مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمۡ لَنُخۡرِجَنَّكُم مِّنۡ أَرۡضِنَآ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَاۖ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡهِمۡ رَبُّهُمۡ لَنُهۡلِكَنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (13)

قوله تعالى :{ وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ، ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ، واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ، من ورائه جهنم ويسقى من ماء من صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ } .

اعلم أنه تعالى لما حكى عن الأنبياء عليهم السلام ، أنهم اكتفوا في دفع شرور أعدائهم بالتوكل عليه والاعتماد على حفظه وحياطته ، حكى عن الكفار أنهم بالغوا في السفاهة وقالوا : { لنخرجنكم من أرضنآ أو لتعودن في ملتنا } والمعنى : ليكونن أحد الأمرين لا محالة إما إخراجكم وإما عودتكم إلى ملتنا . والسبب فيه أن أهل الحق في كل زمان قليلون ، وأهل الباطل يكونون كثيرين ، والظلمة والفسقة يكونون متعاونين متعاضدين ، فلهذه الأسباب قدروا على هذه السفاهة .

فإن قيل : هذا يوهم أنهم كانوا على ملتهم في أول الأمر حتى يعودوا فيها .

قلنا : الجواب من وجوه :

الوجه الأول : أن أولئك الأنبياء عليهم السلام إنما نشؤوا في تلك البلاد وكانوا من تلك القبائل في أول الأمر ما أظهروا المخالفة مع أولئك الكفار ، بل كانوا في ظاهر الأمر معهم من غير إظهار مخالفة فالقوم ظنوا لهذا السبب أنهم كانوا في أول الأمر على دينهم فلهذا السبب قالوا : { أو لتعودن في ملتنا } .

الوجه الثاني : أن هذا حكاية كلام الكفار ولا يجب في كل ما قالوه أن يكونوا صادقين فيه فلعلهم توهموا ذلك مع أنه ما كان الأمر كما توهموه .

الوجه الثالث : لعل الخطاب وإن كان في الظاهر مع الرسل إلا أن المقصود بهذا الخطاب أتباعهم وأصحابهم ولا بأس أن يقال : إنهم كانوا قبل ذلك الوقت على دين أولئك الكفار .

الوجه الرابع : قال صاحب «الكشاف » : العود بمعنى الصيرورة كثير في كلام العرب .

الوجه الخامس : لعل أولئك الأنبياء كانوا قبل إرسالهم على ملة من الملل ، ثم إنه تعالى أوحى إليهم بنسخ تلك الملة وأمرهم بشريعة أخرى . وبقي الأقوام على تلك الشريعة التي صارت منسوخة مصرين على سبيل الكفر ، وعلى هذا التقدير فلا يبعد أن يطلبوا من الأنبياء أن يعودوا إلى تلك الملة .

الوجه السادس : لا يبعد أن يكون المعنى : أو لتعودن في ملتنا ، أي إلى ما كنتم عليه قبل إدعاء الرسالة من السكوت عن ذكر عيوب ديننا وعدم التعرض له بالطعن والقدح وعلى جميع هذه الوجوه فالسؤال زائل ، والله أعلم .

واعلم أن الكفار لما ذكروا هذا الكلام قال تعالى : { فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم } قال صاحب «الكشاف » : { لنهلكن الظالمين } حكاية تقتضي إضمار القول أو إجراء الإيحاء مجرى القول لأنه ضرب منه ، وقرأ أبو حيوة : { ليهلكن الظالمين وليسكننكم } بالياء اعتبارا لأوحى فإن هذا اللفظ لفظ الغيبة ونظيره قولك أقسم زيد ليخرجن ولأخرجن ، والمراد بالأرض أرض الظالمين وديارهم ونظيره قوله : { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها } . { وأورثكم أرضهم وديارهم } وعن النبي صلى الله عليه وسلم :« من آذى جاره أورثه الله داره » واعلم أن هذه الآية تدل على أن من توكل على ربه في دفع عدوه كفاه الله أمر عدوه .

ثم قال تعالى : { ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد } فقوله ذلك إشارة إلى أن ما قضى الله تعالى به من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم أثر ذلك الأمر حق لمن خاف مقامي وفيه وجوه : الأول : المراد موقفي وهو موقف الحساب ، لأن ذلك الموقف موقف الله تعالى الذي يقف فيه عباده يوم القيامة ، ونظيره قوله : { وأما من خاف مقام ربه } وقوله : { ولمن خاف مقام ربه جنتان } . الثاني : أن المقام مصدر كالقيامة ، يقال : قام قياما ومقاما ، قال الفراء : ذلك لمن خاف قيامي عليه ومراقبتي إياه كقوله : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } . الثالث : { ذلك لمن خاف مقامي } أي إقامتي على العدل والصواب فإنه تعالى لا يقضي إلا بالحق ولا يحكم إلا بالعدل وهو تعالى مقيم على العدل والصواب لا يميل عنه ولا ينحرف البتة . الرابع : { ذلك لمن خاف مقامي } أي مقام العائذ عندي وهو من باب إضافة المصدر إلى المفعول ، الخامس : { ذلك لمن خاف مقامي } أي لمن خافني ، وذكر المقام ههنا مثل ما يقال : سلام الله على المجلس الفلاني العالي ، والمراد : سلام الله على فلان فكذا ههنا .

ثم قال تعالى : { وخاف وعيد } قال الواحدي : الوعيد اسم من أوعد إيعادا وهو التهديد . قال ابن عباس : خاف ما أوعدت من العذاب .

واعلم أنه تعالى ذكر أولا قوله : { ذلك لمن خاف مقامي } ثم عطف قوله : { وخاف وعيد } فهذا يقتضي أن يكون الخوف من الله تعالى مغايرا للخوف من وعيد الله ، ونظيره : أن حب الله تعالى مغاير لحب ثواب الله ، وهذا مقام شريف عال في أسرار الحكمة والتصديق .