{ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } أخرى غير الأكل وغير الركوب ، كالانتفاع بألبانها وأوباؤها وجلودها . .
{ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ } أى : ومن منافعها - أيضا - أنكم تستعملونها فى الأمور الهامة كحمل الأثقال ، والانتقال عليها من مكان إلى مكان . .
كما قال - تعالى - { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } { وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ } أى : وعلى هذه الإِبل فى البر وعلى السفن فى البحر تحملون .
كما قال - تعالى - : { والذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ } هذا ، ولا مانع من أن يكون المراد بالأنعام هنا ما يشمل الإبل والبقر والغنم ، وإلى هذا المعنى ذهب الإِمام ابن كثير ، فقد قال : يقول - تعالى - ممتنا على عباده بما خلق لهم من الأنعام ! وهى : الإِبل والبقر والغنم ، فالإبل تركب وتؤكل وتحلب ، ويحمل عليها الأثقال فى الأسفار والرحال إلى البلاد النائبة ، والأقطار الشاسعة ، والبقر تؤكل ويشرب لبنها ، وتحرث عليها الأرض ، والغنم تؤكل ويشرب لبنها ، والجميع تجز أوبارها وأصوافها وأشعارها . فيتخذ منه الأثاث والثياب والأمتعة . . . "
ثم ذكر تعالى المنافع ذكراً مجملاً ، لأنها أكثر من أن تحصى .
وقوله تعالى : { ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم } يريد قطع المهامه{[10029]} الطويلة والمشاق البعيدة . و : { الفلك } السفن ، وهو هنا جمع . و : { تحملون } يريد : براً وبحراً . وكرر الحمل عليها ، وقد تقدم ذكر ركوبها لأن المعنى مختلف وفي الأمرين تغاير ، وذلك أن الركوب هو المتعارف فيما قرب واستعمل في القرى والمواطن نظير الأكل منها وسائر المنافع بها ، ثم خصص بعد ذلك السفر الأطوال وحوائج الصدور مع البعد والنوى ، وهذا هو الحمل الذي قرنه بشبيهه من أمر السفن .
اللام في { لكم } لام التعليل ، أي لأجلكم وهو امتنان مُجمل يشمل بالتأمل كل ما في الإِبل لهم من منافع وهم يعلمونها إذا تذكّروها وعدُّوها . ثم فصّل ذلك الإِجمال بعضَ التفصيل بذكر المهمّ من النعم التي في الإِبل بقوله : { لِتَرْكَبُوا منهَا } إلى { تحملون . } فاللام في { لِتَرْكَبُوا منهَا } لام كي وهي متعلقة ب { جعل } أي لركوبكم .
و ( مِنْ ) في الموضعين هنا للتبعيض وهي صفة لمحذوف يدل عليه ( من ) أي بعضاً منها ، وهو ما أعد للأسفار من الرواحل . ويتعلق حرف ( مِن ) ب { تركبوا } ، وتعلُّقُ ( مِن ) التبعيضية بالفعل تعلق ضعيف وهو الذي دعا التفتزاني إلى القول بأن ( مِن ) في مثله اسمٌ بمعنى بعضضٍ ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا باللَّه } في سورة [ البقرة : 8 ] .
وأريد بالركوب هنا الركوب للراحة من تَعب الرِّجلين في الحاجة القريبة بقرينة مقابلته بقوله : { وَلِتَبلُغُوا عَليهَا حَاجَةً في صُدُورِكُم } .
وجملة { وَمِنْها تَأكُلُونَ } في موضع الحال من { الأنعام ، } أو عطف على المعنى من جملةِ { لِتَرْكَبُوا مِنْهَا } لأنها في قوة أن يقال : تركبونَ منها ، على وجه الاستئناف لبيان الإجمال الذي في { جَعَلَ لَكُمُ الأنعام } ، وعلى الاعتبارين فهي في حيّز ما دخلت عليه لاَم كي فمعناها : ولتأكلوا منها .
وجملة { ولكم فيها منافع } عطف على جملة { وَمِنْهَا تَأكُلُونَ } ، والمعنى أيضاً على اعتبار التعليل كأنه قيل : ولتجتنوا منافعها المجعولة لكم وإنما غيّر أسلوب التعليل تفنناً في الكلام وتنشيطاً للسامع لئلا يتكرر حرف التعليل تكراراتٍ كثيرة .
والمنافع : جمع منفعة ، وهي مَفْعلة من النفع ، وهي : الشيء الذي ينتفع به ، أي يستصلح به . فالمنافع في هذه الآية أريد بها ما قابل منافع أكل لحومها في قوله : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } مثل الانتفاع بأوبارها وألبانها وأثمانها وأعواضِها في الديَات والمهور ، وكذلك الانتفاع بجلودها باتخاذها قباباً وغيرَها وبالجلوس عليها ، وكذلك الانتفاع بجَمال مرآها في العيون في المسرح والمراح ، والمنافع شاملة للركوب الذي في قوله : { لِتَركبوا مِنهَا } ، فذكر المنافع بعد { لِتَركبوا منها } تعميم بعد تخصيص كقوله تعالى : { ولي فيها مئارب أخرى } [ طه : 18 ] بعد قوله : { هي عصاي أتوكؤ عليها } [ طه : 18 ] ، فذُكر هنا الشائع المطروق عندهم ثم ذكر مثيله في الشيوع وهو الأكل منها ، ثم عاد إلى عموم المنافع ، ثم خص من المنافع الأسفار ، فإن اشتداد الحاجة إلى الأنعام فيها تجعل الانتفاع بركوبها للسفر في محل الاهتمام . ولما كانت المنافع ليست منحصرة في أجزاء الأنعام جيء في متعلقها بحرف ( في ) دون ( مِن ) لأن ( في ) للظرفية المجازية بقرينة السياق فتشمل كل ما يُعدّ كالشيء المحوي في الأنعام ، كقول سَبْرَةَ بن عَمْرو الفقعسي من شعراء الحماسة يذكر ما أخذه من الإبل في ديةِ قريبٍ :
نحابي بها أكفاءَنا ونُهينُها *** وَنَشْرَب في أثمانها ونُقامر
وأنبأ فعل { لِتَبْلغوا } أن الحاجة التي في الصدور حاجة في مكان بعيد يطلبها صاحبها . والحاجة : النية والعزيمة .
والصدور أطلق على العقول اتباعاً للمتعارف الشائع كما يطلق القلوب على العقول .
وأعقب الامتنان بالأنعام بالامتنان بالفلك لمناسبة قوله : { ولِتَبلُغُوا عَلَيها حَاجَةً في صُدُورِكُم } فقال : { وَعَلَيهَا وَعَلَى الفُلْكِ تُحمَلُونَ } ، وهو انتقال من الامتنان بجعل الأنعام ، إلى الامتنان بنعمة الركوب في الفلك في البحار والأنهار فالمقصود هو قوله : { وعَلَى الفُلْكِ تُحْمَلُونَ } . وأما قوله : { وعليها } فهو تمهيد له وهو اعتراض بالواو الاعتراضية تكريراً للمنّة ، على أنه قد يشمل حمل الأثقال على الإِبل كقوله تعالى : { وتحمل أثقالكم } [ النحل : 7 ] فيكون إسناد الحمل إلى ضمير الناس تغليباً .
ووجه الامتنان بالفلك أنه امتنان بما ركَّب الله في الإِنسان من التدبير والذكاء الذي توصل به إلى المخترعات النافعة بحسب مختلف العصور والأجيال ، كما تقدم في سورة [ البقرة : 164 ] عند قوله تعالى : { والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس } الآيات ، وبيّنا هنالك أن العرب كانوا يركبون البحر الأحمر في التجارة ويركبون الأنهار أيضاً قال النابغة يصف الفرات :
يظل من خوفه الملاح معتصماً *** بالخيزرانة بعد الأيْن والنجَد
والجمع بين السفر بالإِبل والسفر بالفلك جمع لطيف ، فإن الإِبل سفائن البر ، وقديماً سموها بذلك ، قاله الزمخشري في تفسير سورة المؤمنين .
وإنما قال : { وَعلَى الفُلْكِ } ولم يقل : وفي الفلك ، كما قال : { فإذا ركبوا في الفلك } [ العنكبوت : 65 ] لمزاوجة والمشاكلة مع { وعليها ، } وإنما أعيد حرف ( على ) في الفلك لأنها هي المقصودة بالذكر وكان ذكر { وعليها } كالتوطئة لها فجاءت على مثالها .
وتقديم المجرورات في قوله : { وَمِنْهَا تأكُلُون } وقوله : { وَعَلَيها وعَلَى الفُلْكِ } لرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بما هو المقصود في السياق . وتقديم { لكم } على { الأنعام } مع أن المفعول أشد اتصالاً بفعله من المجرور لقصد الاهتمام بالمنعَم عليهم .
وأما تقديم المجرورين في قوله : { وَلَكُمْ فِيهَا منافع } فللاهتمام بالمنعم عليهم والمنعم بها لأنه الغرض الأول من قوله : { الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.