الذي قد وافق الكتب السماوية خصوصا أكملها وأفضلها بعد القرآن وهي التوراة التي أنزلها الله على موسى { إِمَامًا وَرَحْمَةً } أي : يقتدي بها بنو إسرائيل ويهتدون بها فيحصل لهم خير الدنيا والآخرة . { وَهَذَا } القرآن { كِتَابٌ مُصَدِّقٌ } للكتب السابقة شهد بصدقها وصدَّقها بموافقته لها وجعله الله { لِسَانًا عَرَبِيًّا } ليسهل تناوله ويتيسر تذكره ، { لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا } أنفسهم بالكفر والفسوق والعصيان إن استمروا على ظلمهم بالعذاب الوبيل ويبشر المحسنين في عبادة الخالق وفي نفع المخلوقين بالثواب الجزيل في الدنيا والآخرة ويذكر الأعمال التي ينذر عنها والأعمال التي يبشر بها .
ثم بين - سبحانه - أن هذا القرآن هو المهيمن على الكتب السماوية التى سبقته فقال - تعالى - : { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً . . } .
أى : ومن قبل هذا القرآن الذى أنزلناه على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - كان كتاب موسى وهو التوراة { إِمَاماً } يهتدى به فى الدين { وَرَحْمَةً } من الله - تعالى - لمن آمن به .
وقوله : { وَمِن قَبْلِهِ } خبر مقدم ، و { كِتَابُ موسى } مبتدأ مؤخر ، وقوله : { إِمَاماً وَرَحْمَةً } حالان من { كِتَابُ موسى } .
والمقصود من هذه الجملة الكريمة ، الرد على قولهم فى القرآن { هاذآ إِفْكٌ قَدِيمٌ } فكأنه - تعالى - يقول لهم : كيف تصفون القرآن بذلك ، مع أنه قد سبقه كتاب موسى الذى تعرفونه ، والذى وافق القرآن فى الأمر بإخلاص العبادة لله - تعالى - وحده ، وفى غير ذلك من أصول الشرائع .
ثم مدح - سبحانه - هذا القرآن بقوله : { وهذا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الذين ظَلَمُواْ وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ } .
أى : وهذا القرآن الذى أنزلناه على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مصدق لكتاب موسى الذى هو إمام ورحمة ، ومصدق لغيره من الكتب السماوية السابقة وأمين عليها ، وقد أنزلناه بلسان عربى مبين ، امتنانا منا على من بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيهم وهم العرب .
وقد اقتضت حكمتنا أن نجعل من وظيفة هذا الكتاب : الإِنذار للظالمين بسوء المصير إذا ما أصروا على ظلمهم ، والبشارة للمحسنين بحسن عاقبتهم بسبب إيمانهم وإحسانهم .
فاسم الاشارة فى قوله : { وهذا } يعود للقرآن الكريم ، وقوله مصدق صفة لكتاب .
وقوله { لِّسَاناً عَرَبِيّاً } حال من الضمير فى " مصدق " الذى هو صفة للكتاب والضمير فى " لينذر " يعود إلى الكتاب ، و " الذين ظلموا " مفعوله . أى : لينذر الكتاب الذين ظلموا ، وقوله : { وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ } فى محل نصب عطفا على محل " لينذر " .
وقال - سبحانه - فى صفة هذا الكتاب { مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً } ولم يقل : مصدق لكتاب موسى ، للتنبيه على أنه مصدق لكتاب موسى ولغيره من الكتب السماوية السابقة .
والتعبير بقوله { لِّسَاناً عَرَبِيّاً } فيه تكريم للعرب ، وتذكير لهم بنعمة الله عليهم ، حيث جعل القرآن الذى هو أجمع الكتب السماوية للهدايات والخيرات بلسانهم ، وهذا يقتضى إيمانهم به ، وحصرهم على اتباع إرشاداته .
وقوله - تعالى - : { لِّيُنذِرَ الذين ظَلَمُواْ وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ } بيان لوظيفة هذا الكتاب ، وتحديد لمصير كل فريق ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من من حى عن بينه .
الضمير في قوله : { ومن قبله } للقرآن ، و : { كتاب موسى } هو التوراة . وقرأ الكلبي : «كتابَ موسى » بنصب الباء على إضمار أنزل الله أو نحو ذلك . والإمام : خيط البناء ، وكل ما يهتدي ويقتدى به فهو إمام . ونصب { إماماً } على الحال ، { ورحمة } عطف على إمام ، والإشارة بقوله : { وهذا كتاب } إلى القرآن . و : { مصدق } معناه للتوراة التي تضمنت خبره وأمر محمد ، فجاء هو مصدقاً لذلك الإخبار ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : «مصدق لما بين يديه لساناً » ، واختلف الناس في نصب قوله : { لساناً } فقالت فرقة من النحاة ، هو منصوب على الحال ، وقالت فرقة : { لساناً } توطئة مؤكدة . و : { عربياً } حال ، وقالت فرقة : { لساناً } مفعول ب { مصدق } ، والمراد على هذا القول باللسان : محمد رسول الله ولسانه ، فكان القرآن بإعجازه وأحواله البارعة يصدق الذي جاء به ، وهذا قول صحيح المعنى جيد وغيره مما قدمناه متجه .
وقرأ نافع وابن عامر وابن كثير فيما روي عنه ، وأبو جعفر والأعرج وشيبة وأبو رجاء والناس : «لتنذر » بالتاء ، أي أنت يا محمد ، ورجحها أبو حاتم ، وقرأ الباقون والأعمش «لينذر » أي القرآن و : { الذين ظلموا } هم الكفار الذين جعلوا العبادة في غير موضعها في جهة الأصنام والأوثان .
وقوله : { وبشرى } يجوز أن تكون في موضع رفع عطفاً على قوله : { مصدق } ، ويجوز أن تكون في موضع نصب ، واقعة{[10301]} موقع فعل عطفاً على { لتنذر } أي وتبشر المحسنين ، ولما عبر عن الكفار ب { الذين ظلموا } ، عبر عن المؤمنين ب «المحسنين » لتناسب لفظ الإحسان في مقابلة الظلم . ثم أخبر تعالى عن حسن حال المسلمين المستقيمين ورفع الظلم .
أتبع إبطال ترّهاتهِمْ الطاعنة في القرآن بهذا الكلام المفيد زيادة الإبطال لمزاعمهم بالتذكير بنظير القرآن ومثيل له من كتب الله تعالى هو مشهور عندهم وهو « التوراة » مع التنويه بالقرآن ومزيته والنعي عليهم إذ حرموا أنفسهم الانتفاع بها ، فعطفت هذه الآية على التي قبلها لارتباطها بها في إبطال مزاعمهم وفي أنها ناظرة إلى قوله : { وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله } [ الأحقاف : 10 ] كما تقدم .
ففي قوله : { ومن قبله كتاب موسى } إبطال لإحالتهم أن يُوحي الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم بأن الوحي سُنّة إلهاية سابقة معلومة أشهره « كتاب موسى » ، أي « التوراة » وهم قد بلغتهم نبوءته من اليهود . وضمير { من قبله } عائد إلى القرآن . وتقديم { من قبله } للاهتمام بهذا الخبر لأنه محل القصد من الجملة .
وعبر عن « التّوراة » ب { كتاب موسى } بطريق الإضافة دون الاسم العلم وهو « التوراة » لما تؤذن به الإضافة إلى اسم موسى من التذكير بأنه كتاب أنزل على بشر كما أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم تلميحاً إلى مثار نتيجة قياس القرآن على « كتاب موسى » بالمشابهة في جميع الأحوال .
و { إماماً ورحمة } حالان من { كتاب موسى } ، ويجوز كونهما حالين من { موسى } والمعنيان متلازمان .
والإمام : حقيقته الشيء الذي يجعله العامل مقياساً لعمل شيء آخر ويطلق إطلاقاً شائعاً على القدوة قال تعالى : { واجعلنا للمتقين إماماً } [ الفرقان : 74 ] . وأصل هذا الإطلاق استعارة صارت بمنزلة الحقيقة ، واستعير الإمام لكتاب موسى لأنه يرشد إلى ما يجب عمله فهو كمن يرشد ويعظ ، وموسى إمام أيضاً بمعنى القدوة .
والرحمة : اسم مصدر لِصفة الراحم وهي من صفات الإنسان فهي ، رقة في النفس تبعث على سَوق الخير لمن تتعدى إليه . ووصف الكتاب بها استعارة لكونه سبباً في نفع المتبعين لما تضمنه من أسباب الخير في الدنيا والآخرة .
ووصف الكتاب بالمصدر مبالغة في الاستعارة ، وموسى أيضاً رحمة لرسالته كما وصف محمد صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] .
وقوله : { وهذا كتاب مصدق } الخ هو المقيس على { كتاب موسى } . والإشارة إلى القرآن لأنه حَاضر بالذِكر فهو كالحاضر بالذات .
والمصدِّق : المخبر بصدق غيره . وحذف مفعول المصدِّق ليشمل جميع الكتب السماوية ، قال تعالى : { مصدقا لما بين يديه } ، أي مخبر بأحقيّة كل المقاصد التي جاءت بها الكتب السماوية السالفة . وهذا ثناء عظيم على القرآن بأنه احتوى على كل ما في الكتب السماوية وجاء مغنياً عنها ومبيناً لما فيها . والتصديق يشعر بأنه حاكم على ما اختُلف فيه منها . وما حُرّف فهمه بها قال تعالى : { مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } [ المائدة : 48 ] .
وزاده ثناء بكونه { لساناً عربياً } ، أي لغة عربيّة فإنها أفصح اللغات وأنفذها في نفوس السامعين وأحب اللغات للناس ، فإنها أشرف وأبلغ وأفصح من اللغة التي جاء بها كتاب موسى ، ومن اللغة التي تكلّم بها عيسى ودوّنها أتباعُه أصحاب الأناجيل .
وأدمج لفظ { لسانا } للدلالة على أن المراد بعربيته عربية ألفاظه لا عربيّة أخلاقه وتعاليمه لأن أخلاق العرب يومئذٍ مختلطة من محاسن ومساو فلما جاء الإسلام نفَى عنها المساوي ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم « إنما بعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق » وغلب إطلاق اللسان على اللغة لأن أشرف ما يستعمل فيه اللسان هو الكلام قال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } [ إبراهيم : 4 ] ، وقال : { فإنما يسرناه بلسانك } [ مريم : 97 ] .
وقوله : { لتنذر الذين ظلموا } يجوز أن يتعلق ب { مصدقا لما بين يديه } لأن ما سبقه مشتمل على الإنذار والبشارة والأحسن أن يتعلق بما في { كتاب } من معنى الإرشاد المشتمل على الإنذار والبشارة . وهذا أحسن ليكون { لتنذر } علة للكتاب باعتبار صفته وحاله .
والذين ظلموا هم المشركون { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] ويلحق بهم الذين ظلموا أنفسهم من المؤمنين ولذلك قوبل بالمحسنين وهم المؤمنون الأتقياء لأن المراد ظلم النفس ويقابله الإحسان . والنّذارة مراتب والبشارة مثلها .
و { بشرى } عطف على { مصدق } ، والتقدير : وهو بشرى للمحسنين ، أي الكتاب ، وهذا النظم يجعل الجملة بمنزلة الاحتراس والتتميم .
وقرأ نافع وابن عامر والبزّي عن ابن كثير ويعقوبُ { لتنذر } بالمثناة الفوقية خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم فيحصل وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه منذر ووصفُ كتابه بأنه { بشرى } وفيه احتباك . وقرأه الجمهور بالمثناة التحتية على أنه خبر عن الكتاب فإسناد الإنذار إلى الكتاب مجاز عقلي .