يخبر تعالى عن حال الذين كفروا في يوم القيامة ، وأنه لا يقبل لهم عذر ولا يرفع عنهم العقاب ، وأن شركاءهم تتبرأ منهم ويقرون على أنفسهم بالكفر والافتراء على الله فقال : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا } ، يشهد عليهم بأعمالهم ، وماذا أجابوا به الداعي إلى الهدى ، وذلك الشهيد الذي يبعثه الله أزكى الشهداء وأعدلهم ، وهم الرسل الذين إذا شهدوا تم عليهم الحكم .
ف { لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا } ، في الاعتذار ؛ لأن اعتذارهم بعد ما علم يقينا بطلان ما هم عليه ، اعتذار كاذب لا يفيدهم شيئا .
قال الإِمام الرازي : اعلم أنه - تعالى - لما بين حال القوم ، أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها ، وذكر أيضا من حالهم أن أكثرهم الكافرون أتبعه بالوعيد ، فذكر حال يوم القيامة فقال : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً . . . } ، وذلك يدل على أن أولئك الشهداء يشهدون عليهم بذلك الإِنكار ، وبذلك الكفر ، والمراد بهؤلاء الشهداء : الأنبياء ، كما قال - تعالى - : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } ، والمعنى : واذكر - أيها العاقل لتعتبر وتتعظ - { يَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ } ، أي : جماعة من الناس ، { شهيدا } ، يشهد للمؤمن بالإِيمان ويشهد على الكافر بالكفر .
قال ابن عباس : شهيد كل أمة نبيها يشهد لهم بالإِيمان والتصديق ، وعليهم بالكفر والتكذيب .
وقوله : { ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } ، بيان للمصير السيئ الذي ينتظر هؤلاء الكافرين يوم القيامة . أي : ثم لا يؤذن للذين كفروا يوم القيامة في الاعتذار عما كانوا عليه في الدنيا من عقائد زائفة ، وأقوال باطلة ، وأفعال قبيحة ، كما قال - تعالى - في سورة أخرى : { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } ، أو المعنى : ثم لا يؤذن لهم في الرجوع إلى الدنيا ليتداركوا ما فاتهم من عقائد سليمة وأعمال صالحة ؛ لأنهم قد تركوها ولا عودة لهم إليها . أي : ثم لا يؤذن لهم في الكلام ، بعد أن ثبت بطلانه ، وقامت عليهم الحجة . والتعبير بثم للإشعار بأن مصيبتهم بسبب عدم قبول أعذارهم ، أشد من مصيبتهم بسبب شهادة الأنبياء عليهم .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما معنى : " ثم " هذه ؟ .
قلت : معناها أنهم يبتلون بعد شهادة الأنبياء بما هو أطم منها ، وهو أنهم يمنعون الكلام ، فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ولا إدلاء بحجة .
وقوله - سبحانه - : { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } ، تيئيس آخر لهم في الحصول على شيء من رحمة الله - تعالى - ، أي : لا يؤذن لهم في الاعتذار ، ولا يقبل منهم أن يزيلوا عتب ربهم ، أي : غضبه وسخطه عليهم ؛ لأن العتاب إنما يطلب لأجل معاودة الرضا من العاتب ، وهؤلاء قد انسد عليهم هذا الطريق ، لأن الله - تعالى - قد سخط عليهم سخطا لا مجال لإِزالته ، بعد أن أصروا على كفرهم في الدنيا وماتوا على ذلك .
قال القرطبي : قوله : { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } ، أي : لا يكلفون أن يرضوا ربهم ؛ لأن الآخرة ليست بدار تكليف ، ولا يتركون إلى رجوع الدنيا فيتوبون .
وأصل الكلمة من العَتْب - بفتح العين وسكون التاء - ، وهي الموجدة . يقال : عَتَب عليه يُعتِب ، إذا وجد عليه ، فإذا فاوضه فيما عتب عليه فيه ، قيل : عاتبه ، فإذا رجع إلى مسرتك فقد أعتب ، والاسم العتبى ، وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضى العاتب .
فإن كنتُ مظلوما فعبدا ظلمتَه . . . وإن كنتَ ذا عُتْبَى فمثلك يُعتِبُ
وبذلك ترى الآية الكريمة قد نفت عن الذين كفروا قبول أعذارهم ، وقبول محاولتهم إرضاء ربهم عما كانوا عليه من كفر وزيغ فى الدنيا .
الواو عاطفة جملة { يوم نبعث } الخ على جملة { فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين } [ سورة النحل : 82 ] بتقدير : واذكر يوم نبعث من كل أمّة شهيداً . فالتذكير بذلك اليوم من البلاغ المبين . والمعنى : فإن تولّوا فإنما عليك البلاغ المبين ، وسنجازي يوم نبعث من كل أمّة شهيداً عليها . ذلك أن وصف شهيد يقتضي أنه شاهد على المؤمنين به وعلى الكافرين ، أي شهيد لأنه بلّغهم رسالة الله .
وبعْثُ شهيدٍ من كل أمّة يفيد أن محمداً شهيد على هؤلاء الكافرين كما سيجيء عقبه قوله تعالى : { وجئنا بك شهيداً على هؤلاء } [ سورة النساء : 41 ] ، وبذلك انتظم أمر العطف والتخلّص إلى وصف يوم الحساب وإلى التّنويه بشأنه .
وانتصب { يوم نبعث } على المفعول به للفعل المقدّر . ولك أن تجعل { يوم } منصوباً على الظرفية لعامل محذوف يدلّ عليه الكلام المذكور يقدرّ بما يسمح به المعنى ، مثل : نحاسبهم حساباً لا يستعتبون منه ، أو وقعوا فيما وقعوا من الخطب العظيم .
والذي دعا إلى هذا الحذف هو أن ما حقّه أن يكون عاملاً في الظرف وهو { لا يؤذن للذين كفروا } قد حوّل إلى جعله معطوفاً على جملة الظرف بحرف { ثمّ } الدال على التراخي الرتبي ، إذ الأصْل : ويوم نبعث من كل أمّة شهيداً لا يؤذن للذين كفروا . . . إلى آخره ، فبقي الظرف بدون متعلّق فلم يكن للسامع بُدّ من تقديره بما تذهب إليه نفسه . وذلك يفيد التهويل والتفظيع وهو من بديع الإيجاز .
والشّهيد : الشّاهد . وقد تقدم نظيره عند قوله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمّة بشهيد } في سورة النساء ( 41 ) .
و { ثم } للترتيب الرتبي ، لأن إلجامهم عن الكلام مع تعذّر الاستعتاب أشدّ هولاً من الإتيان بالشهيد عليهم . وليست { ثم } للتراخي في الزمن ، لأن عدم الإذن لهم مقارن لبعث الشّهيد عليهم . والمعنى : لا يؤذن لهم بالمجادلة عن أنفسهم ، فحذف متعلق { يؤذن } لظهوره من قوله تعالى : { ولا هم يستعتبون } .
ويجوز أن يكون نفي الإذن كناية عن الطّرد كما كان الإذن كناية عن الإكرام ، كما في حديث جرير بن عبد الله « ما استأذنتُ رسول الله منذ أسلمت إلا أذن لي » . وحينئذٍ لا يقدّر له متعلّق أو لا يؤذن لهم في الخروج من جهنّم حين يسألونه بقولهم : { ادعوا ربّكم يخفّف عنّا يوماً من العذاب } [ سورة غافر : 49 ] فهو كقوله تعالى : { فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون } [ سورة الجاثية : 35 ] .
والاستعتاب : أصله طلب العُتبى ، والعتبى : الرضى بعد الغضب ، يقال : استعتب فلان فلاناً فأعتبه ، إذا أرضاه ، قال تعالى : { وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين } [ سورة فصلت : 24 ] .
وإذا بُني للمجهول فالأصل أن يكون نائب فاعله هو المطلوبَ منه الرضى ، تقول : استُعتِب فلانٌ فلم يُعْتب . وأما ما وقع في القرآن منه مبنيّاً للمجهول فقد وقع نائب فاعله ضمير المستعتبين كما في هذه الآية ، وكما في قوله تعالى في سورة الروم ( 57 ) :
{ فيومئذٍ لا تنفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون } وفي سورة الجاثية ( 35 ) : { فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون } ففسّره الراغب فقال : الاستعتاب أن يُطلب من الإنسان أن يَطلب العُتبى اهـ .
وعليه فيقال : استُعتِبَ فلم يَسْتَعْتِب ، ويقال : على الأصل استُعتب فلان فلم يُعْتب . وهذا استعمال نشأ عن الحذف . وأصله : استعتب له ، أي طلب منه أن يستعتب ، فكثر في الاستعمال حتى قلّ استعمال استُعتِب مبنيّاً للمجهول في غير هذا المعنى .
وعطف { ولا هم يستعتبون } على { لا يؤذن للذين كفروا } وإن كان أخصّ منه ، فهو عطف خاص على عام ، للاهتمام بخصوصه للدّلالة على أنهم مأيوس من الرضى عنهم عند سائر أهل الموقف بحيث يعلمون أن لا طائل في استعتابهم ، فلذلك لا يشير أحد عليهم بأن يستعتبوا . فإن جعلتَ { لا يؤذن } كناية عن الطّرد فالمعنى : أنهم يطردون ولا يجدون من يشير عليهم بأن يستعتبوا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.