في قوله : لألزمنك أو تقضيني حقي ، وفي قوله : لا يقوم زيد أو يقوم عمرو ، وفي هذه المثل كلها يحسن تقدير إلا أن .
و «العودة » أبداً إنما هي إلى حالة قد كانت ، والرسل ما كانوا قط في ملة الكفر ، فإنما المعنى : لتعودن في سكوتكم عنا وكونكم أغفالاً ، وذلك عند الكفار كون في ملتهم .
وخصص تعالى { الظالمين } من الذين كفروا إذ جائز أن يؤمن من الكفرة الذي قالوا المقالة ناس ، فإنما توعد بالإهلاك من خلص للظلم{[7028]} .
تغيير أسلوب الحكاية بطريق الإظهار دون الإضمار يؤذن بأن المراد ب { الذين كفروا } هنا غير الكافرين الذين تقدمت الحكاية عنهم فإن الحكاية عنهم كانت بطريق الإضمار . فالظاهر عندي أن المراد ب { الذين كفروا } هنا كفار قريش على طريقة التوجيه . وأن المراد ب { رُسُلِهم } الرسولُ محمّد صلى الله عليه وسلم أجريت على وصفه صيغة الجمع على طريق قوله : { الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون } في سورة غافر ( 70 ) . فإن المراد المشركون من أهل مكة كما هو مقتضى قوله : فسوف يعلمون وقوله : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } إلى قوله : { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب } [ سورة الحديد : 25 ] ، فإن المراد بالرسل في الموضعين الأخيرين الرسول محمد عليه الصلاة والسلام لأنه الرسول الذي أنزل معه الحديد ، أي القتال بالسيف لأهل الدعوة المكذبين ، وقوله : { فكذبوا رسلي } في سورة سبأ ( 45 ) على أحد تفسيرين في المراد بهم وهو أظهرهما .
وإطلاق صيغة الجمع على الواحد مجاز : إما استعارة إن كان فيه مراعاة تشبيه الواحد بالجمع تعظيماً له كما في قوله تعالى : { قال رب ارجعون } [ سورة المؤمنون : 99 ] .
وإما مجاز مرسل إذا روعي فيه قصد التعمية ، فعلاقته الإطلاق والتقييد . والعدول عن الحقيقة إليه لقصد التعمية .
فلا جرم أن يكون المراد { بالذين كفروا } هنا كفار مكة ويؤيده قوله بعد ذلك { ولنسكننكم الأرض من بعدهم } فإنه لا يعرف أن رسولاً من رسل الأمم السالفة دخل أرض مكذّبيه بعد هلاكهم وامتلكها إلا النبي محمداً صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع « منزلُنا إن شاء الله غداً بالخَيْف خَيْفَ بني كنانة حيثُ تقاسموا على الكفر » .
وعلى تقدير أن يكون المراد ب { الذين كفروا } في هذه الآية نفس المراد من الأقوام السالفين فالإظهار في مقام الإضمار لزيادة تسجيل اتصافهم بالكفر حتى صار الخصلة التي يعرفون بها . وعلى هذا التقدير يكون المراد من الرسل ظاهرَ الجمع فيكون هذا التوعد سنة الأمم ويكون الإيماء إليهم به سنة الله مع رسله .
وتأكيد توعدهم بالإخراج بلام القسم ونون التوكيد ضراوة في الشر .
و ( أو ) لأحد الشيئين ، أقسموا على حصول أحد الأمرين لا محالة ، أحدهما من فعل المقسمين ، والآخر من فعل مَن خوطب بالقسم ، وليست هي { أو } التي بمعنى { إلى } أو بمعنى { إلاّ .
والعود : الرجوع إلى شيء بعد مفارقته . ولم يكن أحد من الرسل متبعاً ملّة الكفر بل كانوا منعزلين عن المشركين دون تغيير عليهم ، فكان المشركون يحسبونهم موافقين لهم ، وكان الرسُل يتجنبون مجتمعاتهم بدون أن يشعروا بمجانبتهم ، فلما جاءُوهم بالحق ظنّوهم قد انتقلوا من موافقتهم إلى مخالفتهم فطلبوا منهم أن يعودوا إلى ما كانوا يحسبونهم عليه .
والظرفية في قوله : { في ملتنا } مجازية مستعملة في التمكن من التلبس بالشيء المتروك فكأنه عاد إليه .
والملّة : الدين . وقد تقدم عند قوله تعالى : { ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً } في آخر سورة الأنعام ( 161 ) ، وانظر قوله : { فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً } في أوائل سورة آل عمران ( 95 ) .
وتفريع جملة { فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين } على قول الذين كفروا لرسلهم { لنخرجنكم من أرضنا } [ سورة إبراهيم : 13 ] الخ تفريع على ما يَقتضيه قول الذين كفروا من العزم على إخراج الرسل من الأرض ، أي أوحى الله إلى الرسل ما يثبت به قلوبهم ، وهو الوعد بإهلاك الظالمين .
وجملة { لنهلكن الظالمين } بيان لجملة ( أوحى . . ) .
وإسكان الأرض : التمكين منها وتخويلها إياهم ، كقوله : { وأورثكم أرضهم وديارهم } [ سورة الأحزاب : 27 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
كان أذاهم للرسل أن قالوا: {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا}، يعني دينهم الكفر، فهذا الأذى الذي صبروا عليه، {فأوحى إليهم ربهم}، يعني إلى الرسل، {لنهلكن الظالمين}، يعني المشركين في الدنيا ولننصرنكم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول عزّ ذكره: وقال الذين كفروا بالله لرسلهم الذين أرسلوا إليهم، حين دعوهم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له، وفراق عبادة الآلهة والأوثان= "لنخرجنَّكم من أرضنا"، يعنون: من بلادنا فنطردكم عنها، "أو لتعودن في مِلّتنا"، يعنون: إلا أن تَعُودوا في دِيننا الذي نحن عليه من عبادة الأصنام.
وأدخلت في قوله: "لتعودُنَّ ""لام"، وهو في معنى شرطٍ، كأنه جواب لليَمين، وإنما معنى الكلام: لنخرجَنكم من أرضنا، أو تعودون في ملتنا.
ومعنى "أو" ههنا معنى "إلا" أو معنى "حتى" كما يقال في الكلام: لأضربنك أوْ تُقِرَّ لي... وقوله: "فأوحَى إليهم ربُّهم لنُهلكنَّ الظالمين"، الذين ظلموا أنفسهم، فأوجبوا لها عقاب الله بكفرهم. وقد يجوز أن يكون قيل لهم: الظالمون لعبادتهم من لا تجوز عبادته من الأوثان والآلهة، فيكون بوضعهم العبادةَ في غير موضعها، إذ كان ظلمًا، سُمُّوا بذلك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... في وعيدهم الذي أوعدوا الرسل وجوه ثلاثة حين تجاسروا إقبال الرسل بمثل هذا الوعيد، ومع الرسل آيات وحجج:
أحدهما: أنهم رأوا أنفسهم مسلطين على أولئك قاهرين عليهم، وكانوا أهل كبر وتجبر...
والثاني: قالوا ذلك لهم لما لم يكن عندهم ما يدفعون حجج الرسل وبراهينهم، فهموا بقتلهم وإخراجهم بعجزهم عن دفع ما ألزمهم الرسل...
والثالث: جواب الرسل إياهم عند القول السيء بالقول الذي ليس فوقه أحسن منه... وقوله تعالى: {أو لتعودن في ملتنا} ليس أنهم كانوا فيها فتركوها، ولكن على ابتداء الدخول فيها على ما ذكرنا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لما عجز الأعداءُ عن معارضة الأنبياء عليهم السلام في الإتيان بمثل آياتهم أخذوا في الجفاء معهم بأنواع الإنذار، والتهديد بفنون البلاء من الإخراج عن الأوطان، والتشريد في البلدان، وبسط الله على قلوبهم بوعد نصره ولقائه ما أظلَّهم من الأمر، ومَكَّن لهم من مساكن أعدائهم بما قَوَّى قلوبهم على الصبر على مقاساة بلائهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَنُخْرِجَنَّكُمْ}، {أَوْ لَتَعُودُنَّ} ليكونن أحد الأمرين لا محالة، إما إخراجكم إما عودكم حالفين على ذلك.
فإن قلت: كأنهم كانوا على ملتهم حتى يعودوا فيها. قلت: معاذ الله، ولكن العود بمعنى الصيرورة، وهو كثير في كلام العرب كثرة فاشية لا تكاد تسمعهم يستعملون صار، ولكن عاد، ما عدت أراه، عاد لا يكلمني، ما عاد لفلان مال. أو خاطبوا به كل رسول ومن آمن به، فغلبوا في الخطاب الجماعة على الواحد...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله: {أو لتعودن في ملتنا} قالت فرقة: {أو} هنا بمعنى: «إلا أن»...
وتحمل {أو} في هذه الآية أن تكون على بابها لوقوع أحد الأمرين، لأنهم حملوا رسلهم على أحد الوجهين... وقالت فرقة هي بمعنى «حتى» في الآية، وهذا ضعيف، وإنما تترتب كذلك في قوله: لألزمنك أو تقضيني حقي، وفي قوله: لا يقوم زيد أو يقوم عمرو، وفي هذه المثل كلها يحسن تقدير إلا أن.
و «العودة» أبداً إنما هي إلى حالة قد كانت، والرسل ما كانوا قط في ملة الكفر، فإنما المعنى: لتعودن في سكوتكم عنا وكونكم أغفالاً، وذلك عند الكفار كون في ملتهم.
وخصص تعالى {الظالمين} من الذين كفروا إذ جائز أن يؤمن من الكفرة الذي قالوا المقالة ناس، فإنما توعد بالإهلاك من خلص للظلم.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
خَيَّرَ الْكُفَّارُ الرُّسُلَ بَيْنَ أَنْ يَعُودُوا فِي مِلَّتِهِمْ أَوْ يُخْرِجُوهُمْ من أَرْضِهِمْ؛ وَهَذِهِ سِيرَةُ اللَّهِ فِي رُسُلِهِ وَعِبَادِهِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ...} الآيتين...
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الأنبياء عليهم السلام، أنهم اكتفوا في دفع شرور أعدائهم بالتوكل عليه والاعتماد على حفظه وحياطته، حكى عن الكفار أنهم بالغوا في السفاهة وقالوا: {لنخرجنكم من أرضنآ أو لتعودن في ملتنا} والمعنى: ليكونن أحد الأمرين لا محالة إما إخراجكم وإما عودتكم إلى ملتنا. والسبب فيه أن أهل الحق في كل زمان قليلون، وأهل الباطل يكونون كثيرين، والظلمة والفسقة يكونون متعاونين متعاضدين، فلهذه الأسباب قدروا على هذه السفاهة.
فإن قيل: هذا يوهم أنهم كانوا على ملتهم في أول الأمر حتى يعودوا فيها.
الوجه الأول: أن أولئك الأنبياء عليهم السلام إنما نشؤوا في تلك البلاد وكانوا من تلك القبائل في أول الأمر ما أظهروا المخالفة مع أولئك الكفار، بل كانوا في ظاهر الأمر معهم من غير إظهار مخالفة فالقوم ظنوا لهذا السبب أنهم كانوا في أول الأمر على دينهم فلهذا السبب قالوا: {أو لتعودن في ملتنا}.
الوجه الثاني: أن هذا حكاية كلام الكفار ولا يجب في كل ما قالوه أن يكونوا صادقين فيه فلعلهم توهموا ذلك مع أنه ما كان الأمر كما توهموه.
الوجه الثالث: لعل الخطاب وإن كان في الظاهر مع الرسل إلا أن المقصود بهذا الخطاب أتباعهم وأصحابهم ولا بأس أن يقال: إنهم كانوا قبل ذلك الوقت على دين أولئك الكفار...
الوجه السادس: لا يبعد أن يكون المعنى: أو لتعودن في ملتنا، أي إلى ما كنتم عليه قبل ادعاء الرسالة من السكوت عن ذكر عيوب ديننا وعدم التعرض له بالطعن والقدح وعلى جميع هذه الوجوه فالسؤال زائل، والله أعلم.
واعلم أن الكفار لما ذكروا هذا الكلام قال تعالى: {فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم}... والمراد بالأرض أرض الظالمين وديارهم ونظيره قوله: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها}. {وأورثكم أرضهم وديارهم}... واعلم أن هذه الآية تدل على أن من توكل على ربه في دفع عدوه كفاه الله أمر عدوه.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
لما أقسموا بهم على إخراج الرسل والعودة في ملتهم، أقسم تعالى على إهلاكهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما انقضت هذه المحاورة وقد علم منها كل منصف ما عليه الرسل من الحلم والعلم والحكمة، وما عليه مخالفهم من الضلال والجهل والعناد، وكان في الكلام ما ربما أشعر بانقضائه، ابتدأ تعالى عنهم محاورة أخرى، عاطفاً لها على ما مضى، فقال: {وقال الذين كفروا لرسلهم} مستهينين بمن قصروا التجاءهم عليه، مؤكدين لاستشعارهم بإنكار من رأى مدافعة الله عن أوليائه لقولهم: والذي يحلف به! ليكونن أحد الأمرين: {لنخرجنكم من أرضنا} أي التي لنا الآن الغلبة عليها {أو لتعودن في ملتنا} بأن تكفوا عن معارضتنا كما كنتم قبل دعوى الرسالة... {فأوحى إليهم} أي كلمهم في خفاء بسبب توعد أممهم لهم، مختصاً لهم بذلك {ربهم} المحسن إليهم الذي توكلوا عليه، تسكيناً لقلوبهم وتسلية لنفوسهم... {لنهلكن} بما لنا من العظمة المقتضية لنفوذ الأمر؛ والإهلاك: إذهاب الشيء إلى حيث لا يقع عليه الإحساس {الظالمين} أي العريقين في الظلم
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} لعل هؤلاء القائلين بعضُ المتمردين العاتين الغالين في الكفر من أولئك الأممِ الكافرة التي نُقِلت مقالاتُهم الشنيعة دون جميعهم كقوم شعيبٍ وأضرابِهم ولذلك لم يُقل وقالوا {لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ منْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنَا} لم يقنَعوا بعصيانهم الرسلَ ومعاندتهم الحقَّ بعد ما رأوا البيناتِ الفائتةَ للحصر حتى اجترأوا على مثل هاتيك العظيمةِ التي لا يكاد يحيط بها دائرةُ الإمكانِ فحلفوا على أن يكون أحدُ المُحالَيْن، والعَودُ إما بمعنى مطلق الصيرورة أو باعتبار تغليبِ المؤمنين على الرسل... {فأوحى إِلَيْهِمْ} أي إلى الرسل {ربُّهُمْ} مالكِ أمرهم عند تناهي كفرِ الكفرة وبلوغِهم من العتو إلى غاية لا مطمَعَ بعدها في إيمانهم {لَنُهْلِكَنَّ الظالمين}...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
بعد أن ذكر ما دار من الحوار والجدل بين الرسل وأقوامهم، وذكر الحجج التي أدلى بها الرسل، وقد كان فيها المقنع لمن أراد الله له الهداية والتوفيق، ومن كان له قلب يعي به الحكمة وفصل الخطاب، ذكر هنا أنهم بعد أن أفحموا لم يجدوا وسيلة إلا استعمال القوة مع أنبيائهم كما هو دأب المحجوج المغلوب في الخصومة، فخيروا رسلهم بين أحد أمرين: إما الخروج من الديار، وإما العودة إلى الملة التي عليها الآباء والأجداد، فأوحى الله إلى أنبيائه أن العاقبة لكم، وستدور عليهم الدائرة، وستحلون محلهم في ديارهم وسيعذبون في الآخرة بنار جهنم، ويرون ألوانا من العذاب لا قبل لهم بها.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
لما ذكر دعوة الرسل لقومهم ودوامهم على ذلك وعدم مللهم، ذكر منتهى ما وصلت بهم الحال مع قومهم فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ} متوعدين لهم {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} وهذا أبلغ ما يكون من الرد، وليس بعد هذا فيهم مطمع، لأنه ما كفاهم أن أعرضوا عن الهدى بل توعدوهم بالإخراج من ديارهم ونسبوها إلى أنفسهم وزعموا أن الرسل لا حق لهم فيها، وهذا من أعظم الظلم، فإن الله أخرج عباده إلى الأرض، وأمرهم بعبادته، وسخر لهم الأرض وما عليها يستعينون بها على عبادته. فمن استعان بذلك على عبادة الله حل له ذلك وخرج من التبعة، ومن استعان بذلك على الكفر وأنواع المعاصي، لم يكن ذلك خالصا له، ولم يحل له، فعلم أن أعداء الرسل في الحقيقة ليس لهم شيء من الأرض التي توعدوا الرسل بإخراجهم منها. وإن رجعنا إلى مجرد العادة فإن الرسل من جملة أهل بلادهم، وأفراد منهم، فلأي شيء يمنعونهم حقا لهم صريحا واضحا؟! هل هذا إلا من عدم الدين والمروءة بالكلية؟ ولهذا لما انتهى مكرهم بالرسل إلى هذه الحال ما بقي حينئذ إلا أن يمضي الله أمره، وينصر أولياءه، {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} بأنواع العقوبات...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هنا يسفر الطغيان عن وجهه؛ لا يجادل ولا يناقش ولا يفكر ولا يتعقل، لأنه يحس بهزيمته أمام انتصار العقيدة، فيسفر بالقوة المادية الغليظة التي لا يملك غيرها المتجبرون: (وقال الذين كفروا لرسلهم: لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا)! هنا تتجلى حقيقة المعركة وطبيعتها بين الإسلام والجاهلية.. إن الجاهلية لا ترضى من الإسلام أن يكون له كيان مستقل عنها. ولا تطيق أن يكون له وجود خارج عن وجودها. وهي لا تسالم الإسلام حتى لو سالمها. فالإسلام لا بد أن يبدو في صورة تجمع حركي مستقل بقيادة مستقلة وولاء مستقل، وهذا ما لا تطيقه الجاهلية. لذلك لا يطلب الذين كفروا من رسلهم مجرد أن يكفوا عن دعوتهم؛ ولكن يطلبون منهم أن يعودوا في ملتهم، وأن يندمجوا في تجمعهم الجاهلي، وأن يذوبوا في مجتمعهم فلا يبقى لهم كيان مستقل. وهذا ما تأباه طبيعة هذا الدين لأهله، وما يرفضه الرسل من ثم ويأبونه، فما ينبغي لمسلم أن يندمج في التجمع الجاهلي مرة أخرى.. وعندما تسفر القوة الغاشمة عن وجهها الصلد لا يبقى مجال لدعوة، ولا يبقى مجال لحجة؛ ولا يسلم الله الرسل إلى الجاهلية.. إن التجمع الجاهلي -بطبيعة تركيبه العضوي- لا يسمح لعنصر مسلم أن يعمل من داخله، إلا أن يكون عمل المسلم وجهده وطاقته لحساب التجمع الجاهلي، ولتوطيد جاهليته! والذين يخيل إليهم أنهم قادرون على العمل لدينهم من خلال التسرب في المجتمع الجاهلي، والتميع في تشكيلاته وأجهزته هم ناس لا يدركون الطبيعة العضوية للمجتمع. هذه الطبيعة التي ترغم كل فرد داخل المجتمع أن يعمل لحساب هذا المجتمع ولحساب منهجه وتصوره.. لذلك يرفض الرسل الكرام أن يعودوا في ملة قومهم بعد إذ نجاهم الله منها.. وهنا تتدخل القوة الكبرى فتضرب ضربتها المدمرة القاضية التي لا تقف لها قوة البشر المهازيل، وإن كانوا طغاة متجبرين: (فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين. ولنسكننكم الأرض من بعدهم. ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد). ولا بد أن ندرك أن تدخل القوة الكبرى للفصل بين الرسل وقومهم إنما يكون دائما بعد مفاصلة الرسل لقومهم.. بعد أن يرفض المسلمون أن يعودوا إلى ملة قومهم بعد إذ نجاهم الله منها.. وبعد أن يصروا على تميزهم بدينهم وبتجمعهم الإسلامي الخاص بقيادته الخاصة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تغيير أسلوب الحكاية بطريق الإظهار دون الإضمار يؤذن بأن المراد ب {الذين كفروا} هنا غير الكافرين الذين تقدمت الحكاية عنهم فإن الحكاية عنهم كانت بطريق الإضمار. فالظاهر عندي أن المراد ب {الذين كفروا} هنا كفار قريش على طريقة التوجيه. وأن المراد ب {رُسُلِهم} الرسولُ محمّد صلى الله عليه وسلم... وإطلاق صيغة الجمع على الواحد مجاز: إما استعارة إن كان فيه مراعاة تشبيه الواحد بالجمع تعظيماً له... وإما مجاز مرسل إذا روعي فيه قصد التعمية، فعلاقته الإطلاق والتقييد. والعدول عن الحقيقة إليه لقصد التعمية...
المراد {بالذين كفروا} هنا كفار مكة ويؤيده قوله بعد ذلك {ولنسكننكم الأرض من بعدهم} فإنه لا يعرف أن رسولاً من رسل الأمم السالفة دخل أرض مكذّبيه بعد هلاكهم وامتلكها إلا النبي محمداً صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع « منزلُنا إن شاء الله غداً بالخَيْف خَيْفَ بني كنانة حيثُ تقاسموا على الكفر». وعلى تقدير أن يكون المراد ب {الذين كفروا} في هذه الآية نفس المراد من الأقوام السالفين فالإظهار في مقام الإضمار لزيادة تسجيل اتصافهم بالكفر حتى صار الخصلة التي يعرفون بها. وعلى هذا التقدير يكون المراد من الرسل ظاهرَ الجمع فيكون هذا التوعد سنة الأمم ويكون الإيماء إليهم به سنة الله مع رسله. وتأكيد توعدهم بالإخراج بلام القسم ونون التوكيد ضراوة في الشر...
والعود: الرجوع إلى شيء بعد مفارقته. ولم يكن أحد من الرسل متبعاً ملّة الكفر بل كانوا منعزلين عن المشركين دون تغيير عليهم، فكان المشركون يحسبونهم موافقين لهم، وكان الرسُل يتجنبون مجتمعاتهم بدون أن يشعروا بمجانبتهم، فلما جاءُوهم بالحق ظنّوهم قد انتقلوا من موافقتهم إلى مخالفتهم فطلبوا منهم أن يعودوا إلى ما كانوا يحسبونهم عليه...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
فلم يقل لنهلكنهم، بل {لنهلكن الظالمين} لبيان سبب الهلاك وهو الظلم، وقد ظلم هؤلاء إذ لم يؤمنوا وأشركوا {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان 13]، وظلموا فتعنتوا وطلبوا آيات أخرى وقد جاءتهم البينات، وظلموا بإيذاء المؤمنين وظلموا أشد الظلم فهموا بإخراج الرسول ومن معه، وحاولوا فتنة المؤمنين ليكفروا بعد إيمان، ولم يتركوا بابا من أبواب الظلم إلا دخلوه {وما الله يريد ظلما للعباد} [غافر 31]...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا} إشارة إلى ما يحاوله الكفار من الضغط على الرسل بغية التسليم لهم بملتهم، وما يهددونهم به من النفي والإبعاد عن أرضهم إن لم يذعنوا لضغطهم...
وهكذا نرى أن فاشية الخير حين فَشَت في الناس، يغضب منها المستفيدون من الفساد والذين يعيشون عليه؛ ويتجه تفكير المفسدين إلى ضرورة إخراج خمائر الخير من الأرض التي يعيش المفسدون على الاستفادة من أهلها. وإن عزّت الأرض على خمائر الخير، فعليهم أن يعلنوا عودتهم إلى ديانة الكافرين... ولم يقبل الرسل تلك المُسَاومة، ذلك أن الحق سبحانه وتعالى يُنزل جنود التثبيت والطمأنينة والسكينة على قلوب رُسُله والمؤمنين؛ فلا يتأثر الرسل ومن معهم بمثل هذا الكلام.
وهذا ما يعبّر عنه قول الحق سبحانه في آخر الآية:
{فأوحى إليهم ربهم لنُهلكنّ الظالمين}.
وهكذا يأتي القانون السماوي بالعدل وهو إهلاك الظالمين، وتلك قضية إيمانية باقية ودائمة أبدا.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}، إنه موقف أخير وإنذار حاسم، لا مجال معه للتسويات بينهم وبين الرسل، فلا بد من أن ينسجم الرسل مع الأجواء العامة التي تحكم حياة أقوامهم، لجهة ما يعتنقونه من أفكار، وما يضعونه من مشاريع، وما يتخذونه من مواقف، وإلا فليلتمسوا بلاداً أخرى يعيشون فيها، حتى لا يهدموا وحدة الأمة، وبذلك فإن العودة في ملة الكفار التي اشترطها أولئك على الرسل لا تعني أن الرسل كانوا كفاراً كما يدل المعنى الحرفي للعبارة، لأن ذلك لا ينسجم مع التاريخ الإيماني للرسل، بل إنهم كانوا غير معارضين بالمعنى الحركي للكلمة، وإن كانوا كذلك بالمعنى الفكري للإيمان. وهكذا وقف الكافرون ليطرحوا عليهم الابتعاد عن خط المعارضة والتحدّي في حركة الإيمان تحت تأثير التهديد بالإبعاد عن أرضهم. إنهم يستضعفون الرسل ليخضعوا لمنطق القوّة، لأن الرسول كان وحيداً في البداية والجميع ضدّه إلا من اتبعه من الضعفاء.
ولكن الله لا يترك رسله لهذا الموقف الذي يضغط عليهم بكل قوّته وجبروته، {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ}، فهذه هي إرادة الله في إهلاك هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، وظلموا الناس من حولهم، بعد أن أقام الله عليهم الحجة تلو الحجة من خلال الرسل، فلم يأخذوا بأسباب الإيمان، بل أمعنوا في خط الكفر والعناد والضلال. وهكذا أراد الله أن يعيش الرسل الشعور بالقوّة، عندما يتابعون الموقف بصلابةٍ وقوّة، ويستقرُّون في أرضهم بعد أن يخرج منها الظالمون إلى غير رجعة بعد أن يهلكهم الله.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنّكم من أرضنا أو لتعودنّ في ملّتنا) وكأنّ هؤلاء القوم يعتبرون جميع ما في الأرض ملكهم، حتّى إنّهم لم يمنحوا لرسلهم حقوق المواطنة، ولذلك يقولون «أرضنا». وفي الحقيقة فإنّ الله سبحانه وتعالى خلق الأرض وكلّ مواهبها للصالحين، وهؤلاء الجبابرة في الواقع ليس لهم أي حقّ فيها...